1
ⵌ1
اليوم مر اليوم التاسع والأربعون على وفاة زوجي.
حدقت جوديث إلى جثمان زوجها وكأنه ما زال ينبض بالحياة.
حاولت كل شيء لإيقاف الزمن – إبقاء الجسد دافئًا، ترطيبه، واستخدام شتى الوسائل الأخرى –
إلا أن الجسد لم يُظهر أي علامات تحلل، ولا حتى بمرور الوقت.
“أسمع نواح روح مقيدة في سجن جسدها”
الكاهن الروحي التي بحثت عنه جوديث بجهد شديد عبر أحد معارف زوجها، بدا وكأنه بين الدجل والاحتيال.
لم يكن يبدو جديرا بالثقة ،ولكن…
“إيرن، سأخرجك من هنا.
هل تسمعني؟”
طالما أن من دفع النقود كان راضيًا، فقد قررت جوديث مجاراة الأمر.
“سنبدأ الآن الطقوس لتحرير جسد اللورد إيرن وتوجيه روحه إلى المكان الذي تنتمي إليه”
بينما كانت جوديث تستمع لتفسير الكاهن، كانت عيناها تمسحان جسد إيرن.
كان ممددًا دون وجود قطعة ملابسه تغطي جسده العاري على مذبح أعد على عجل، ويبدو وكأنه في سبات عميق.
“سيدتي، تفضلي بالاقتراب”
ترددت جوديث قليلاً.
من الذي قد يقترب من جثة لم تتحلل ولم تُغطى حتى بملابس الدفن؟
كان من الأفضل لو كانت مغطاة بشيء.
وما زاد الوضع سوءًا أن المكان الذي دعاها الكاهن للوقوف فيه كان بالقرب من الجزء السفلي من جسد إيرن.
“أسرعي يا سيدتي.
إيرن يبكي من داخله.
ألا تسمعين صرخاته اليائسة؟”
وكأن الكاهن كان يسمع شيئًا هي الأخرى.
نظرت جوديث إلى صديق زوجها الباكي واتخذت خطوة كبيرة نحو الأمام.
كل ما أرادته هو التخلص من هذا الجسد المريب بأسرع وقت ممكن.
السبب الوحيد الذي جعلها توافق على هذه الطقوس السخيفة هو رغبتها في التخلص من الجثة، سواء بالدفن أو الحرق، لم يكن يهمها!
الناس باتوا يطلقون على منزلهم لقب “المنزل الملعون”، وقيمته السوقية انخفضت إلى النصف.
وإذا سرت شائعات حول وجود جثة غريبة في المنزل، قد تتراجع قيمته أكثر.
يا له من كابوس.
“الأشياء التي يجب أن تغادر، ستغادر.
ولن يبقى اثر منها “
أشار الكاهن، فمد صديق زوجها يده، وجرح طرف إصبعه بنصل حاد، لينزل قطرة دم على جبين إيرن.
في تلك اللحظة، اهتزت رموش إيرن الطويلة قليلًا،
لكن لا الكاهنة ولا صديق زوجها لاحظا ذلك.
هل تخيلت الأمر؟
إنه جسد ميت في النهاية.
لا يمكن للرموش أن تتحرك.
“سيدتي، مدّي يدك الآن.
يجب أن تنزل قطرة الدم بدقة على ‘جذر’ اللورد إيرن”
كان “الجذر” هو أول بوابة من بين ثلاث بوابات في الجسد، المكان الذي تبدأ فيه الحياة.
بعبارة أخرى، كان ذلك في منتصف المنطقة الأكثر حميمية في جسد إيرن.
ترددت جوديث للحظة، لكن من أجل المنزل وقيمته، لم يكن أمامها خيار آخر.
“من يجب أن يرحل، سيرحل بالتأكيد.
فهذا ليس مكانهم.
إذا لم يغادروا، فسيعانون”
التفت الكاهن نحو جوديث، وهي تتوقع الألم، مدت يدها.
واخترق ألم حاد إصبعها.
إذا كانت بضع قطرات دم ستنهي هذا الكابوس، فليكن.
عضت جوديث شفتها وهي تقرب يدها الدامية نحو جسد زوجها.
وبمجرد أن سقطت القطرات على بشرته،
“…؟”
تشنجت عضلات فخذ إيرن القوية، مما جعل جوديث تشعر برعب مفاجئ.
هذه المرة، كانت متأكدة من أنها لم تتوهم.
بينما كانت تتراجع بغريزة، خرجت يد وأمسكت بمعصمها.
“…ما الذي فعلتموه بي؟”
صوت عميق، لم يُسمع منذ زمن طويل، اخترق الصمت.
“ماذا فعلتم بجسدي؟”
عيناه العميقتان، كما لو كانتا غابة خضراء كثيفة، مسحتا جسده العاري ثم نظرتا إلى جوديث.
وببطء عبست ملامحه.
صوته المليء بالارتباك حطم السكون المتجمد.
“هل كنا في خضم… ذلك؟”
تجمدت جوديث في مكانها وسقطت على الأرض، وما زالت يده تمسك بمعصمها.
عاد زوجها الميت إلى الحياة.
وكما في رواية للبالغين، حدث أسوأ سوء فهم ممكن حول الموقف.
***
قبل تسعة وأربعين يومًا.
جوديث هارينغتون، الابنة الشابة لعائلة بارون متدهورة، سُحبت إلى معبد بائس على يد شقيقها ليون هارينغتون – بل سحبها من شعرها.
خائفة من عنف شقيقها، وُضعت جوديث أمام ممر الزفاف دون توضيحات تذكر.
العريس كان إيرن راينلاند، الابن غير الشرعي والعضو الأخير لعائلة راينلاند.
بزواجها منه، كانت ستصبح كونتيسة راينلاند.
بمجرد تقديم الشرح، وُضع حجاب فوق رأسها، ودُفعت في يدها باقة أزهار لا داعي لها.
دارت الدنيا بها وشعرت بالغثيان.
دُفعت جوديث للأمام.
كان ممر الزفاف قصيرًا، والرجل الذي كان من المفترض أن يكون زوجها كان منحنياً على كرسيه.
هل هو حتى على قيد الحياة؟
نظرت جوديث نحوه بسرعة.
حتى في هذا الوضع الغريب، لم تستطع إلا أن تعجب بجماله.
لمحة قصيرة جعلتها تنسى الواقع وخوفها، وتركز فقط على إعجابها بذلك الرجل.
استمر الحفل، والمأذون هو الوحيد الذي كان يتحدث – لا العروس، ولا العريس، ولا أحد آخر رد.
على الرغم من أن الزفاف جرى ترتيبه على عجل، بدا أنهم أرادوا أن يختتموا المناسبة بلحظة رمزية، إذ طلب المأذون قبلة العهود.
كانت جوديث ترتجف من الرعب وهي تنحني ببطء نحو زوجها، حيث غمرها عرق بارد تسلل عبر ظهرها وشعرت بانقباض في صدرها.
عندما اقتربت بوجه شاحب كالشبح لتطبع قبلة على شفتي زوجها، انحنى عنقه فجأة بشكل مفاجئ.
“!…”
شهقت جوديث بشكل غير إرادي، ولم تكن تدرك ما إذا كان الصوت الذي أطلقته نتيجة الرعب أو الدهشة، ثم انهارت على الأرض.
تلك كانت آخر ذكرى تحملها جوديث هارينغتون.
“…إذاً، هذا ما حدث”
تمتمت الروح التي تلبست جسد جوديث، والتي كانت تُدعى يوجين، بصوت مثقل بالألم بينما كان الألم ينبعث من فروة رأسها.
كانت ذكريات حياة جوديث تفيض في عقلها كالموج الجارف، مسببة صداعاً شديداً.
من خلال الذكريات التي استجمعتها، تمكنت يوجين من فهم أن جوديث كانت تحاول الهرب عندما أمسك شقيقها بشعرها بقسوة شديدة، مما تسبب في ألم مستمر.
أما ذراعها، فقد كان لا يزال يؤلمها من شدة القبضة التي تعرضت لها، وكاحلها الملتوي يذكرها بآلام السحب العنيف.
“يا لهذا المصير البائس”
في حياتها السابقة، ماتت نتيجة حادث شاحنة، والآن ها هي تعود للحياة مجددًا في وضعٍ مأساوي آخر.
كانت أفكارها تتقلب بين ما تركته وراءها في حياتها الماضية.
كل ما كافحت لتحقيقه؛ الشقة الصغيرة التي امتلكتها رغم رهنها، ومدخراتها المتواضعة، وودائعها.
وعندما تذكرت اللحم الذي اشترته للاحتفال ولم تُسعفها الحياة لتتناوله، اغرورقت عيناها بالدموع.
كانت تظن أنها أفلتت من حياة مثقلة بالديون لتسلك طريقًا من الرفاهية، لكنها بدلاً من ذلك وجدت نفسها على درب الموت.
“وكان اسم زوجي إيرن راينلاند، أليس كذلك؟”
بالفعل، لقد ذكر المأذون ذلك الاسم بوضوح.
لم يكن من الغريب أن بدا الاسم مألوفاً؛ إذ تبين أن يوجين بعثت في عالم رواية بعنوان
“كما هو في الأعلى، كذلك هو في الأسفل”.
كان هذا الكتاب الوحيد الذي اقتنته وقرأته بالكامل في حياتها، ولهذا كان من السهل الربط بين الأمور.
وبين كل الشخصيات، انتهى بها المطاف في جسد امرأة من عائلة منسية، لم يكن لها أي تأثير في القصة الأصلية.
بدا الأمر وكأنه عقوبة غريبة.
“لا، هذا محض صدفة”
أرادت بشدة أن تصدق أن الأمر لا يعدو كونه صدفة عابرة.
لم تكن حياتها السابقة مثالية، ولكن من يعيش حياة بلا أخطاء؟
علاوة على ذلك، شعرت أن حادث الشاحنة الذي أنهى حياتها قد سدد كل ديونها الكارمية.
“سيدتي، هل أنتم بخير؟”
أتى صوت عميق من خلف الباب.
ردت يوجين، التي أصبحت الآن الكونتيسة جوديث راينلاند، بصوت واهن.
“نعم”
سرعان ما فُتح الباب، ودخل رجل في منتصف العمر ذو شعر مائل إلى الشيب.
“حان الوقت لحضور الجنازة”
وضع بيديه ملابس الحداد التي أحضرها بعناية، ثم خرج من الغرفة دون أن يضيف شيئًا.
بدأت جوديث ترتدي تلك الملابس ببطء.
رغم الفوضى التي غمرت عقلها، أدركت أنها لا تستطيع البقاء في تلك الغرفة الصغيرة.
لذا، حضرت جنازة كانت أقرب إلى مشهد بسيط بلا حاضرين يُذكر.
—
رغم أن حضور الكونتيسة لجنازة الكونت كان أمراً غريباً في حد ذاته، إلا أن الأمر بدا وكأنه دعوة رسمية.
كل شيء كان جاهزاً مسبقاً.
كل ما كان على جوديث فعله هو وضع الأزهار على تابوت قد دُفن بالفعل في الأرض.
‘يا له من أمر مثير للشك’
يبدو أن الترتيبات قد أُعدت سلفًا.
فكيف تمت الجنازة بهذه السرعة؟
إيرن فارق الحياة في وقت متأخر من بعد ظهر الأمس، والآن كان الفجر.
ربما حُفر القبر في ضوء الصباح الباكر.
لكن ماذا عن شاهد القبر؟
لا توجد تقنيات حديثة مثل النقش بالليزر في هذا العالم، فكيف تمكنوا من نقش شعار العائلة بتلك الدقة خلال هذا الوقت القصير؟
الأمر يثير الريبة.
‘شعار العائلة، الاسم، تاريخ الميلاد – لابد أنهم نقشوا كل شيء مسبقًا، تاركين تاريخ الوفاة ليضاف لاحقاً.
يا له من أمر غريب للغاية’
كان إيرن، زوج جوديث، شخصية مهمة في القصة الأصلية، على عكس جوديث التي لم تُذكر قط.
لقد كان فارسًا بارزًا وبطل حرب، بدأ في صفوف الأعداء لكنه انحاز لاحقًا إلى جانب البطل ونجا حتى النهاية.
‘يبدو أن هذه الأحداث وقعت بعد نهاية القصة الأصلية’
لكن، متى أصبح إيرن كونت راينلاند؟
فقد كان من المفترض أنه الابن غير الشرعي للكونت.
“سيدتي، لقد تقابلنا بالأمس – هل تتذكرينني؟
أنا كليف آكرمان”
ظهر فجأة شخص ليوضح لجوديث بعض الغموض.
إنه كليف آكرمان، محامي عائلة راينلاند.
“سأرافقك إلى مكان إقامتك الجديد، سيدتي.
وسأشرح لك تفاصيل الميراث في الطريق”
“ما الذي تقصده بقولك ميراث؟”
“نعم.
ألم يخبرك ليون بذلك؟”
حسنًا، لقد قال لها، لكن بأسلوب مليء بالتهديدات أكثر من كونه شرحًا.
مثل قوله
“إذا لم تفعلي ما أقول، سأقتلك” أو “سأحلق رأسك”.
سبق أن تعرضت جوديث للعنف على يد ليون، بما في ذلك كسر ساقها، لذا كانت مطيعة له وخضعت للزفاف الغامض.
“انتهى نسب عائلة راينلاند بوفاة إيرن.
أنت الآن الوريثة الوحيدة لاسم راينلاند”
“ماذا؟”
تابع كليف شرحه بلباقة وهو يراقب دهشة جوديث.
“كان إيرن ابنًا غير شرعي، ولكن بوفاة جميع أفراد العائلة، أصبح هو الوريث الرئيسي”
ثم توقف كليف ليؤكد أن إيرن قد توفي أيضًا.
“الآن، أنت الوريثة الوحيدة.
ستؤول إليك جميع ممتلكات عائلة راينلاند، وستصبحين الكونتيسة والقائدة الفعلية للعائلة”
وهذا يعني أن القصر، واللقب، وكل الممتلكات والأصول أصبحت الآن ملكًا لجوديث.
ماذا؟ هل سقطت ثروة من السماء؟
القصر يعد عقارًا، أليس كذلك؟
هل هذا يعني أنني حصلت على عقار مجانًا؟
كانت جوديث مذهولة أكثر من أن تكون سعيدة.
فبحسب معرفتها، لا شيء في هذا العالم يأتي مجانًا، وهذا الزواج بدا غامضاً للغاية.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ2
“الآن، سيدتي، أصبحتِ وريثة أسرة راينلاند،
وآلَ إليكِ كل ما يمت بصلة
إلى بيت راينلاند”
لقب الكونتيسة، ذلك القصر البديع ذو التاريخ المجيد…
وأيضًا، الديون الطائلة التي خلفها كونت راينلاند.
ديون تصل إلى… 200 مليون قطعة ذهبية.
في الحقيقة، كنتُ أتوقع هذا المصير، أو على الأقل شعرتُ بشيء غير طبيعي.
فمنذ أن فرَّ “كليف”، تاركًا لي أوراق الميراث وبعض الأموال العاجلة، بدأتُ أشعر بشيء غير مريح.
في الواقع، بدأتُ أشعر بعدم الارتياح منذ اللحظة التي سلموا فيها كل شيء إلى رجل كان يحتضر، وأجبروني على الزواج منه.
“أظن أنني أستطيع استنتاج ما حدث”
سمعتُ من كليفأن الزواج كان…
“أعتذر عن الطريقة غير اللائقة التي جرى بها زواج السيدة، إذ كان لزامًا علينا التعجيل بالأمر خوفًا من انقراض سلالة عائلة راينلاند”
رغم أن هذه كانت الحجة المعلنة، إلا أن الحقيقة كانت مغايرة تمامًا.
بدلًا من القلق حول انتقال ديون الكونت إليهم،
كانوا هم الذين يشعرون بالقلق.
“لكن من السذاجة أن يتم اختيار امرأة عادية
لتكون عروسًا لإيرن”
كانوا في حاجة إلى نبيلة فقيرة.
وبعد بحث طويل، اكتشفوا أن البارون هارينغتون كان غارقًا في ديون القمار ولديه أخت صغيرة في سن الزواج.
“تم بيعي لسداد ديون القمار، والآن عليَّ تسديد ديون عائلة راينلاند”
عندما يتعلق الأمر بالديون، فأنا على دراية بها جيدًا.
كم مرة حاولت الهروب من عبء الديون في حياتي السابقة؟
ديون أبي الذي فشل في تجارته، ديون أمي التي اقترضت المال وأعطته لجماعة دينية،
ديون، ديون، ديون!
لكن عندما متُّ وتناسختُ في جسد جديد، وجدت نفسي هذه المرة غارقة في ديون قمار أخي.
“ديون الزوج؟ ديون أهل الزوج؟”
في الحقيقة، لم تكن الديون ديون “إيرن” نفسه، بل ديون عائلة راينلاند.
لذا من الأدق القول إنها ديون أهل زوج هذا الجسد.
ولكن هل يهم حقيقة لمن تعود هذه الديون؟
ما يهم هو أنها أصبحت الآن ديوني.
من اللحظة التي رأيت فيها قروض الميراث، حاولت الهروب، لكن، بطريقة ما، علم المرابون بالأمر وأتوا فورًا.
“أوه، تهانينا على زواجكِ، سيدتي.
حان الوقت لاستلام الـ 200 مليون قطعة ذهبية التي أقرضناها”
كان هذا “سميث”، المرابي.
بمجرد أن رأيت وجهه، أدركت كم هو جشع.
“المهلة هي نهاية هذا الشهر.
إذا كنت تجدين صعوبة في دفع أصل الدين، يمكنك دفع الفوائد المتأخرة”
“عذرًا، سيد سميث… ان هذا لشيء مستحيل.
من أين لي أن أحصل على فوائد عاجلة؟
فقط امنحني مزيدًا من الوقت”
“يا سيدتي، كنتُ متساهلًا للغاية.
آمل أن تستمتعي بشهر عسل لا يُنسى،
رغم أن زوجكِ قد رحل”
حتى مع تلك النكات السخيفة، كان سميثورجاله يضحكون بصوت عالٍ.
“سيدتي، هل تعلمين أنه حتى لو عصرتِ خرقة جافة، سيخرج منها ماء؟”
كيف يمكن إخراج ماء من خرقة جافة؟
سأريكِ.
قام بحركة تعصر الخرقة في الهواء، وكشفت أسنانه الصفراء تحت شفتيه السميكتين عن جشعه المتوهج.
“إذا لم تُحضري المال هذا الشهر، فسوف تضطرين إلى دفعه بجسدك.
أعتقد أنكِ تفهمين ما أعنيه دون الحاجة لشرح إضافي”
دفع الدين بجسدي؟ أدركت أنه يخطط لبيعي.
التهديدات المرابية كانت متماثلة في حياتي السابقة وهذه الحياة.
وبعد تفكير قصير، غمرني الغضب.
200 مليون ذهب؟ قطعة فضية واحدة هنا تكفي لنفقات أسبوع.
لكنه ليس 200 مليون فضة، بل ذهب؟
بدأت أخطط.
“حسنًا، فلنُبِع القصر”
لحسن الحظ، لم يكن الوضع سيئًا تمامًا.
على الأقل القصر كان لا يزال موجودًا.
عندما تم تسوية الديون بعد وفاة الكونت، لم يتم الاستيلاء على القصر.
في الواقع، وجدت ذلك غريبًا بعض الشيء.
هل تركه أولئك الذين نظموا الزواج ليبدو الأمر رائعًا؟
لم يهم.
أصبح ملكي الآن، ولم أكن أهتم بالمظاهر.
كل ما كنت أريده هو سداد الديون والعيش حياة طبيعية.
حياة لا أفقد فيها كل شيء بسبب خطأ واحد، حياة أمتلك فيها مكانًا أعود إليه بعد يوم متعب.
حياة عادية، لكنها كانت بعيدة المنال.
“بالطبع، سيكون أفضل إذا كسبت الكثير من المال وعشت حياة مترفة”
بما أنني أملك لقب الكونتيسة، يمكنني أن أعيش حياة فاخرة في مكان ما إذا توفرت لي الأموال.
تشجعت وأنا أتخيل ذلك المستقبل البعيد.
نعم، الدين الذي سُدد مرة، لا يُسدد مرتين.
“إذن، دعونا نحاول دفع الدين أولًا”
لحسن الحظ، كان قصر راينلاند في حالة ممتازة.
كان منزلًا بديعًا، ساحرًا، خاليًا من أي ساكن.
لكنه بدا نظيفًا وكأن أحدًا قد اعتنى به مؤخرًا.
لم تكن هناك أعشاب في الحديقة، ولا شبكات عنكبوت، ولا غبار على حواف النوافذ.
بدا وكأن أحدًا قد اهتم به قبل أيام قليلة.
المنزل الذي يُعتنى به جيدًا يساوي الكثير.
توجهت إلى وكيل عقارات، متوقعة أن أجد سعرًا مرتفعًا.
لكن الواقع كان مختلفًا.
—
“عذرًا، سيدتي، لكن لا أحد يرغب في شراء هذا القصر”
“ماذا؟ لماذا؟”
“بسبب الشائعات.
ألا تعرفين الشائعات، سيدتي؟
تقول الشائعات إن القصر يلتهم الناس”
“ماذا؟”
“أنتِ لا تعرفين حقًا؟ إذن، يبدو أنكِ قد ورثتِ قصرًا ملعونًا”
تمتم وكيل العقارات بكلمات غامضة وبدأ يسرد لي الحكايات عن قصر راينلاند.
كانت عائلة راينلاند في الأصل أسرة عادية فقدت أراضيها منذ زمن بعيد ولم تدخل في السياسة المركزية.
ولكن ذات يوم، أصبح الكونت راينلاند فجأة ثريًا.
لكن الفرح لم يدم طويلًا، فقد بدأت الكوارث تضرب العائلة.
بدأ الناس يموتون.
كانت الوفيات الغريبة محصورة في عائلة الكونت.
من الكونت إلى الكونتيسة التي عادت بعد طلاقها، وحتى ابنها، جميعهم ماتوا واحدًا تلو الآخر.
“الخدم في قصر الكونت قالوا إنهم جميعًا ماتوا وقد امتصت دماؤهم، وجفت أجسادهم واشتدت.
قالوا إن هناك علامات على أجسادهم تشبه لدغات الحشرات.
وكان هناك أكثر من شاهد لهذه الحادثة”
“إذن، القصر الملعون كان يلتهم أفراد عائلة راينلاند”
“يشتهر القصر بكونه يأكل الناس، ولهذا حتى وإن تم عرضه للبيع، لن يجرؤ أحد على شرائه”
كان كل من يعرف القصر على دراية بتلك الإشاعات، فقد انتشرت بين الناس حكايات عن مشاهد غريبة تزعم أن القصر الملعون يتغذى على أفراد عائلة راينلاند.
لكن ذلك لم يكن يعني شيئًا بالنسبة لجوديث الأصلية، التي كانت في حالة يأس عميق لتوفير قوت يومها.
“أليس هناك من لا يصدق تلك الإشاعات؟
إذا عرضناه بسعر أقل من قيمته، قد يجد أحدهم ما يدفعه لشراءه”
“ربما”
بدت على وجه الكاهن علامات الحيرة.
جربت التوجه إلى سماسرة آخرين، لكنهم جميعًا أعادوا علي نفس الكلام.
“إذن، يبدو أن هذا قدري”
وهكذا، بقي القصر مهجورًا.
لم يتمكن أحد من بيعه، ولم يجرؤ أي من المرابين على اقتنائه.
عدتُ وأنا أسير بخطىً متثاقلة
أردد في ذهني الكلمات التي قالها لي الكاهن الأخير.
“ليست الإشاعات وحدها ما يمنع بيع القصر”
“حقًا؟”
“ألا تعلمين؟ ذلك القصر مسكون حقًا”
ظلت كلمات الكاهن تتردد في ذهني.
لم يكن مجرد بيت مهجور؛ كان بيتًا مسكونًا.
يمكن للمرء أن يميز ذلك بمجرد النظر إليه.
“ما الفرق بين البيت المهجور والبيت المسكون؟”
“البيت المهجور هو مجرد مكان تركه الناس.
يكون متسخًا، مليئًا بالفئران، وهذا يمكن معالجته بسهولة.
أما البيت المسكون…”
أخبرني الكاهن أن القصر ظل خاليًا لسنوات طويلة، ومع ذلك كان يبدو نظيفًا كأن أحدهم سكنه حتى الأمس.
تمامًا مثل قصر عائلة راينلاند، بلا شبكة عنكبوت واحدة.
“لا يمكن.
ربما كان المدير يزور القصر لتنظيفه”
“أنتِ فعلاً لا تملكين أدنى فكرة عن أي شيء، يا سيدتي.
هذا القصر لم يدخله أحد منذ ما يقارب العامين”
أيمكن أن يكون المحامي قد خاف من دخوله تجنبًا للعنات؟ لكن، هل اللعنة حقيقية بالفعل؟
“لكن إيرن مات في صحة جيدة”
جسده كان سليمًا، بلا أي علامات لدغات حشرات.
ومع ذلك، في هذا العالم الغريب الذي تحكمه السحر واللعنات، لم تكن هناك قصص عن الأشباح.
كان الأمر أشبه بقصر يلتهم البشر.
إذا كان ذلك صحيحًا، فلماذا لم يمت الخدم؟
إذا كان القصر يستهدف الدماء، فلماذا تجاهلهم؟
بدا أن اللعنة كانت تستهدف أفراد عائلة راينلاند فقط.
“إذا كان الخدم يعيشون بسلام، ومات أفراد العائلة فقط، فهذا يشير إلى أن اللعنة كانت موجهة ضد العائلة”
“هل تظنين أن الثراء المفاجئ يمكن أن يأتي دون تبعات؟”
عندما يحصل الناس على ثروة ضخمة فجأة، فإن الحسد والغيرة غالبًا ما يلاحقهم.
ربما كانت اللعنة نتيجة لذلك.
ومع ذلك، لم أكن مقتنعة تمامًا بفكرة أن القصر نفسه كان “يلتهم الناس”.
كان يبدو لي الأمر أكثر منطقية أن اللعنة كانت تستهدف العائلة نفسها.
ومع ذلك، لم أستطع إنكار أن رؤية القصر بهذه النظافة التامة، على الرغم من مرور عامين على خلوه، جعلني أشعر بالقشعريرة.
ومع ذلك، لم أستطع التراجع.
“هناك أسباب أكثر تدفعني لعدم تصديق الشائعة، مقارنة بتصديقها”
صحيح أنني لم أفكر في الأمر من زاوية المنطق فقط؛ كنت أيضًا أفكر في المال.
بيع القصر بسعره الحقيقي سيمنحني 400 مليون قطعة ذهبية بسهولة، وهو مبلغ كفيل بتغيير حياتي تمامًا.
هذا المبلغ لم يكن كافيًا فقط لسداد الديون، بل كان أيضًا فرصة لبداية جديدة ومريحة.
“هذه حقيقة.
في أي زمان ومكان، يعتبر الاستثمار في العقارات مربحًا دائمًا”
لكن مع ذلك، لم يكن لدي رفاهية التخلي عن القصر أو حتى الشكوى.
لم يكن لي سواه هذا القصر وهذا اللقب.
الحياة خارجه كانت أكثر رعبًا من فكرة القصر الملعون، وتهديدات المرابي كانت تفوق أي خوف من منزل مسكون.
“سأصمد!
إذا صبرت لعام واحد فقط،
ستزول هذه الإشاعات”
إذا استطعت العيش في القصر لمدة عام دون أن يصيبني مكروه، ستختفي الحكايات المرعبة، وستعود قيمة القصر إلى طبيعتها.
لكن حتى في تلك الفترة، كنت بحاجة إلى دفع فوائد الديون.
المشكلة الكبرى الآن كانت:
كيف سأتمكن من تدبير تلك الأموال؟
مشت خطواتي بين أروقة القصر الفارغة، والأجواء الكئيبة التي كانت تهيمن على المكان.
حديقة القصر كانت صامتة بشكل غريب، بلا أصوات حشرات أو طيور، فقط الصمت.
وجدت نفسي غارقة في التفكير.
—
بعد بضعة أيام، توجهت إلى المرابي، وقفت أمامه بوجه هادئ، ثم نطقت بثقة:
“أريدك أن تقرضني مزيدًا من المال”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ3
بهدوءٍ جليّ، جلست جوديث أمام المرابي سميث، تطلب منه إقراضها المال.
رفع سميث حاجبيه باندهاش، وعيناه الداكنتان تشعّان بجشعٍ وهو يحدّق في وجهها.
“هل فقدتِ صوابكِ تمامًا، سيدتي الكونتيسة؟
جئتِ هنا ليس لتسديد ديونك، بل لتطلبي المزيد من المال؟”
أجابت جوديث ببرودٍ صارم:
“لا أظن أنك تفهم.
أليس من الوقاحة أن تطالبني بتسديد الفوائد، ثم ترفض إقراضي المال؟”
كانت جوديث تدرك تمامًا أن هذه الخطوة لم تكن رغبةً، بل ضرورة قسرية فرضها شحّ مواردها.
لقد طُردت من أبواب الجميع بمجرد سماعهم أنها مدينة للمرابي سميث، ما أثبت لها سمعته الشيطانية كأبغض الرجال في المدينة.
“أنا بالفعل مدينة لك بمئتي مليون ذهبية،
فما الضرر إن أضفت قليلاً إلى ذلك؟”
قهقه سميث بسخريةٍ لاذعة:
“يا سيدتي، يبدو أن ضميركِ قد ترككِ عند باب منزلك”
ردّت جوديث بثباتٍ يُخفي تحت مظهره تصميمًا صارمًا:
“ما أفعله الآن هو لضمان سداد الدين.
فكّر بالأمر: إذا قررت بيع ديني الآن، هل ستحصل على مئتي مليون ذهبية؟
بالطبع لا.
لكن إذا منحتني القرض للاستثمار، فسأعيد المال مع الفوائد.
ألا يبدو ذلك منطقياً؟”
تملّك الذهول سميث.
لم يكن هناك أحد يجرؤ على الحديث معه بمثل هذه الطريقة، خاصة من كان مدينًا له بمبالغ طائلة.
ومع ذلك، شعر بإعجابٍ غريب بشجاعتها، رغم أنه اعتبرها وقاحةً لا حدود لها.
“لكن دون ضمانات، لن أوافق”
اقترحت جوديثفورًا:
“يمكنني رهن القصر”
ضحك سميث بخبثٍ وسخرية:
“لا تُمازحيني! قصر مثل هذا لن يغطي حتى جزءًا بسيطًا من الدين”
أطلقت جوديث زفرةً متوترة، لكنها لم تخفِ خيبة أملها، ثم قالت بتصميمٍ جريء:
“إذاً، يمكنني رهن لقبي”
ارتسمت على شفتي سميث ابتسامة متهكمة:
“لقبك؟ وماذا سأفعل بلقب نبيل؟”
بثقةٍ مطلقة، أجابت:
“يمكنك توريثه لأحد أبنائك، إذا كنت تمتلك وريثاً. أو… يمكنني تبنّيك كجزءٍ من عائلة راينلاند”
بدت الفكرة جريئة لدرجة أذهلت سميث.
نظر إليها وكأنه يرى مخلوقًا غريبًا.
ولكنها واصلت بابتسامة دافئة بدت أشبه بابتسامة
أم حنونة:
“أليس هذا عرضًا منصفًا؟ مئتا مليون ذهبية مقابل لقب نبيل؟”
بعد لحظةٍ من الصمت والتفكير، انحنى سميث للإغراء.
أُحضرت الوثائق، ووقّعت جوديث بحزمٍ دون أدنى تردد.
—
ما إن حصلت جوديث على المال، حتى شرعت في تنفيذ فكرتها الفريدة: صناعة الشموع الملونة والمعطرة.
في عالمٍ لم يعرف سوى الشموع البيضاء التقليدية، بدت هذه الفكرة ثورية.
بدأت بإعداد الشموع باستخدام أصباغ الأقمشة والزجاجات كقوالب بديلة.
أشعلت أول شمعة، وتوهّجت بلون أحمر ساحر قبل أن تتحول إلى ورديٍّ ناعم عند تبريدها.
وزّعت عيناتٍ على معارفها من النبلاء، وسرعان ما انتشرت أخبار الشموع المميزة كالنار في الهشيم.
كانت جوديث واثقة من نجاح فكرتها، خاصة مع تزايد الطلبات بشكلٍ لافت.
—
في إحدى الليالي، وبينما كانت منشغلة بصناعة شموع جديدة، دوّى صوت طرقٍ على الباب.
فتحت لتجد رجلاً أنيقاً يحمل باقة زهور، ينحني أمامها باحترام:
“مساء الخير، سيدتي الكونتيسة.
أنا هنري سبنسر، كنتُ زميلاً للسير إيرن في الفيلق ذاته”
انقبض وجه جوديث عند سماع اسم إيرن.
كان الاسم يحمل معه ثقل ذكرياتٍ لم تكن ترغب في استرجاعها.
—
“هنري سبنسر”،
أحد ضباط شرطة العاصمة البارزين، تلقى بلاغًا عن جثة في إحدى الغابات.
وعندما وصل إلى الموقع، صُدم باكتشاف أن الجثة تعود إلى السير إيرن، الرجل الذي كان الجميع يعتقد أنه لا يزال حيًّا.
إيرن كان معروفاً ببروده وقسوته، سواء مع أعدائه أو مع رفاقه.
ومع ذلك، لم ينسَ هنري أن هذا الرجل، رغم صلابته المفرطة، أنقذ حياته أكثر من مرة في ساحات المعارك.
كان يبدو دائمًا وكأنه يقف على شفا هاوية،
حتى انتهى به الأمر بهذا الشكل.
كلما راقب هنري إيرن وهو يخوض معركة، كان شعور القلق يتسلل إليه دون استئذان.
لم يكن هذا بسبب ضعف في أدائه أو تقاعسه، بل لأن إيرن كان يقاتل كما لو أنه يقدم حياته قربانًا.
بدا كرجل يائس، لا يرغب في شيء سوى التخلي عن حياته.
كان إيرن دائمًا يحمل ذلك الاضطراب المقلق، وكأنه يسير على حد السيف، مما جعل هنري مستعدًا لسماع أي خبر مأساوي عنه في أي وقت.
بعد نهاية الحرب، كانا يلتقيان أحيانًا لتناول كأس، ولكن عندما انتقل هنري إلى شرطة العاصمة، قلّت لقاءاتهما بشكل كبير.
ورغم ذلك، اعتقد هنري أن إيرن يدير حياته بشكل جيد.
لكن الحقيقة جاءت كالصاعقة. قال هنري لنفسه:
“ما الذي يجري بحق السماء؟”
كيف يمكن أن تنتهي حياتك بهذا الشكل؟
جثة مرمية في الغابة بلا ملابس ولا تفسير.
عندما أُحضرت الجثة، تولى هنري مهمة الإبلاغ عن وفاة إيرن وترتيب دفنه في مقبرة العاصمة العامة.
وهناك، صُدم عندما رأى شهادة الوفاة، الموقعة باسم امرأة تُدعى “جوديث راينلاند”، والتي تبين أنها زوجته.
“إيرني تزوج؟ هذا مستحيل!
إيرن راينلاند ذاته؟”
الشخص الذي عرفه هنري لم يكن يظهر أي اهتمام بالنساء، بل كان أشبه بمن يعيش بعيدًا عن كل علاقات الحب.
والأغرب من ذلك، أن تسجيل الزواج وشهادة الوفاة كانا يفصل بينهما يوم واحد فقط.
أيقن هنري أن هذه المرأة لها علاقة بوفاة إيرن.
منذ تلك اللحظة، لم يعد هنري يرفع عينيه عن جوديث.
كل تصرفاتها كانت تحمل طابع الغموض.
“أفعالها تبدو طبيعية، لكنها تخفي شيئًا”
في الصباح، تغادر المنزل حاملة سلة كبيرة، تزور بيوت النبلاء أو تتسوق من السوق.
ثم تعود إلى المنزل قبل الظهيرة، وتظل داخله طوال اليوم.
أما غرفتها، فكانت أنوارها تظل مضاءة حتى ساعة متأخرة من الليل.
“ماذا تفعلين بالضبط؟”
لم يكن لدى هنري أي فكرة.
ومع ذلك، قرر التوغل أكثر، حتى لو كان عليه الدخول إلى القصر بنفسه.
عندها تذكر كلمات أحد العرافين:
“هذا العام هو عام استرداد الديون المنسية”
ربما كان ذلك ما قصده.
قرر هنري أن يقترب من جوديث، ويستخدم وسامته لكسر الحاجز.
خطط لإغوائها بحذر، حتى تحكي له الحقيقة.
وإن لزم الأمر، قد يلجأ إلى وضع شيء في شرابها ليجعلها تتحدث.
“كنت أعلم أنني سأحتاج إلى استخدام وسامتي يومًا ما”
ورغم أن جاذبيته كانت أقل بريقًا بجانب إيرن، إلا أن هنري كان يمتلك حضورًا كافيًا لإتمام خطته.
وما إن يحصل على اعترافها، سيأخذها فورًا إلى الشرطة.
وبذلك، وجد هنري نفسه يطرق باب القصر بابتسامة هادئة.
—
“لابد أنكِ عانيتِ كثيرًا”
كانت هذه هي الجملة الأولى التي قالها هنري عندما رأيته، محاولًا تقديم نفسه كعابر سبيل متألم على فراق صديقه.
ولكنني، وعلى الفور، تذكرتُه من القصة الأصلية: زميل إيرن السابق، الفارس الذي كاد يسبب مشكلة عندما حاول مغازلة البطلة.
ابتسم هنري بابتسامة ملؤها الثقة وهو يضيف:
“لابد أنكِ مررتِ بوقت عصيب، فقدان زوجك في بداية حياتكما معًا أمر قاسٍ للغاية”
ثم غمز لي، بطريقة أثارت استغرابي.
هل كان سعيدًا بموت إيرن؟ أم أنني كنت أتخيل ذلك؟
مددت يدي لأستلم منه باقة الزهور التي جلبها، بارتباك ملحوظ.
كان من المعتاد أن يجلب الناس زهورًا بيضاء للتعزية، لكن…
“زهور الزنبق؟!”
لم تكن حتى أقحوانًا. ك
ان من المفترض أن تكون لائقة أكثر.
والأسوأ، لماذا يُسلمها لي شخصيًا؟ أليس من المفترض أن يضعها على قبر إيرن؟
بالرغم من هذه التفاصيل الغريبة، فتحت له الباب ودعوته للدخول.
ككونتيسة “راينلاند”، لم يكن بإمكاني طرد شخص جاء للتعزية.
لحسن الحظ، لم يكن هنري في القصة الأصلية شخصية شريرة، رغم طبيعته الميّالة إلى المغازلة.
“كان يجب أن آتي مبكرًا، ولكنني سمعت الأخبار متأخرًا.
لابد أنكِ شعرتِ بالوحدة في هذا القصر الكبير”
أجبته بفتور:
“لست وحدي لهذه الدرجة”
ابتسم بثقة أكبر وقال:
“يمكنك الاعتماد عليّ من الآن فصاعدًا”
“ولما اعتمد عليك؟”
تجمدت للحظة أمام ابتسامته العريضة التي أظهرت أسنانه البيضاء.
ما الذي تحاول قوله؟
“لا داعي للشعور بالحرج”
اقترب بخفة وهمس بصوت هادئ:
“إذا كان صديق زوجك بمثابة زوجك، ألا يُعد ذلك طبيعيًا؟ فكري في الأمر ببساطة”
مهلًا، هل تعتقد أن هذا منطق سليم؟ إذا عاملتُ صديق زوجي كزوج، ألن يكون ذلك خيانة؟
ربما لأن القصة تصنف كـ 19+، حتى الشخصيات الثانوية تبدو وكأنها تحمل عيوبًا أخلاقية لا تُغتفر.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
4ⵌ
“أشكرك جزيل الشكر على كلماتك الرقيقة، يا سير هنري”
توقفت جوديث لبرهة، تتأمل باقة الزنابق بين يديها، تتساءل بقلق عمّا إذا كان من الأنسب أن تعيدها إلى هنري أم تحتفظ بها.
بنبرة يغلفها العذر قالت:
“نحن لا نستقبل التعازي في القصر، سيكون من الأفضل أن تتوجه إلى المقبرة العائلية”
لكن شيئاً في تصرفات هنري أوحى بأنه لم يأتِ فقط لتقديم العزاء.
قال بصوت يعبّر عن اهتمامه:
“لقد زرت بالفعل مقبرة العائلة، ولكنني جئت إلى هنا لأنني قلِق بشأن السيدة التي تُركت بمفردها”
كانت عيناه تحملان نظرة غامضة توحي بأن زيارته ليست بلا غاية.
حدس جوديث الحادّ نبّهها إلى ضرورة الحذر والابتعاد عن هذا الرجل الغريب.
رفعت ابتسامة باهتة، وفتحت الباب قليلاً قائلة:
“هل تود تناول كوب من الشاي؟”
بينما كانت تستعد لإغلاق الباب بلطف، قال هنري بإصرار خفيف:
“عذرًا، سيدتي، يكفيني حتى كوب من الماء إن لم يكن الشاي متاحًا.
في الواقع، لدي أمر بالغ الأهمية أرغب في مناقشته معكِ”
لكن جوديث لم تبدِ أي ثقة في أن لديه ما يستحق هذا الإلحاح.
في الواقع، كان هنري يخفي زجاجة صغيرة في جيبه، تحتوي على جرعة سحرية تهدف إلى الكشف عن الحقائق.
أجابته بنبرة حازمة:
“إذاً، فلنتحدث هنا”
تغيّرت ملامح وجهه قليلاً، وقال بنبرة غير راضية:
“هذا ليس المكان المناسب لمناقشة أمر كهذا”
ردّت بحزم ووضوح:
“آسفة، لكن هذا المنزل تقطنه امرأة بمفردها، ولن أسمح بدخول رجل غريب.
إذا كان لديك ما تقوله، فقلْه هنا، وإلا فالأفضل أن تغادر”
حاول هنري منعها من إغلاق الباب بوضع قدمه بين الإطار قائلاً:
“عذرًا، سيدتي، أحتاج فقط للحظة من ووقتكِ”
ردت عليه بلهجة صارمة:
“إن لم تغادر الآن، فسأتصل بالشرطة فورًا”
ضحك بسخرية خافتة عندما سمع تهديدها، وردّ بصوت خافت بالكاد يُسمع:
“ومن سيبلغ الشرطة عن من، يا سيدتي؟”
على الرغم من خفوت صوته، إلا أن قربها من الباب جعل كلماته تصل إلى أذنها بوضوح.
رفعت حاجبها، وسألته بنبرة تفيض غضبًا:
“ما الذي قلته؟ هل زعمت أنني سأكون في مأزق إن ذهبت للشرطة؟ ولماذا؟”
تراجع هنري قليلاً، متردداً في الإجابة، لكنه في النهاية قرر مواجهة الأمر مباشرة وقال:
“لأنكِ المشتبه بها في قضية مقتل السير إيرن”
حدّقت به جوديث بجرأة وثقة، وردّت دون تردد:
“أنا لم أقتله”
ارتبك هنري قليلاً أمام هذه الجرأة، غير قادر على تحديد ما إذا كانت واثقة فعلاً أم أنها تتقن التمثيل.
تحسّس الزجاجة الصغيرة في جيبه مجددًا، متردداً بين استخدام القوة أو الاكتفاء بالحديث.
قالت له جوديث بلهجة يملؤها التحدي:
“يبدو أنك جئت للتحقيق في مقتل إيرن.
حسنًا، تصرفك هذا يبدو مريبًا للغاية”
بدأت بسرد القصة كاملة بنبرة صادقة، دون أي تردد أو إخفاء، مؤكدة براءتها.
استمع هنري بانتباه شديد، محاولًا فك خيوط القصة، قبل أن يسأل وهو يقطب حاجبيه:
“هل أفهم من كلامك أن إيرن توفي يوم زفافكما، وأنه تم دفنه في تابوت؟”
أجابته بثقة:
“نعم”
أضاف باندهاش:
“ولكن… لقد تم العثور على جثته في الغابة قبل أيام قليلة فقط، بعد دفنه”
حدّقت فيه بدهشة وقالت:
“ماذا؟”
تبادلا النظرات الحائرة، كأن كلًّا منهما يحاول فهم ما يقوله الآخر.
بعد لحظة صمت، اقترح هنري التحقق من هوية الجثة، مشيرًا إلى احتمال أن الرجل الذي تزوجته جوديث لم يكن إيرن.
ترددت قليلًا، ولكنها وافقت في النهاية، إذ لم تكن قادرة على متابعة القضية بسبب ديونها المتراكمة، كما أنها أرادت كشف الحقيقة.
قالت له:
“حسنًا، فلنذهب الآن للتحقق من الجثة”
—
قادها هنري إلى المشرحة التي تُدار تحت إشراف شرطة العاصمة.
كان المكان مخصصًا للجثث المتعلقة بالقضايا الجنائية، واستطاع هنري أن يُبقي تابوت إيرن
هناك مؤقتًا بفضل علاقته بأحد المسؤولين.
قادهم مدير المشرحة إلى التابوت، وما إن اقتربوا حتى رفعت جوديث منديلها لتغطي أنفها من رائحة الموت الثقيلة التي تغلغلت في المكان.
على الرغم من محاولات التهوية المستمرة، فإن رائحة الفناء ظلت حاضرة بقوة، تنذر بأهوال لا تخطئها الحواس.
كنا نسعى جاهدين للحفاظ على درجة الحرارة منخفضة قدر الإمكان، لكن من المستحيل تمامًا وقف تحلل الجسد بشكل نهائي.
بلا شك، يبدو أن وسائل التبريد لم تكن متوفرة. وقفت أمام تابوت إيرن وابتلعت ريقي بصعوبة، وكأن القلق يلفُّ أنفاسي.
“حسنًا، سأقوم بفتحه”
كان الجسد قد بدأ بالفعل في التحلل.
لن أخفي الحقيقة؛ الخوف كان يتسلل إلى أعماقي. أمسكت بمنديل غطيت به أنفي بحذر.
“يكفي أن أتحقق من الوجه فقط”
ارتفع غطاء التابوت ببطء، مُصدِرًا صوت صرير خافت.
“طَق!”
انقبض قلبي عند الصوت الثقيل لغطاء التابوت وهو يُغلق، وكان الجسد مغطى بالكامل بقماش أبيض.
“يمكنك الآن إجراء الفحص”
غادر المسؤول الغرفة، موصيًا بإبلاغه عند الانتهاء، وبقيت أنا وهنري واقفين بصمت أمام التابوت.
“هل أبدأ؟”
“…”
“… سيد هنري؟”
لكن هنري، الذي كان قبل لحظات يبدو متحمسًا للتحقق من الجثة، أصبح شاحبًا كأنه على وشك الانهيار.
“ما الذي دهاكَ فجأة؟”
ما الذي يحدث له الآن؟ هذا ليس وقت التردد يا هنري!
نظرت إليه لأجد يديه ترتجفان بشدة، وشفتاه ترتعشان بعصبية.
كان من الواضح أنه مرعوب.
“هل أفتحه أنا؟”
“لا، لا يمكنني السماح لكِ بذلك،
سيدتي.
لا يمكنني فعل ذلك”
بدت كلماته كأنها مزيج من الخوف ومحاولة إظهار الشجاعة.
نظرت إليه، ووجدته ينحني بخجل، فتنهدت بخفوت.
بهذه الطريقة، لن نتمكن من التحقق حتى بعد أيام.
“سأقوم بذلك بنفسي”
“أعتذر… لكنني خائف جدًا”
تراجع هنري بخجل واضح، بينما أخذت أنا نفسًا عميقًا ومددت يدي نحو القماش الأبيض.
إلى أي درجة وصل التحلل؟
سمعت أن الأجزاء الحساسة، كالشفتين، تتحلل بسرعة.
كانت أطراف أصابعي ترتجف من التوتر، لكنني أمسكت بطرف القماش وبدأت برفعه ببطء شديد.
ظهر شعر أشقر باهت كأنه تآكل بفعل أشعة الشمس، ثم لاحقته عينان خضراوان بلا حياة تحدقان في الفراغ.
“آه…”
حينما يبلغ الرعب ذروته، حتى الصراخ يصبح مستحيلاً.
أسقطت القماش وجلست على الأرض، متراجعة للخلف بارتباك.
“هل… هل هو حي؟”
تملكني الذعر وبدأت أصابعي ترتجف بعنف.
هل كانت عيناه مفتوحتين؟
أمسكت بساق هنري، لكنّه كان جامدًا كأن الزمن توقف عنده.
“ما الذي يحدث هنا؟”
شعرت أنني مكبلة بالكامل، وأنفاسي تعجز عن الخروج.
فجأة، انهارت ساقا هنري، وسقط أرضًا متنهّدًا بصوت خافت.
“لا أستطيع التنفس…”
قلت بصوت واهن، بينما كان القماش يغطي نصف وجه إيرن دون أي حركة.
“عيناه مفتوحتان على الرغم من أنه ميت”
“لقد أغلقت عينيه بنفسي!”
قال هنري بنبرة مليئة بالارتباك، محاولًا استرجاع ذكرياته.
هل يمكن أن يكون تصلب ما بعد الموت قد تسبب في فتح عينيه؟
حاولت تهدئة نفسي بالتفكير بعقلانية، لكن عقلي كان يموج بالأسئلة.
“فلننهِ الأمر سريعًا ونغادر”
جمعت شجاعتي وتقدمت مجددًا نحو التابوت، بينما كان قلبي يخفق بجنون وكأنّه يكاد يقفز من صدري.
“كيف يمكن لعيني الجثة أن تبقيا بهذه الوضوح؟”
تجاهلت أسئلتي الداخلية ورفعت القماش بحذر، متجنبة النظر مباشرة إلى عينيه الميتتين.
“…”
بدأ القماش ينزلق ببطء ليكشف عن وجه كأنه تمثال منحوت بمهارة، مضاء بهالة غريبة وسط ظلام الغرفة.
كان وجهه لوحة مدهشة، يمزج بين الجمال البارد والرعب الصامت.
“هذا الرجل… إنه زوجي.
لكن لماذا لم يتحلل جسده؟”
تساءلت بصوت مرتجف، وأنا أزيح القماش أكثر لأكشف عن عضلات صدره العريضة وآثار الجروح التي كانت تغطي جسده.
لم أصدق عينيّ.
كيف يمكن لجسد ميت أن يبدو بهذا الكمال؟
وضعت يدي على أنفه وصدره أبحث عن أي دليل على الحياة.
شعرت بأنفاسي تتقطع وقلبي يرتجف مع كل لحظة تمر.
أما هنري، فقد كان غارقًا في حيرة مضاعفة.
“ما هذا بحق السماء؟”
كان يتساءل، هل ما يراه هو جثة إيرن التي أحضروها من الغابة،
أم أنني أنا التي أصبحت فجأة بلا خوف أمام هذا المشهد العجيب؟
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
5ⵌ
قلبه لا ينبض.
حاول هنري بصعوبة استجماع أفكاره عندما سمع همس جوديث بصوت متقطع، يخترقه الارتعاش:
“هل أستدعي الطبيب؟ أم الشرطة؟ لا، أنا الشرطي هنا!”
بينما كان يُقلّب الأمر في ذهنه بإرباك، لمح يديها المرتجفتين تحاولان كشف الكفن الأبيض عن كامل الجسد.
“لحظة، سيدتي!”
رغم فوضى تفكيره، جاء صوته مشحونًا بالإلحاح:
“من فضلكِ، صوني كرامة إيرن!”
“عفوًا؟”
“إنه… عارٍ”
ارتخت يداها عن الكفن بسرعة، وحدقت للحظة قبل أن تقول:
“آه…”
وانساب الرداء على الأرض، بينما وقف هنري حارسًا على شرف صديقه.
—
“لماذا وُجدت جثة مدفونة في الغابة؟”
ظل هذا الجزء لغزًا محيّرًا، لكننا شرعنا
– هنري وأنا – في ترتيب أفكارنا.
نُقلت جثة إيرن إلى قصر راينلاند، قرار لم يُشعرني بالراحة؛ ترك الجثة في القصر كان خيارًا اضطراريًا.
قوانين الإمبراطورية تقتضي إذنًا من رئيس الشرطة لإيداع الجثة في المشرحة، لكن نفوذ هنري منحنا استثناءً مؤقتًا.
غير أن هذا الترتيب لم يكن ليصمد أكثر من يوم أو يومين.
“إذا أبلغنا الشرطة بأن موت إيرن يكتنفه الغموض، ستُحدث القضية ضجة كبرى”
أدركت أن جثة غير متحللة لابن غير شرعي لعائلة نبيلة ستُشعل النار في قلوب الشائعات.
ستنفضح علاقة الكونتيسة بهذه العائلة، وقد أُستدعى للاستجواب وربما الاعتقال.
وفي خضم هذا، هناك أمر آخر يقلقني:
“سأفقد فرصة تسليم الطلبية!”
سيُقال إن الشموع التي أصنعها في قصر راينلاند جلبت النحس، وسينهار عملي، وستتراكم الفوائد التي لن أستطيع سدادها.
وإذا حدث ذلك، سيجدني سميث ويسحبني إلى الجحيم الذي ينتظرني.
فكرت مليًا:
“هذا مستحيل!”
أقنعت هنري بنقل الجثة، ووافق.
لم يكن يرغب في أن يُشرَّح إيرن؛ إذ رأى أن التجارب على جسده ستكون إهانة.
“أعرف كاهنا روحيًا جيدًا.
أريد أن أريح إيرن”
أخذت أُحدّق في هنري الذي بدا مؤمنًا بالخوارق.
“هل تمانعين التعامل مع الشارتين؟”
الشارتين… قبيلة صحراوية يمتهن أفرادها قراءة الطالع.
رغم أن الإمبراطورية ضمتهم منذ قرن، ما زال الناس ينظرون إليهم بازدراء.
أجبت بحذر:
“ليس لدي موقف معين تجاههم، لكن…”
ترددت قبل أن أقول:
“كم سيكلف الكاهن؟”
نظر إلي بدهشة، وأنا أرفع إصبعين وأهمس:
“عليّ دين قدره 200 مليون ذهب”
فقال بنبرة حازمة:
“سأدفع”
كان كريمًا بشكل غير متوقع.
—
في اليوم التالي، انطلق هنري بحثًا عن الكاهن الروحي، بينما بقيت أنا أمام إيرن الذي بدا حيًا رغم موته.
جسد لم يتحلل، ولا تصلب، ولاعيناه اصبحتا غائمة.
تملكني الذعر.
“لو كنت وحدي، لدفنته”
لكن بحضور هنري، لم أستطع.
وفي محاولة يائسة، أشعلت النار في الموقد.
“أنا آسفة، سيدي إيرن”
لكنني سأجعل هذه الجثة تتبع قوانين الطبيعة… لن أضحي بلقبي وثروتي لأجل رجل ميت.
في عالم لا يعرف الرحمة، المال واللقب هما سيفي وترسي.
توقفتُ فجأة وأنا على وشك أن أدير ظهري. شعرتُ بشعور ثقيل من الذنب وكأن قيودًا خفية أمسكت بكاحلي لتمنعني من الرحيل.
أي وصف قد يناسب هذا الإحساس؟ كأنني أترك مريضًا يحتضر دون أن أقدم له يد العون.
ترى، هل لأن هذا الجسد الراقد أمامي بدا نابضًا بالحياة أكثر مما يليق بجثة؟
“إن لم يكن هذا هو الموت المتجسد في الحياة، فما عساه يكون إذًا؟”
لم يكن ميتًا بالكامل، لكنه أيضًا لم يكن حيًا.
لو كان وعيه حاضرًا، لظننت أنه زومبي، أو جثة أعادتها الحياة، لكن الحقيقة كانت أغرب من أن تُصدّق.
وضعتُ إصبعي مجددًا تحت أنف إيرن، وكم شعرت بالارتباك حين لم أجد أثرًا لأنفاسه.
حينها لاحظتُ ما لم أره من قبل: آثار طين يابس التصقت بذقنه وخلف أذنيه وحتى كتفيه.
على الرغم من أنني لم أقم بأي جنازة من قبل، إلا أنني كنت على دراية بالطقوس التي تتطلب تنظيف الجسد قبل الدفن.
بدافع الشعور بالذنب والرغبة في التكفير، قررت أن أُطهّر جسده قبل مجيء الكاهن الروحي.
“معذرةً، سأقوم بهذا الآن”
أمسكتُ بمنشفة مبللة وبدأتُ بمسح وجهه وعنقه، واكتشفت أن الأوحال تغطي أجزاء أخرى من جسده العلوي.
“هل كنتَ تتدحرج في الوحل؟”
وجهت السؤال لجسد لا يجيب، حديثي كان أقرب إلى حوار مع نفسي.
“لماذا صدرك عريض بهذا الشكل؟”
سواء أكانت عظامه واسعة بالفطرة أم بفعل التمارين القاسية، فإن بناء جسده لم يكن أقل من تحفة نحتتها يد الخالق بدقة.
كتفاه الواسعتان، قفصه الصدري الممتلئ، وخصره النحيل المتماسك.
حتى عضلات بطنه كانت منحوتة بإتقان وكأنه تمثال اغريقي.
وأنا أواصل تنظيفه، راودني الفضول لأتفقد أي آثار لجروح حديثة.
لكن ما وجدته لم يكن سوى ندوب قديمة تحمل حكايات صامتة عن معارك مضت.
إحدى الندوب الممتدة قطريًا من أسفل بطنه إلى عظمة العانة دفعتني إلى التوقف فجأة عندما تابعت أثرها أكثر مما ينبغي.
شهقت خجلًا.
لم يكن مشهد رجل عارٍ مألوفًا لي في حياتي السابقة أو الحالية.
ومع ذلك، أدركتُ دون أدنى شك أن جسد إيرن كان… مهيبًا.
“آه… أعتذر”
وجنتاي احمرّتا بحرارة، وغطيت جسده سريعًا بقطعة قماش وكأنني بذلك أستعيد شيئًا من رباطة جأشي.
—
مرّ تسعة وأربعون يومًا على زفافي.
“روحه محبوسة داخل جسده… يا للمسكين”
حين ماتت نيران الموقد وتلاشت حرارة الليل، أطلّ علينا نهار جديد.
أحضر هنري كاهنا روحيًا، رجلًا تتبع أثره طويلًا حتى وجده، إذ كان يعيش حياة متجولة بلا مأوى ثابت.
“لقد ظلّ مختنقًا بالحزن، متعطشًا للمغادرة، لكنه عاجز عن الرحيل”
توقعت أن يكون الكاهن امرأة عجوزًا تتدلى التجاعيد من وجهها، لكن بدلًا من ذلك، وقف أمامي شاب بملامح برونزية وعينين بلون الكهرمان.
ملامحه كانت تحمل بصمة قبيلة الشارتين، تمامًا كما وصفتها الحكايات القديمة.
“إذن، جسد إيرن لا يتحلل؟” سألتُ بقلق.
“نعم، روحه أسيرة جسده الذي صار سجنًا لها”
أجاب الكاهن بصوت مشحون بالوقار.
فكرة الجسد الذي يأبى أن يتحلل لأن الروح لم تجد منفذًا للخروج بدت معقولة رغم غرابتها.
“كيف يمكن تحريره؟”
“بفتح الأبواب”
“أبواب؟”
“نعم، في جسد الإنسان ثلاثة أبواب تفتح عند الموت لتصعد الروح.
لكن أبوابه بقيت موصدة”
“لماذا لم تنفتح؟”
“هذا شائع بين أولئك الذين بلغوا أقصى حدود التدريب البدني، مثل السير إيرن”
رغم غموض الشرح، وافق هنري بحماسة كما لو وجد في هذا التفسير ضالته.
الكاهن استرسل:
“علينا فتح الأبواب لتتمكن الروح من المغادرة والجسد من العودة إلى الأرض”
مد يديه بتواضع وقال:
“هل ستفتحون الباب معي؟”
هنري أمسك يديه وأومأ بعزم:
“نعم، بالطبع!”
“وكيف نفتح هذه الأبواب؟”
“بإقامة طقوس”
تنهّدت داخلي.
بالطبع، كان الأمر ينتهي دومًا عند هذه النقطة
-طقوس، صلاة، أو تضحية.
ما الجديد؟
السيناريو يسير كما توقعت تمامًا.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ6
“علينا إقامة طقس تأبيني”
“بالطبع، ومتى يمكننا إحياء احتفال الألف يوم؟”
“يمكننا ذلك في أي وقت، ولكن الأمر هنا مختلف؛ فهو يتعلق بالسيد إيرن…”
توقف الكاهن الروحي عند هذه النقطة، لكن هنري وجوديث أدركا مغزى كلامه.
حاولت جوديث أن تحافظ على تماسك تعابير وجهها وهي تسأل:
“ما حجم الإخلاص الذي ينبغي أن أظهره؟”
“سأكتفي بقطعتين ذهبيتين”
قطعتان ذهبيتان؟
مبلغ كهذا يكفي لصنع مئتي شمعة!
“سأمنحك ذلك!”
يا لكرم سيد هنري! يبدو أنه يمتلك مالًا وفيرًا.
نظرت إليه جوديث بنظرة جديدة وهو يوافق دون أي تردد.
“من الأفضل أن نقيم المراسم الليلة”
وافق الكاهن الروحي، محدّقًا نحو السماء وكأن المال الوفير لم يكن مغريًا له.
“عليكما التطهر والانتظار حتى منتصف الليل”
تم تحديد موعد إقامة الطقس التأبيني عند منتصف الليل.
أشار الكاهن إلى أنه سيخرج لبعض الوقت ليحضر شيئًا ما.
“بعد أن تنظفا نفسيكما، ابقيا في غرفكما، ولا ينبغي لكما أبدًا أن تريا تحضيراتي”
اغتسلت جوديث وصنعت الشموع، منتظرة حلول منتصف الليل.
“أتمنى ألا يكون الكاهن محتالًا”
مر الوقت ببطء حتى دقت الساعة منتصف الليل.
بطرقات هادئة على الباب، استدعى الكاهن هنري وجوديث.
كانت نوافذ الغرفة التي يرقد فيها جسد إيرن وأبوابها مفتوحة على مصراعيها، واختفى القماش الذي كان يغطي الجسد.
كانت هناك أربع دوائر كبيرة مرسومة حول السرير، وفي كل دائرة شمعة سميكة مضاءة.
“سنفتح اليوم أبواب الجسد لنطلق الروح”
بإشارة من الكاهن، اقترب هنري وجوديث من السرير.
“الروح بطبيعتها تنجذب إلى الحياة”
أوضح أن جسد إيرن يحتاج إلى الدم الحي والنابض لكل من هنري وجوديث.
فكرة سحب الدم من إنسان حي كانت مرعبة، لكن إذا كان الحل يكمن في قطرة دم واحدة، فلا بأس.
“سيدتي، اقتربي قليلاً”
كان موضعها قريبًا من الجسد السفلي لإيرن.
كان ضوء القمر مشرقًا بشكل غير معتاد، منسابًا على جسد إيرن العاري.
رغبت في التزام الاخلاق واللباقة، لكن الأمر كان صعبًا للغاية؛ فجسد إيرن المميز كان لافتًا للنظر رغم إرادتها.
بدايةً، وخز الكاهن طرف إصبع هنري بالخنجر، ليسمح لقطرة دم بالانسياب نحو جبين إيرن.
ارتعشت رموش إيرن بخفة، مما جعل جوديث تميل برأسها متسائلة.
“إلى حيث ستذهب، سترحل.
هذا المكان ليس وجهتك.
بقاؤك في هذه الدنيا سيجلب لك العذاب”
التفت الكاهن نحو جوديث ومدت يدها.
شعرت بألم حارق في إصبعها.
قطبت حاجبيها قليلاً، وقرّبت إصبعها الذي يسيل منه الدم نحو أسفل جسد زوجها.
وفور أن سقطت قطرة الدم على جلده، انقبضت عضلات فخذه.
في تلك اللحظة، امتدت يد بسرعة خاطفة وأمسكت بمعصمها.
تملكها الذهول، فقد كان الكاهن وهنري كلاهما يغطيان فميهما، فمن إذن هو صاحب هذه اليد؟
“أنتِ… من تكونين؟”
إنه إيرن راينلاند.
كان صوته مبحوحًا، وكأنه يصارع أثر صمت طويل.
“ماذا فعلتِ بي؟”
نظر بعينين خضراوين عميقتين تماثل أوراق الشجر في الغابات الكثيفة إلى جسده العاري، ثم إلى جوديث.
ارتسمت على ملامحه علامات الاستفهام.
“هل كنا … نفعل ذلك؟”
تجمدت جوديث مكانها من هول المفاجأة.
تطلعت إلى هنري الذي كان مذهولًا على الأرض.
“لا يمكن أن يكون…”
“أنا لا أحب هذا النوع من الأمور”
قال إيرن بنبرة متبرمة، وعيناه تسألان جوديث عن تفسير لما حدث.
ما الذي يمكنها أن تقوله؟ كيف تخبره بأنه قد عاد إلى الحياة؟ هل يجب أن تبدأ بالقول:
“مرحبًا، أنا زوجتك”؟
“آه… عزيزي؟”
لكن دون شك، إيرن كان أكثر ارتباكًا بكثير من العبارة التي تفوهت بها بعد أن تخلت عن كل محاولات الشرح.
—
لقد قالوا إن الطقس كان يهدف إلى إطلاق الروح، فلماذا إذن عاد الجسد إلى الحياة؟
هرب الكاهن الذي كان من المفترض أن يجيب عن السؤال، بينما وقفت جوديث وهنري في حيرة أمام إيرن الذي عاد للحياة.
“تبًا”
جوديث ضغطت شفتيها بتوترٍ متصاعد، وهي تغرق في دوامةٍ من أفكارٍ مُفزعة.
أسوأ كابوسٍ راودها كان أن يبقى جسد إيرن كما هو، دون أن يُظهر أدنى علامة على التحلل، حتى بعد دفنه.
لكن، هل يُعقل ذلك؟ أهو حي؟ حيٌّ فعلاً؟
“لماذا؟ لماذا لازلت على قيد الحياة؟”
كأنك رسولٌ ملعون أُرسل لبعثرة الأرواح.
إن كنتَ رسولًا، فخذ من تشاء وارحل، لكن لماذا تُحيي الموتى؟
والأسوأ، لماذا تُعيد إيرن راينلاند بالتحديد؟!
في الحكاية الأصلية، لم يكن إيرن سوى تجسيدٍ للجنون في أعين الجميع.
كانوا يطلقون عليه ألقابًا بشعة كـ”الكلب المسعور” أو “المجنون”، وأخرى لا تُقال إلا همسًا.
لم يكن ذلك من فراغ؛ فقد كان إيرن رمزًا للفوضى والانفجار، رجلًا لا يُبالي إلا بلحظته.
إذا التقط سيفه، اشتعل كالعاصفة، لا يفرق بين قريبٍ أو بعيد، حليفٍ أو خصم.
لكنه لم يكن مجرد فوضوي؛ بل كانت طُرقه عنيفة، بعيدة كل البُعد عن أي شكل من أشكال التحضر.
لو لم يكن يمتلك مهاراتٍ مبهرة إلى جانب شخصيته العنيفة، لما استمر يومًا في صفوف فرسان الإمبراطورية.
لكنه، مع ذلك، كان أحد أعظم فرسانها.
هو البطل الذي حوّل المستحيل إلى نصر، وخلّف وراءه إرثًا لا يُمحى.
ورغم هذه الشهرة الممزوجة بالخوف، وجد إيرن نفسه يعمل في قصر الإمبراطورة، ضمن الجوانب المظلمة للرواية الأصلية.
كانت مهمته الرسمية “حماية” ابنة أخت الإمبراطورة، البطلة.
لكنها في الواقع كانت رقابة مشددة، أشبه بعينٍ لا تنام.
في القصة الأصلية، تسللت البطلة إلى القصر الإمبراطوري لتنفيذ مهمة سرية:
إلقاء لعنةٍ على ولي العهد بأمرٍ من الإمبراطورة.
لكن خطتها انحرفت حين وقعت في حبه.
رغبت البطلة في إنقاذ ولي العهد، لكن عقبةً كبيرة وقفت في طريقها، وهي إيرن.
لم تستطع التحرك خطوة دون أن تتسلط عليها عيناه الحادتان.
وفي لحظة يأسٍ، ألمحت البطلة إلى أن الإمبراطورة تخطط لإغراق الإمبراطورية في فوضى لا نجاة منها.
لكن إيرن، كما لو أنه حجر صلد، تجاهل كلماتها وكأنها لم تُقال.
حتى ولي العهد، ورغم مكانته وسلطته، لم يستطع ثني إيرن عن قراراته.
إيرن لم يكن يبحث عن المال، ولم يكن طامعًا في المجد.
بدا وكأنه مهووس بشيء أعمق، شيء لا يستطيع أحد فهمه.
أحد مساعدي ولي العهد اختصر شخصيته بكلماتٍ مقتضبة: “إنه مجنون، لا أكثر ولا أقل”
لكن، عندما نصف شخصًا بالجنون، ألا يكون ذلك لأنه يعاني من شغفٍ مفرطٍ بشيء ما؟ كالمال، أو السلطة، أو حتى الحب؟
إيرن، على عكس ذلك، لم يكن يعاني من اضطراب نفسي، ولم يكن أسيرًا لهوسٍ معين.
كان لغزًا غامضًا، يتحرك بدافعٍ لا يفهمه أحد.
في تلك الأثناء، عُوقبت البطلة وسُجنت بعد أن اكتشفت الإمبراطورة أنها تحمل طفلًا في أحشائها.
حينها، أدركت البطلة أن محاولاتها لإقناع إيرن كانت عبثًا.
لكن بطريقة غريبة، وجدت نفسها تعترف له بكل شيء. ربما أرادت أن تُخفف عن نفسها عبء الأسرار.
قالت له إن ولادتها لهذا الطفل ستعني موتها،
وإن الإمبراطورة ستستغل الطفل كأداة لتحقيق طموحاتها.
للمرة الأولى والأخيرة، أظهر إيرن رد فعل مختلفًا.
وكأن شيئًا انكسر داخله، ساعدها على الهروب.
لكنه فعل ذلك بطريقته الخاصة، بأسلوبٍ دمّر حياتها وجسدها في آنٍ واحد.
أحد المساعدين كرّر تعليقًا آخر:
“إنه ليس مجنونًا فحسب، بل لديه قناعة راسخة”
إيرن كان رجلًا يتحرك بدافع القناعة وحدها.
“وهذا هو الأمر الذي يجعل منه خطرًا مضاعفًا”
لم أستطع فهم ما الذي يدفعه لاتخاذ قراراته.
“بشخصية كهذه، سيطلب الطلاق فورًا”
بالنظر إلى الظروف، كان أي شخص طبيعي سيفعل ذلك.
من سيقبل بالاستمرار في زواجٍ قسري أُجبر عليه وهو يواجه شبح الموت؟
السيناريو الأسوأ كان أمامي.
لو كنتُ أعرف أن الأمور ستنتهي بهذا الشكل، لما تجرأت على استخدام لقبه كضمان لدَيني.
ماذا لو طلب إيرن الطلاق؟
اللقب النبيل ملكٌ له بلا شك.
وبما أن زواجنا كان قصيرًا، فلا حق لي في المطالبة بأي جزء من الممتلكات.
هذا يعني أنني سأُطرد خالية الوفاض، محاطة بديونٍ تصل إلى 200 مليون ذهبية، دون أي فرصة للنجاة.
“هل ينبغي أن أطلب منه تأجيل الطلاق حتى أتمكن من بيع المنزل بسعر معقول؟”
حتى لو بِعت المنزل بنصف قيمته، يمكنني تجاوز الأزمة.
لن يكون هناك ربح، لكن على الأقل لن أجد نفسي مطاردة من المرابين.
“ربما كان يضعف أمام دموع النساء؟”
في القصة الأصلية، كان إيرن يستجيب فقط إذا توسلت البطلة إليه وهي تبكي.
ربما لديه نقطة ضعف عاطفية مخفية.
حتى الكلب المسعور للإمبراطورية لا بد أن يحمل شيئًا من الإنسانية.
“حسنًا، يبدو أن الوقت قد حان لتجربة خطة إثارة التعاطف”
—
إيرن لم يكن إنسانًا سويًّا؛ بل كان رجلًا حُطّمته الحياة.
لكن، متى بدأ كل هذا الانكسار؟
أكان عندما حاولت والدته التي أنجبته من علاقة غير شرعية خنقه قبل أن تتخلى عنه؟
أم حين أدرك أن أمه، التي قبضت المال من الكونت وسلمته له، ماتت قبل أن تنفقه؟
أو ربما عندما ظهر والده بعد سنوات طويلة فقط ليستخدمه كوسيلة للفرار من الحرب؟
أم عندما رفض قادته الإنصات لتحذيراته بسبب أصوله، مما أدى إلى كارثة انتهت بإبادة وحدته بأكملها؟
أو ربما عندما حاولت الكونتيسة الوحيدة التي عاملته بقدرٍ من اللطف التخلص منه عند عودته منتصرًا من الحرب، خوفًا من أن يُطالب بإرثٍ لا تريده له؟
نعم، ربما كانت هذه هي اللحظة التي رسمت نهايته.
إيرن عاش في عالمٍ مليء بالخيانات ومحاولات الاغتيال، لدرجة أنه نسي طعم النوم العميق.
ألا يصاب الإنسان بالجنون حين يُحرم من الراحة؟ ربما كان هذا ما حوّله لما هو عليه الآن.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ7
بوفاة الكونتيسة والكونت تباعًا، هدأت محاولات الاغتيال، لكن الخلل الذي ضرب كيان كل شيء لم يعد إلى سابق عهده.
أصبح النوم حلمًا بعيد المنال.
كان إيرن يسهر لياليه، ممزقًا بين أفكاره، غارقًا في تساؤل وجودي:
لماذا كان يتمسك بالحياة بكل هذا اليأس؟ لم يسبق له أن خاض معركة وهو يضع حياته على المحك،
ومع ذلك تساءل:
لو لم أقاتل منذ البداية، أكنت سأموت ببساطة؟
لأي غاية كنت أقاتل بكل تلك الشراسة؟ للشهرة؟ للمال؟
لكن أياً منهما لم يكن يعني له شيئًا.
لم يكن يقاتل سوى حين يطل العدو من الظلال.
“يشعرني بالغثيان حين يوجه أحدهم نصل سيفه نحوي”
نعم، ذلك كان السبب.
لم يكن دافعه سوى أن يصد إحساسه بالقذارة حين يجد الموت محدقًا به.
لكنه حين فقد سببًا للحياة ومعنى للقتال، غدا كل شيء في عينيه عبئًا ثقيلاً.
صار يتجول وكأنه يحمل رأسه بين يديه، مستعدًا لتقديمه لأي مغامر يجرؤ على قطعه.
وقد يبدو هذا سخيفًا لأولئك الذين بذلوا حياتهم في محاولات قتله، لكنه الآن كان مجرد إنسان بلا وجهة، تائهًا بعد أن تحولت تلك المحاولات إلى عبث خالص.
كانت الأيام تمر كأنها واقفة في مكانها، يبددها إيرن بين أكواب الخمر، يعيش بلا مبالاة ولا حماية.
ومع أن الموت بدا له أقرب من أي وقت مضى، إلا أن الحياة كانت تتمسك به بجنون، أو ربما كان القدر يرفض استقباله بعد.
لكن حين أصابه السأم من كونه الناجي الوحيد، جاءه الموت.
في الحقيقة، هو لا يتذكر متى مات.
كان غارقًا في سبات عميق، هاربًا من اليقظة وكأنها عدو لدود.
ثم فجأة، كأنما قوة خفية جذبته من الأعماق، فتح عينيه ليجد امرأة وضعت يدها بين ساقيه.
“ما هذا؟ متّ ثم عدت إلى الحياة؟ وبعد خمسين يومًا دون أن يتحلل جسدي؟”
عبس بغضب وهو يمزق الغطاء، ملتحفًا به في محاولة يائسة لتغطية عريه.
هل هذا عقاب؟ أن أُمنع حتى من الموت؟
لو أنه تحوّل إلى شبح، لكان الأمر أقل عبثًا.
“أعيدي الميدالية”
صوّب غضبه نحو هنري، الجالس على طرف السرير بنصف وعي.
رد هنري محاولًا الدفاع عن نفسه:
“ما الذي يخيفك وأنت الذي خضت أهوال الحرب؟ ومع ذلك تصرخ؟”
“عندما تنهض جثة فجأة من الموت، كيف لي ألا أصرخ؟”
رد إيرن ببرود متجهم: “تلك المرأة لم تصرخ”
“اسمها’جوديث هارينغتون'”
قال هنري بإيجاز
” إنها أجبرت على الزواج به أثناء احتضاره وورثت بذلك اسم عائلة راينلاند”
لم يكن يعرف عنها شيئًا يُذكر، إلا حقيقة واحدة:
أنها تبدو مختلة العقل.
أول مرة سمعها تناديه بـعزيزي، شكّك في سلامة سمعه.
قال هنري بتردد:
“لابد أنها كانت في حالة صدمة. عندما غادرت، بدا وجهها… أحمر بالكامل”
قاطعه إيرن:
“انتظر، أحمر؟ لم يكن شاحبًا؟”
هنري متذكرًا أين كانت جوديث تقف بالضبط، اكتفى بهز رأسه.
أما إيرن، الذي بدا لامباليًا حدّ البرود، فلم يهتم بالتفاصيل.
حتى أن هنري لم يجرؤ على سؤاله عن حاله، مدركًا أن الإجابة ستكون مستفزة لا محالة.
“هل هي حقًا امرأة لا تعرفها؟”
“هذا أول لقاء بيننا”
ضغط إيرن على رأسه الذي كان ينبض كأنه ساحة معركة.
ما الذي حدث لي؟ من الذي قتلني؟ ولماذا تحولت إلى جثة لا تتحلل؟
ثم، لماذا زوجوني بهذه المرأة؟
وبينما كانت تلك التساؤلات تضرب رأسه، فتحت جوديث الباب بحذر.
“هل يمكنني الدخول؟”
رفع إيرن بصره نحوها.
بدت أكثر هدوءًا مما توقع.
قال بصوت جاف:
“…حتى لو التقينا مرة أخرى، فهو لقاؤنا الأول”
كانت تحمل صينية بين يديها، تتقدم بخطى مترددة، وكأنها تواجه وحشًا مفترسًا.
قالت بتلعثم:
“أحضرت لك شيئًا لتشربه”
تناول كوبًا ساخنًا من الصينية، رفعه إلى أنفه دون وعي، ثم تقطب جبينه باستغراب.
“ما هذا؟”
“مجرد ماء ساخن”
رفع حاجبه مستهجنًا:
“ليس خمر؟”
أشاحت جوديث بنظرها خجلًا وقالت:
“ألم أخبرك من قبل أن عائلة راينلاند غارقة في الديون؟”
تدخل هنري مسرعًا محاولًا تهدئة الأجواء، مدركًا أن إيرن قد ينفجر غضبًا في أي لحظة.
“ألم تفتقدين ليلة العرس الأولى؟”
على الرغم من أن إيرن كان يعاني من بعض الاضطرابات الشخصية، إلا أن نبرته في هذه اللحظة كانت خالية من أي سخرية.
كان فضوله يدفعه فقط لاستفسار حول ما إذا كان لهما ليلة عرس، خاصةً وأن عهدهما قد تَرَسَّخ بتبادل قبلة العهد.
حتى في لحظات غيابه عن الوعي، كانت قوته الجسدية قد تكون ما تزال نشطة.
“…آه، هل هذا حقًا ما حدث؟”
ولكن الغريب أن الإجابة التي حصل عليها كانت غير مريحة، بل ومربكة بعض الشيء.
وقد زاد ذلك من شعوره بالانزعاج لأنها جاءت بعد تفكير طويل.
“هل هذا حقًا ما كان؟
لا، أظن أن الأمر ليس كذلك”
ورغم أنها لم تكن متأكدة من السبب، فإن شعورها كان يصرّح بأن شيئًا ما كان غير صحيح.
أومأت جوديث برأسها وكأنها قد اتخذت قرارًا حاسمًا.
“نعم، دعنا نعيش تلك ليلة معًا”
تنهدت جوديث تنهدة قصيرة.
هل كان ذلك مجرد خياله أم أن تنهدها كان يحمل معنىً يقول:
“الرجال لا يمكن مساعدتهم”؟
مرّ إيرن بلحظة صمت وهو يمرر لسانه على شفتيه.
يقولون إنه حين يكون الأمر غير معقول تمامًا، يواجه الإنسان العجز عن التعبير، وهذا تمامًا ما كان يشعر به الآن.
“سيد هنري، هل يمكنك أن تنصرف؟”
إذا كان الأمر سيؤول إلى كارثة في النهاية، فلماذا لا ننهيه الآن دفعة واحدة؟
أخذت جوديث لمحة سريعة من صدر إيرن الممشوق وبطنه المشدود.
لم تكن قد توقعت أن تكون هذه هي ليلة العمر، لكن مظهره القوي جعلها تخفف من ترددها.
‘نعم، في حياتي السابقة كدت أن أصبح شبحًا عذراء، إذًا ربما من الجيد أن أعيش مع رجل في هذه الحياة’
بصراحة، متى سأحظى بفرصة العيش مع رجل مثله؟ حتى لو كانت هذه رواية خيالية، لكان الأمر صعبًا.
وعلاوة على ذلك، بما أنه ذكر “الليلة الأولى”، بدا أن إيرن يبادلها نفس المشاعر.
‘هل يعود ذلك لأن النسخة الأصلية كانت رواية للكبار؟ إنها مثيرة من النظرة الأولى.
حسنًا، لن يكون هناك ضرر إذا استمر زواجنا لعامين على الأقل’
بحلول ذلك الوقت، من المتوقع أن ترتفع أسعار العقارات، لذا سيكون الأمر ذا فائدة كبيرة على العديد من الأصعدة.
نظرت جوديث إلى إيرن وأومأت لهنري، الذي بدا مترددًا، بأن يخرج سريعًا.
“إذن، هل يجب أن أخرج؟”
نهض هنري بارتباك، وكانت نبرة صوته تتلاشى بشكل غير مألوف.
“…إلى أين تذهب؟”
مسح إيرن جفونه بكف يده، وبدأ يشعر بالضيق من هنري بدون سبب واضح.
“ألم تقل في وقت سابق أنك لا تمتلك أي ميول غريبة؟”
بينما كانت جوديث تهمس بكلماتها وهي تقترب من إيرن، رفع صوته مخاطبًا إياها.
“لا!”
إلى أين يتجه هذا الحوار؟ وما الذي يحدث هنا؟
فقد إيرن قدرته على الصمود وهو يرى جوديث تدير شفتيها في حركة دلّالة، وكأنها تشعر بخيبة أمل لعدم تمكنها من جذبه كما كانت تأمل.
في تلك اللحظة، أدرك “كلب الإمبراطورية المجنون” لأول مرة أن محاربة شخص مجنون لن تفيد سوى في إلحاق الأذى به.
“إذن، هل ستطلبين الطلاق؟”
أجاب إيرن على سؤال جوديث في لحظة، شاربًا الماء البارد دفعة واحدة، وأومأ برأسه في تسليم تام.
كان ذلك هو النظام الطبيعي للأمور.
“ربما يكون ذلك أفضل لكِ”
على أي حال، لم يكن هذا زواجًا رغبت فيه هي. صحيح أنهما كانا على عجلة للقيام بـ”الليلة الأولى”، لكن ذلك لا يعني الكثير في النهاية.
“إذا تم الطلاق، فلن تضطرين إلى تسديد ديون هذه العائلة”
“…أوه، لقد اقترضت المزيد من المال”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ8
“لهذا السبب اضطررت إلى اقتراض المزيد من المال”
ابتلعت جوديث ريقها بصعوبة بالغة.
أخبرت هنري فقط أنها تتحمل ديون عائلة راينلاند،
لكنها لم تجرؤ على الخوض في التفاصيل.
“بدأت مشروعًا تجاريًا، وكنت بحاجة إلى رأس مال إضافي، فاضطررت إلى الحصول على قرض جديد”
“من المُرابي؟ سميث، أليس كذلك؟”
تدخل هنري، الذي كان يستمع بصمت طوال الوقت، فتطلعت إليه جوديث وأومأت برأسها ببطء.
“أنتِ مدينة له بالفعل بمئتي مليون ذهبية، ومع ذلك أقرضكِ المزيد؟
” سمعت أن سميث مشهور بقسوته وسوء سمعته”
يبدو أن الشائعات قد شطحت في وصفها.
تبادل إيرن وهنري نظرات محملة بالدهشة.
“… لم يكن الأمر مجرد قرض”
لحست جوديث شفتيها بعصبية، واتسعت عيناها بقلق واضح.
“قدمتُ ضمانًا”
“وهل لديكِ شيء ذو قيمة لتقدميه كضمان؟”
“نعم… حسنًا، الألقاب وبعض الأمور الأخرى…”
“هل يمكن استخدام الألقاب كضمانات؟”
تنحنحت جوديث محاولة إخفاء ارتباكها قبل أن تعترف بصوت خافت:
“ووعدت بأن اتبناه كابن لي”
هزّ هنري رأسه دهشة، بينما مال إيرن إلى الخلف ضاحكًا باستخفاف.
“ابن؟ حتى قبل أن تحتفلي بزفافك؟”
“لم يصبح ابنًا بعد!”
“فقط لكي اسدّد ديونك!”
تمتمت جوديث بانزعاج واضح.
“لكن يا سيدتي، ماذا تبقى لكِ غير اللقب؟”
تذكر هنري حديثها عن الشرف في وقت سابق، فسألها مباشرة دون مواربة.
ازدادت ترددات جوديث أكثر مما سبق، ثم ارتسمت على وجهها ابتسامة متكلفة وهي تشير إلى نفسها بإصبع مرتعش.
“رهن الجسد”
حاولت شرح أن هذا الخيار كان ملاذها الأخير عندما عجزت عن السداد، لكن كلماتها كانت أشبه بلغة غريبة بالنسبة لإيرن وهنري.
نقر الاثنان بألسنتهما وتنهدّا، كمن يحكم على تصرف مجنون.
“أنتِ حقًا مجنونة”
كانت أول امرأة يصفها الكلب المسعور الإمبراطوري بأنها أكثر جنونًا منه.
“لماذا بحق السماء فعلتِ ذلك؟”
حتى هنري، الذي كان في العادة يميل إلى تبرير أفعالها، بدت هذه المرة على وجهه ملامح توبيخ جاد.
صفقت جوديث بيديها محاولة لفت انتباههما من جديد.
“أرجوكم، استمعوا إليّ.
يمكنني سداد الديون، لا تقلقوا!
المشروع يسير بنجاح باهر”
نظرت إليهما، يتنقل بصرها بينهما بتوتر وترقب.
“إذا عادت أسعار المنازل إلى وضعها الطبيعي، سأربح أربعمئة مليون ذهبية.
بعد سداد الدين، سيبقى لي مئتا مليون.
وإذا قسمناها إلى نصفين، كم سيصبح لدينا؟”
“مئة مليون؟”
أجاب إيرن متأملًا، وصفقت جوديث بحماس كما لو أنه فاز بجائزة.
“بالضبط! والآن، إذا كان بإمكانك كسب مئة مليون، كم من الجهد ستحتاج إليه؟”
“مئة مليون…” تمتم إيرن، وهز رأسه موافقًا.
“لكن، هنا، فقط بالعيش في هذا القصر لبضع سنوات، سنجني المال دون أي عناء!”
ارتسمت على وجه إيرن ابتسامة واثقة.
مال لشراء الخمر دون الحاجة إلى العمل بدا وكأنه حلّ مثالي.
—
“ما الذي يشغل بالك؟”
“ما الأمر؟”
“لماذا تصر على الاستمرار في لعب دور الميت؟”
كان إيرن يسير بجانبها في السوق، مختبئًا تحت رداء ثقيل، غارقًا في ظلال عباءته.
“لأن الشخص الذي قتلني لن يطمئن إذا علم أنني ما زلت حيًا”
التقط خنجرًا من متجر الأسلحة، ولوّح به بخفة في الهواء.
“لقد كان لديه غرض حين قتلني وأجبرني على هذا الزواج.
وسيأتي قريبًا لينهي ما بدأه”
حتى بالنسبة لشخص لا يثمّن الحياة ويبتغي الموت، كان من الصعب تحمّل فكرة وجود جثة لا تتحلل.
ولم يكن إيرن استثناءً من ذلك.
“إذا اكتشفوا أنني على قيد الحياة، سيختبئون في الظلال.
هذا سيزيد الأمور تعقيدًا بالنسبة لي، فهل هناك من ضرورة لذلك حقًا؟”
كان إيرن عازمًا على كشف هوية القاتل.
رغم كونه ميتًا فاقدًا للوعي، إلا أن مجرد التفكير في أن أحدهم قد تلاعب بجسده كان مزعجًا إلى أبعد الحدود.
“هل من الممكن أن يكون بسبب لعنة؟”
“لعنة؟”
“كنت في حديث مع زوجتكِ مؤخرًا، وتطرقنا إلى موضوع القصر الملعون.
سألتها إن كانت لا تخاف من العيش هناك بمفردها، خاصة مع الشائعات التي تقول إن القصر مكان يأكل فيه الناس بعضهم”
ثم قالت زوجته هذا.
تابع هنري شرحه.
“إذا نظرنا إلى الأمر بعمق، سنجد أن المشكلة ليست في القصر، بل في عائلة راينلاند، وهذه لعنة وُضعت على أحد أفراد الجيل الحالي.
إذا فكرت في ذلك، يصبح الأمر منطقيًا.
رغم أنكِ قطعتِ صلتكِ بالعائلة، إلا أن اللعنة لن تكون متساهلة”
إذا كانت هناك لعنة تهدف للقضاء على كل من بقي من نسل عائلة راينلاند، فلا شك أن إيرن لن يكون قد أفلت منها.
“هذا مستحيل. حالة الجثة مختلفة”
رغم انقطاعه عن عائلته، كان إيرن قد سمع العديد من الأخبار والشائعات عن أفراد عائلة راينلاند.
في يوم واحد فقط، تحول إلى جثة بعدما تم استنزاف دمه بالكامل.
كان يعرف وسيلة واحدة فقط لإنشاء جثة من هذا النوع.
لم يكن متأكدًا من أن عائلة راينلاند قد قُتلت بهذه الطريقة، لكنه كان واثقًا أنه لم يُقتل بتلك الطريقة.
“على أي حال، حالما نكتشف القاتل، سيتضح كل شيء”
“إذاً، ستعيش مع الكونتيسة حتى تتمكن من القبض على القاتل؟”
“نعم.
هناك احتمال كبير أن يقترب القاتل من تلك المسألة مرة أخرى”
“وماذا بعد أن تلتقط القاتل؟ هل ستعيشون معًا حتى يرتفع سعر القصر؟”
عبس إيرن وهو يختار بسرعة قميصًا جاهزًا وسروالًا وعباءة ذات قبعة كبيرة من محل الملابس.
“لا، بالتأكيد لا”
بدت جوديث وكأنها تعتقد أن إيرن يطمع في الألقاب والعقارات، لكنه لم يكن مهتمًا بهذه الأمور على الإطلاق.
عندما أرسلت عائلة راينلاند قتلة لتحذيره من التطلع إلى لقب الكونت، كان يفكر في الذهاب واستحواذهم على كل شيء.
ولكن بعد انقراض عائلة راينلاند، زالت كل تلك الرغبات.
إذا كان سيرث لقب الكونت، فهناك أوراق يجب ترتيبها وضرائب يجب دفعها، والتفكير في كل ذلك كان يزعجه.
لم يكن هناك شيء يود فعله بعد أن يصبح كونتًا.
“قالت إنها ستعطيني مصروفًا حتى لو لم أعمل، وأنها ستبيع القصر وتعطيني نصف المال عندما يحين الوقت، وكان العرض مغريًا”
بالطبع، كان ذلك مزاحًا.
لم يكن لديه نية ليكون مقيدًا بجوديث من أجل بعض المال.
لم يكن لديه أي خطط أخرى. حتى الآن، كان إيرن يعيش وفقًا لما كان يُتوقع منه كعضو في فرسان الهيكل.
لكن إذا لم يكن هناك عمل آخر يجب أن يُنجز، فكيف سيعيش؟
“سأفكر في ذلك بعد أن أنتهي من كل ما يجب علي فعله”
أبعد إيرن تلك الأفكار الممطوطة عن ذهنه.
لم يكن من طبعه التفكير بعمق أو التصرف بحذر.
“هل لاحظتِ تعبير وجه زوجتكِ عندما أعطتكِ مصروفك؟”
فهم الأمر تمامًا.
جوديث لم تحاول حتى إخفاء ترددها في إعطائه المال.
إذا طلب منها المزيد من القطع الفضية، كان يبدو أنها ستسحب سيفها.
كان بإمكانه أن يشعر بنبضاتها القاتلة.
“بالمناسبة، هل حصلت على تقاعدك من فرسان الهيكل؟”
“لا”
“إذن لماذا لا تقبله وتعيش من خلاله؟
لا تخف من صرف مصروفك ولا تكترث بما يقوله الآخرون”
“لا”
“لا؟ “نظر هنري إلى إيرن بدهشة.
“كانت هي التي عرضت عليّ أن آتي أولاً، فلماذا يجب عليّ استخدام تقاعدي؟”
كم كان جريئًا في حديثه عن العيش على حسابي، يا صديقي.
شعر هنري بالحزن على جوديث لاضطرارها للعيش مع هذا الرجل.
“سأستعين بقاتل إذا طلبت مني تقسيم المال من بيع القصر كما وعدت”
كان إيرن مثيرًا للاهتمام لأنه كان أول شخص يعبر عن جشعه للمال بهذه الطريقة الواضحة مثل جوديث.
“تلك السيدة كانت مجرد ضحية لطمعها”
“هذا ما تقوله لزوجتك؟
لا يمكنك معاملة سيدة هكذا، إيرن.
إذا لم تذكر اسمها، ناديها الآنسة هارينغتون أو استخدم اسمها”
تجاهل إيرن ملاحظات هنري وهو يسترجع صورة جوديث وهي تعمل بجد لصنع الشموع.
جوديث، التي كانت تدندن بصوت خافت وهي تعمل وجهها شاحب، كانت غارقة في عملها لدرجة أنها لم تسمع ضوضاء إيرن خلفها، سواء كان يسعل أو يطرق الباب.
يقولون إنك يجب أن تعمل بجد إذا كان لديك ديون كثيرة، ولكن ألن يكون من الصعب إتمام الأمور إذا مررت بتجربة عودة جثة إلى الحياة؟
لكن جوديث ركزت على صنع الشموع وكأن شيئًا لم يحدث.
كان الأمر وكأنها مسكونة.
“هل أنتِ في ذلك القصر… لا”
“حسنًا، إذا كنت ستتحدث عن ذلك، فلتتحدث!”
“لا شيء مهم، فقط اذهب إلى مركز الشرطة واستعِر مجرفة”
“لما تريد المجرفة؟”
عندما سأل هنري مرة أخرى، نظر إليه إيرن كما لو أنه يسأله عن أمر بديهي.
“أحتاج إلى حفر قبري الخاص”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ9
كان إيرن يُمعن في حفر قبره بيديه، وكأنه يعجل بموته الموعود.
لطالما كانت هذه العبارة على لسانه عندما كان يوبّخ الآخرين بنبرة مليئة بالسخرية، لكنه لم يتوقع يومًا أن يجد نفسه في هذا الوضع الغريب.
أولئك الذين خاطبهم بتلك الكلمات، كانوا قد سقطوا ضحايا لسطوته من قبل، غير قادرين حتى على الإمساك بمجرفة، فما بالك بحفر قبر!
“سيدي…”
يقولون إن العواقب دائمًا تجد طريقها للعودة.
والآن، ها هو إيرن، متعمق في حفر التربة بيده المرتجفة، يترك المجرفة تسقط على الأرض بانزعاج.
“لماذا دفنته بعمق كهذا؟”
لم يكن إيرن راينلاند قد جرب الحفر من قبل، حتى في أيام خدمته.
أما هنري، فكان يراقبه بصمت بينما الغضب يزداد على وجه صديقه بعد أن أنهكه التعب من هذا العمل غير المألوف.
“هيا، لنفتح التابوت بسرعة”
بمهارة، أزال هنري آخر بقايا التراب من فوق التابوت، ثم دس طرف المجرفة في شق غطاء التابوت الخشبي.
كيييك
مع صوت انشقاق المسامير القديمة، أمسك إيرن بالغطاء ومزقه بعزم شديد.
“كما توقعت… لا شيء هنا”
كان التابوت خاليًا.
بالطبع، لم يكن الأمر مفاجئًا؛ فإيرن حي يُرزق يقف أمامهم.
لكن لا بأس من التحقق.
“يبدو أنهم دفنوا تابوتًا فارغًا منذ البداية”
هل كان الأمر مجرد خدعة لإظهار القوة؟ أم أن الهدف كان سرقة الجثة؟
قطب إيرن حاجبيه وأغلق التابوت مرة أخرى، مستعدًا لإعادة دفنه.
بدا واضحًا أن الحصول على دليل هنا أمر بعيد المنال.
“هناك شيء غريب في هذا الحفرة”
“بالطبع، لأنه حرفيًا ما تقوم به الآن”
“أتفهم المعنى المجازي؟”
نظر إيرن إلى هنري بنفاد صبر، لكنه استمر برمي التراب فوق التابوت بصمت.
“وما الذي سنفعله الآن؟”
“عليّ أن أعود بذاكرتي إلى كل ما يمكنني تذكره”
—
“شكرًا جزيلًا لكِ، سيدتي.
أنا ممتنة جدًا لكرمكِ”
كنت أحمل بين يدي زجاجة نبيذ فاخرة، أنحني تواضعًا أمام المركيزة.
“لا تبالغي في الشكر يا آنسة هارينغتون.
تفضلِ خذيه، وشقي طريقكِ”
أشارت المركيزة لي بالمغادرة، فانحنيت باحترام وغادرت غرفة الاستقبال بسرعة.
“آنسة هارينغتون، لحظة واحدة”
استوقفتني الخادمة عند الباب وقادتني إلى المطبخ، حيث منحتني كيسًا مليئًا بالبطاطا، رغيفًا من الخبز الأبيض، وقطعة لحم مغلّفة بعناية.
“السيدة كانت قلقة بشأن طعامكِ”
“يا لها من سيدة طيبة القلب حقًا”
شعرت بشعور الامتنان الحقيقي.
وكما يُقال: “الكرم من سمات الأرواح العظيمة”
كانت المركيزة واحدة من أفضل زبائني في تجارة الشموع.
لم تكن فقط تطلب كميات كبيرة، بل دائمًا ما كانت تضيف مكافآت سخية.
وها هي الآن تقدم لي نبيذًا فاخرًا وبقايا طعامها دون تردد.
“إنها تجسيد للطيبة النبيلة”
لو لم تكن موجودة، لكنت مجبرة على شراء النبيذ بمالي الخاص.
هذا الصباح، تجرأ إيرن على طلب المال مني.
“إذا لم تحضري لي النبيذ… هل تريدين الطلاق؟”
يا لها من طريقة بغيضة للتهديد.
‘زوجي يبتزني للحصول على زجاجة نبيذ.
أليس ذلك أدنى مستويات الحياة؟’
لم أطمح يومًا في الزواج برجل بطّال، لكن القدر ساقني لهذا المصير.
عندما كنت أتجه نحو المنزل، سمعت صوتًا مألوفًا يخترق أذني.
“آنسة هارينغتون، أقصد… الكونتيسة”
“سيد كليف؟”
نزل المحامي كليف عن حصانه بابتسامة دافئة.
وكما توقعت من رجل أنيق مثله، لم يأتِ خالي اليدين.
قدم لي صندوقًا صغيرًا يحوي ملحًا وفلفلًا وأعشابًا طازجة، وقبلته بامتنان شديد.
“شكرًا لك، سيد كليف.
كانت مساعدتك المالية السابقة نعمة حقيقية”
“هذا أقل ما يمكنني فعله”
كان كليف، بكل كلمة وحركة، يعكس روحًا نبيلة.
لو أن لقائي الأول به لم يكن تحت تلك الظروف العصيبة، لكنت صدقت أنه يحمل مشاعر خفية تجاهي.
سمعتُ أنَّ مرابيًا قد حضرَ لزيارة القصر.
كان كليف، الذي سألني عن أحوالي بدافع المجاملة، يُظهر ترددًا متزايدًا كلما اقتربنا من البوابة الرئيسية.
ظلَّ يُبرر قائلاً إنه لم يكن على دراية بالعقد الذي أُبرم بين سميث وكونت راينلاند، مُشيرًا إلى أن الوثيقة قد فُقدت ولم يتم العثور عليها إلا مؤخرًا.
قال لي بلهجة تبدو متعاطفة:
“لم أكن أعلم أنَّ الكونت لجأ إلى الاستدانة من مرابٍ.
لا شك أنَّ الأمر كان صادمًا بالنسبة لكِ.
لقد كان خبرًا مُحزنًا حقًا”
شعرتُ بالضيق من أسلوب كليف، إذ بدا وكأنه يحاول إخلاء مسؤوليته بالكامل.
منذ يوم زفافي وحتى الآن، لم يتغير موقفه أبدًا، إذ دائمًا ما كان يقول:
“هذه المشكلة برمَّتها ناتجة عن أفعال العائلات التابعة، وأنا مجرد ممثل قانوني في القضية”
لو كان كليف مجرد محامٍ خارجي، لكان هذا الموقف طبيعيًا. ولكنَّ رواية إيرن قد ألقت الضوء على جانب آخر من القصة.
قال إيرن بحنق: “هل يُلقي كليف اللوم على العائلات التابعة؟ إنه يضعف موقفه بهذا الشكل.
عائلة أكرمان هي أقرب عائلة مرتبطة بعائلة راينلاند”
إذًا، أليس معنى ذلك أنَّ كليف كان له يدٌ في زواجي؟
تحدث كليف بنبرة مشوبة بالتردد: “ربما تأخرتُ بعض الشيء، لكنني أرغب في تقديم مساعدة بسيطة لكِ يا سيدتي”
سألته بشك: “مساعدة؟”
“نعم، أظن أنني أستطيع إقراضكِ حوالي ثلاثة آلاف قطعة ذهبية.
إذا دفعتِ هذا المبلغ أولاً، فربما يُمكنكِ تأجيل موعد السداد قليلًا”
ولكن لماذا يعرض المحامي العائلي إقراض المال لي؟
“سأُقرضكِ المال دون فوائد”
دون فوائد؟
“نعم، كان يتوجب عليَّ إبلاغكِ مسبقًا بشأن الدين. أليس هذا تقصيرًا مني؟”
كان هذا خطأً بالفعل من جانبه كمحامٍ، ولكن من الغريب أن يُقدّم عرضًا كريمًا كهذا لمجرد خطأ بسيط.
كانت نواياه مُريبة للغاية؛ فهو الذي ظلَّ يحاول التنصل من الأمر، ثم فجأة أظهر استعداده لتحمل مسؤولية أخلاقية.
سألته بحذر: “لماذا تثق بي لتُقرضني مبلغًا كبيرًا كهذا؟”
كان يمكنني بسهولة الهرب بثلاثة آلاف قطعة ذهبية.
وحتى لو دفعت الدين وأجلت الموعد، فلن يجني كليف أي فائدة.
ردَّ بصوت خافت يحمل في طياته اعتذارًا:
“في الواقع، أحتاج إلى ضمانٍ مناسب.
لا داعي للقلق، إنه ضمانٌ شكلي فقط”
إذًا، ها قد انكشفت دوافعه.
تبادرت الأفكار إلى ذهني، وكنت مستعدة لذلك.
قلت بلهجة مترددة: “ماذا عن قصر راينلاند؟”
لو كان عرضه بدافعٍ خالص، لوافق على القصر كضمان.
إنه قصرٌ غير قابل للبيع، لكنه مناسب تمامًا كضمان شكلي.
ضحك كليف بهدوء وأجاب: “القصر يبدو ضمانًا فعليًا أكثر من كونه شكليًا.
لا أحتاج إلى قصرٍ لأنني لا أُقرض المال للسيدة”
إذًا، القصور ليست خياره المفضل.
أخفيتُ ملامحي الحادة خلف وجهٍ متردد. بدا كليف وكأنه ينتظر مني تقديم شيء آخر.
سألني فجأة: “ألا تملكين أي لقب يُمكن استخدامه كضمان؟”
أجبته بريبة: “أليس هذا غير قانوني؟”
قال بابتسامة ماكرة:
“لهذا السبب سيكون ضمانًا على الورق فقط.
في الواقع، حتى لو لم تتمكني من السداد، لن أتمكن من المطالبة به”
لا، لا بد أن لديه طريقة ما.
بالتأكيد خطط ليجد ثغرة قانونية تمكنه من الاستيلاء على لقبي.
إنه محامٍ، ولن يعجز عن تحقيق ذلك.
‘هل يهدف كليف إلى استخدامي ليصبح كونتًا؟’
هل يعتقد أنني ساذجة؟ تظاهرت بالتردد، وراقبته بتركيز.
قال لي مُحاولًا تهدئتي: “لا تقلقي يا سيدتي”
كان عرضه مثيرًا للشكوك بشكلٍ واضح، ومع ذلك بدا وكأنه لا يتوقع مني أن أرفض.
ولكن، لو كنتُ جوديث السابقة، لربما وقعتُ في الفخ بسهولة.
كانت ضعيفة الإرادة وسريعة التأثر.
ربما كانت سترتجف أمام تهديدات المرابي، وكانت ستقبل عرض كليف دون تفكير.
أما الآن، فأنا شخص مختلف تمامًا.
جوديث القديمة لم تعد موجودة.
قلت بابتسامة خافتة:
“أشكرك على عرضك الكريم، سيد كليف.
لكن بعد التفكير مليًا، أجد أنني سأُثقل عليك كثيرًا”
رفضت عرضه بجدية، متظاهرة بالتردد ومُحركة يدي بعفوية مصطنعة.
كنت أعلم أنه يعرف جوديث القديمة بضعفها، ولهذا السبب رفضت بما يتماشى مع صورتها في ذهنه.
“لا، سيدتي، ليس هناك أي ثِقل…”
قاطعته بنبرة خفيفة:
“آه، هذا بالضبط ما أعنيه بالإزعاج.
أنا شخص لا يستطيع التوقف عن إزعاج الآخرين”
فتحت باب قصر راينلاند كما لو كنت أهرب، وقلت له:
“إذا متُّ، لن أزعجك أبدًا”
“لا تهتم بي بعد الآن، سيد كليف.
مساعدتك السابقة كانت كافية”
حاول التحدث مجددًا: “لكن سيدتي، دعيني أوضح…”
تصرفت كأنني بطلة مأساوية، دفعت كتفه بخفة وأغلقت البوابة.
وقفت خلف القضبان الحديدية، ورفعت قليلاً طرف ثوبي، وانحنيت له بأدب بينما كان يبدو مترددًا في المغادرة.
قلت بابتسامة مصطنعة:
“لا يمكنني احتمال فكرة أن أُكلف رجلاً طيبًا مثلك ثلاثة آلاف قطعة ذهبية.
يا لك من رجل طيب ونبيل، لتحل البركة عليك”
حملت الأغراض التي قدمها لي وهربت إلى داخل القصر.
“اعذريني…”
مدَّ يده بتردد، لكنها سقطت عبثًا.
أطبق قبضته على قبعته، ثم انفجر ضاحكًا بسخرية.
قال لنفسه بتهكم:
“هل الحياة ما زالت تستحق كل هذا العناء، أم أنها مجرد امرأة لا تستطيع التمييز بين الصواب والخطأ.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ10
“أنتم، يا من تطاردون الناس بالديون…
هل لانت قلوبكم لمجرد أنني امرأة وحيدة؟”
كان يظن أن ظهور أحد المرابين سيكفي لبعث الرعب في نفسها، لكنها خيّبت ظنه.
وقفت بثبات، وكأن الموقف لا يعنيها.
الرجال… لا يبدّلون طباعهم أبدًا.
رمق كليف القصر بنظرة خاطفة قبل أن يستدير نحو حصانه، وقد صمّم على استغلال لحظة وهن في موقف جوديث ليقنعها بالتوقيع على المستندات التي تُمكّن والده من تولي منصب نائب الكونت.
حتى لو قدّم لها ثلاثة آلاف قطعة ذهبية، فإن دينها البالغ مئتي مليون يظل عبئًا يستحيل دفعه.
وحين تعجز، ستُسلَّم إلى سميث، وهناك… سيُفوَّض والد كليف باختيار الوريث الشرعي للقب.
ومن سيكون ذاك الوريث؟ لا شك أنه كليف نفسه.
خطة مكلفة، نعم، لكنها تفتح له أبواب المجد والكونتية.
“سيكون أمرًا مؤسفًا، آنسة هارينغتون،
إن سارت الأمور بينكما على ما يُرام…”
قفز كليف على صهوة جواده، ودفع باللجام نحو خادمه وهو يأمره:
“اذهب إلى الكازينو، وابحث عن ليون هارينغتون”
—
قالت جوديث:
“أعتقد أن كليف هو من دبّر زواجنا.
ألم تقل، يا سيدي إيرن، أنك على تواصل معه؟”
أجاب إيرن وهو يحدّق في زجاجة النبيذ التي منحتها له المركيزة:
“إن كنتِ تعنين كليف، فأنا أعرفه حق المعرفة…
لقد كان رجلًا حسن المعشر”
“ولِمَ تقول ذلك؟”
“كان يتكفّل بثمن الشراب دومًا”
يا له من معيار للسخاء.
كادت أن تصفعه سخريته الفجّة.
“ربما هو من قتل ليون، طمعًا في الزواج بكِ ونيل اللقب”
“أو ربما كان ينوي قتلك، ثم وجد طريقة أخرى للسيطرة على الكونتية”
ازدحمت في رأسها أفكار لم تطق البوح بها.
“ثمّة أمر يحيّرني…”
“ما هو؟”
“هذا النبيذ… أشعر أن أحدهم شرب منه قبلي”
“لأن ذلك صحيح”
“والممرّ هنا… فارغ بشكل مريب”
كأن محاولة القتل لا تستحق الالتفات، مقارنةً بزجاجة خمر.
“هل التقطته من مكان ما؟”
“أتظنّ أنني وجدت خمرًا فاخرًا مرميًا في الطريق؟”
“وشربتِ منه؟”
“… نعم”
كذبت دون وعي، وكأنها كانت تأمل في تفهّمه إن اعترفت بتجربتها لقطرة.
“يا لكِ من كاذبة.
من أين حصلتِ عليه؟”
“من المركيزة فيرني.”
حين سألت جوديث عن بقايا النبيذ، ناولتها المركيزة الزجاجة دون تردد، مدّعية أنها هدية لم ترُق للمركيز فركنتها في المخزن.
“طالما أن مصدره معلوم، لا ضرر من تناوله”
لكن إيرن كان يحدّق بريبة في المطبخ، يتأمل مكوناته: براعم متعفّنة، خبزًا يابسًا، ولحم خنزير تنبعث منه رائحة كريهة.
“وهل أعطتك المركيزة هذا أيضًا؟”
“نعم”
“إنها تعاملك كمتسوّلة”
ما إن يغدو الكرم على هيئة نفايات، حتى تتلاشى النية الحسنة.
“هل أسدت إليك معروفًا يومًا؟”
كان صوته باردًا، وكأن ما تلقّته من إذلال أثار غضبه.
“سألتني إن كنت أنا من أعطاكِ النبيذ الذي توسلتِه”
أي جنون هذا؟ أرادت أن تنتزع الزجاجة من يده، لكنها تماسكت.
“اشربه إن راق لك.
لا تتصوّر أن هذا الخمر رخيص الثمن”
أزالت جوديث العفن عن البطاطا، قشّرتها، وغمرتها في الماء البارد.
“انظر…
الماء يعيد للبطاطا حياتها.
أما لحم الخنزير، فإن نظّفته جيدًا وأضفت عليه التوابل، خفتت رائحته”
“لكن…
ألا يزعجك أن تُعاملي كمعدمة؟ ألا يُجرَح كبرياؤك؟”
ابتسمت جوديث بهدوء:
“لديّ كرامة… لكنها مرنة قليلاً”
نظر إليها إيرن بدهشة.
“رأيت مفاصل مرنة، وعقائد قابلة للانثناء…
لكن كرامة مطاطية؟ تلك جديدة!”
“لا تسخر مني.
الكرامة لا تُطعم جائعًا”
أي قيمة للكِبر حين يهاجمك الجوع؟
كانت جوديث مؤمنة بأن البقاء رهين بالواقعية، لا الاعتداد بالنفس.
“لن تُصبح ثريًا وأنت تقتات على الفتات”
“حلم جميل…
أن تصبحي ثرية وأنتِ غارقة في دينٍ بمئتي مليون!”
“ألا تحلم بالثراء؟”
في الحقيقة، إيرن لم يفكر فيه قط.
مذ وطأت قدماه مقر الكونت في الراين، لم يعرف الجوع، ولم يطمح بشيء.
“وماذا ستفعلين بالمال؟ هل تملئين أصابعك بالخواتم؟”
“سأعيش بطمأنينة، وآكل ما أشتهي”
“الراحة؟ رفاهية؟”
“كلمة غريبة”
“لا رفاهية في خطتي”
كل ما تطمح إليه بسيط: منزل باسمها، حصان، عربة، وسائق.
وربما خادمة تساندها وتؤنس وحدتها.
وإن امتلكت محلًا صغيرًا تؤجّره، يكفل لها دخلًا مضمونًا.
“خطة عظيمة… بعيدة عن التواضع، مع ذلك”
هزّ إيرن رأسه وهو يفتح الزجاجة التي أقسم قبل قليل أنه لن يلمسها.
“سأشرب على مضض… أما طعامك، فلن أذوقه”
عقدت جوديث حاجبيها وهي تُعدّ يخنة اللحم، عازمة ألا تذيقه منها إلا حين يتوسّل.
وحقًا، حين انتهت، مدّت إليه الطبق بتمنّع، فتظاهر بالرضا وأكل منه.
قال وهو يغرف منه بنهم:
“طعمه لا يرتقي إلى المستوى المطلوب”
ثم يفرغ الطبق؟! كتمت سخريتها وهي ترفع الأواني.
سَغْرَق.
“هممم؟”
صوت غريب.
هل سمعه؟
سَكْرَك.
“من أين يأتي؟” سألت وهي تميل برأسها.
“ما الأمر؟”
“ألست تسمع صوت حشرات تزحف؟”
“لا شيء”
هل تهيّأ لها؟ لكنها متأكدة أنها سمعته…
فركت أذنها بقلق، بينما ضاقت عينا إيرن بشكٍّ لم يُخفه.
لا… لا يمكن… ليس هنا…
—
“هل تفقدت كل الأماكن التي طلبتُ منك التحقيق فيها؟”
سأل إيرن خادمه الوفي هنري، الذي أوكل إليه تتبّع تحركاته الأخيرة، كونه لا يستطيع الظهور علنًا بعد ادّعائه الموت.
“نعم، وكدتُ أنهار من كثرة السؤال”
بدأ هنري من النزل الذي أقام فيه إيرن بعدما اضطر لمغادرة القصر إثر تمرّد الإمبراطورة.
ورغم كونه أحد فرسانها، فقد نجا من الإعدام بفضل إنقاذه للإمبراطورة الجديدة.
ثم اختار حياة بسيطة، بلا مأوى دائم.
“تتذكّر ابن صاحب النزل؟ كان فتى في الخامسة عشرة، يتولى إيصال طلباتك”
“أجل، أذكره”
“قال إنك خرجت في موعد”
موعد؟ حاول إيرن التذكّر… دون جدوى.
“ذهبتَ إلى الحانة المعتادة.
ماذا قال صاحبها؟”
“لم ألتقِ به”
“ولمَ لا؟”
“توفي في حادث عربة.
لكن سمعت أمرًا غريبًا من أحد العاملين هناك”
اتضح أن الرجل، قبل موته، كان ينفق بشكل مبالغ فيه، رغم قلة مدخوله.
“ربما تقاضى مالًا ليضع السمّ في شرابك، أو شاهد من فعل…
ثم سُكت بالمال، وأُسكت بعدها إلى الأبد”
مدّ إيرن يده وقال: “ناولني الإكسير”
تردّد هنري ثم أخرج زجاجة صغيرة من معطفه.
“هل تنوي استخدامه؟”
“ألستَ من أحضره لهذا الغرض؟”
“لكن الضحية… زوجتك”
“أظن كذلك.
لكن يجب أن أتحقق…
لمرة واحدة فقط، قبل أن أُقدم على ما لا رجعة فيه”
تلألأت زجاجة إكسير الحقيقة بين أصابعه، كأنها تحمل وعدًا بكشف المستور.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 17 - من الفصل المئة والحادي والستون إلى المئة والتسعة والستون «النهاية». 2025-09-05
- 16 - من الفصل المئة والحادي والخمسون إلى المئة والستون. 2025-09-05
- 15 - من الفصل المئة والحادي والأربعون إلى المئة والخمسون. 2025-09-05
- 14 - الفصل المئة والحادي والثلاثون إلى المئة والأربعون 2025-09-05
- 13 - الفصل المئة والحادي والعشرون إلى المئة والثلاثون. 2025-09-05
- 12 - من الفصل المئة والحادي عشر إلى المئة والعشرون. 2025-09-05
- 11 - من الفصل المئة والحادي إلى المئة والعاشر. 2025-09-05
- 10 - من الفصل الحادي والتسعين إلى المائة. 2025-08-23
- 9 - من الفصل الحادي والثمانين إلى التسعين. 2025-08-23
- 8 - من الفصل الحادي والسبعين إلى الثمانين. 2025-08-23
- 7 - من الفصل الحادي والستين إلى السبعين. 2025-08-23
- 6 2025-08-23
- 5 - من الفصل الحادي والأربعين إلى الخمسين. 2025-08-23
- 4 - الفصل الحادي والثلاثين إلى الأربعين. 2025-08-23
- 3 - من الفصل الحادي والعشرين إلى الثلاثين. 2025-08-23
- 2 - من الفصل الحادي عشر إلى العشرين. 2025-08-23
- 1 - من الفصل الأول إلى العاشر. 2025-08-22
التعليقات لهذا الفصل " 1"