1
الفصل الأوّل: الدوقة لا تُخفي طباعها الحادّة
فتحتُ عينيّ فكان الأرضُ أمامي.
‘حتّى قولهم إنّ الخمور الباهظة لا تُسبّب صداعًا كذبٌ أيضًا’
تحت خدّي المُلقى على الأرض ، شعرتُ بنعومة سجادة فاخرة.
مثل هذه الأشياء الباهظة كانت من الكماليّات التي لا يحلم بها موظّف صغير فقير مثلي ، لذا لا بدّ أنّني سكرتُ حتّى التخمة و أنا أبكي على حالي ثمّ سقطتُ نائمة في مكانٍ ما.
بينما أفكّر كذلك و أحكّ ذقني ، التصقت بأطراف أصابعي كتلة حمراء داكنة كالدم.
“ما هذا … دم؟”
لكنّه لا يمكن أن يكون دمًا بالفعل ، لا بدّ أنّني تقيّأتُ كلّ ما شربتُه ليلة أمس من كثرة السّكر ثمّ أغمي عليّ.
احترق جوفي كأنّه يذوب.
نهضتُ متعثّرة و نظرتُ حولي بعينين ضبابيّتين. كان عليّ أوّلًا أن أعرف أين أنا.
‘ربّما مسكنٌ لكبار الموظّفين أو شيء من هذا القبيل’
لكنّ المشهد الذي دخل مجال رؤيتي كان مختلفًا جدًّا عمّا توقّعتُ.
على سريرٍ نظيفٍ بلا تجعيدة واحدة ، كانت متناثرة زهور برتقاليّة بيضاء و زهور وردٍ حمراء ، و أعشابٌ طبيّة و أعشابٌ مجفّفة.
و عند رأس السرير كانت هناك ملاءة كتّانيّة بيضاء نقيّة مطويّة بأناقة.
كانت جميعها رموزًا واضحة لليلة الزّفاف الأولى.
‘لماذا هذه الأشياء هنا؟’
بينما أنظر حولي في حيرة ، وقعت عيناي على مرآة التزيين.
في المرآة البعيدة، كانت تقف امرأةٌ جميلةٌ فاتنة إلى درجة تجعل الوردة المتفتّحة تمامًا تخجل و تُطرق رأسها.
شعرٌ ناعمٌ كأنّه يحمل ضوء القمر ، و عينان زرقاوان شفّافان كبحيرة الشتاء.
ملامح واضحة إلى درجة تُصدّق أنّها دمية ، و شفتان حمراوان طازجتان.
جمالٌ يُذهل أيّ من يراه.
“هذه … أنا؟”
الوجه الذي أتذكّره لنفسي لم يكن هذا …
اقتربتُ من المرآة في ذهول.
و في اللحظة التي التقت فيها عيناي بعينيّ في المرآة ، اجتاحني ألمٌ كأنّ رأسي ينفطر.
غمرتني ذكرياتٌ لا تُحتمل كتسونامي هائل.
‘لا تُعطوها قطرة ماء واحدة حتّى تفتح فمها الآثم! إذا خالفتم الأمر بدافع رحمة سخيفة ، سأقلع أظافر يديكم و قدميكم كلّها مثل تلك العاهرة. هل فهمتم؟!’
جدران حجريّة رطبة متعفّنة ، مكانٌ مظلمٌ لا تخترقه شعلة شمس واحدة.
كنتُ ملقاة في سجنٍ تحت الأرض.
كم مرّ من الوقت منذ جيء بي؟
لم أعد أميّز الليل من النّهار ، فانهار إحساسي بالزمن تمامًا ، و لم أعد أتمنّى سوى أن تنتهي هذه الحياة المؤلمة في أقرب وقتٍ ممكن.
‘آه ، صحيح’
أنا الأصليّة كنتُ موظّفة عاديّة.
في الحقيقة … لم أكن “عاديّة” تمامًا ، فقد عانيتُ كثيرًا بسبب أصلي المتواضع ، لكنّ لديّ حلمًا.
أردتُ أن أصبح موظّفة ممتازة خلفًا لوالديّ اللذين توفّيا مبكّرًا. لأجل هذا الحلم بذلتُ جهدًا يُذكر فيُفخر.
‘لكن …’
كان هناك تسرّبٌ لأسرار لومبارد إلى الخارج.
اكتشفتُ هذه الحقيقة و بدأتُ أتحرّى عن مصدر التسريب سرًّا ، فاكتشفني الجاني ، و انتهى بي المطاف بموتٍ بشعٍ في سجن التعذيب تحت الأرض.
استمرّ الجاني في تعذيبي بوحشيّة حتّى آخر نفسٍ لي.
‘هل تريدين معرفة سرّ؟ لا تلوميني أنا ، بل لومي ذلك السيّد. الذي رمى بكِ إليّ هو بالضبط―’
في آخر لحظة من حياتي ، كان وجه الجاني الذي يلوي شفتيه الحمراوين و هو يحمل مكواة مشتعلة واضحًا في ذهني.
“نعم ، لقد متُّ بالتأكيد …”
حدّقتُ بذهولٍ إلى ما خلف المرآة.
ابنة أخ الإمبراطور الوحيد الحاكم لإمبراطوريّة باليدين العظيمة ، و زوجة دوق لومبارد الكبير سيّد الشمال ، و فوق كلّ ذلك … المرأة التي رأيتُها في آخر لحظة من حياتي.
إليسيا التي كانت جميلة كالزنبقة البيضاء النقيّة من الخارج ، لكنّ داخلها شيطانٌ قاسٍ ، كانت تحدّق بي.
أردتُ ألا أشتم ، لكنّ الشتم خرج من تلقاء نفسه.
“يا للقرف”
هل كنتُ مقصّرة في عمل الخير في حياتي السابقة؟
لم أتذكّر أنّني فعلتُ شرًّا كبيرًا ، فما هذه اللعنة المرعبة؟
بينما أرمش بعينين مذهولتين ، فجأة خطرت لي فكرة فهرعتُ أتحقّق من التقويم.
“سنة 874 للتقويم الإمبراطوري …”
كانت بعد سنة موتي بحوالي أربع سنوات.
مهما بدا الأمر مستحيلًا ، فإنّ تلخيص الوضع يعطي هذه النتيجة تقريبًا.
أنا الّتي متّ في سجن التعذيب تحت الأرض عدتُ إلى الحياة كدوقة لومبارد. بل في صباح اليوم التالي لإقامة قدّاس الزفاف مع الدوق و إتمام ليلة الزفاف الأولى.
“سيّدتي لم تستيقظ بعد. عودوا لاحقًا من فضلكم”
“جئتُ بأمر السيّد. الأمر عاجل ، فاتركوني أمر!”
“مستحيل”
في تلك اللحظة ، اندلعت ضجّة في الممرّ خارج غرفة النوم.
يبدو أنّ الخادمات يمنعن رئيس الخدم في قلعة لومبارد الذي جاء لمقابلتي.
وقفتُ مذهولة لا أدري ماذا أفعل ، ثمّ أدركتُ فجأة الواقع الذي أنا فيه.
‘إذا دخل الناس الآن ، ماذا سيحدث لي؟’
انتفض جسدي برودة.
ميّتة عادت عبر الزمن ، بل و تلبّست جسد شخصٍ آخر؟
مهما نظر أحد إلى الأمر سيراني شيطانة أو مهرطقة. لو أخطأتُ خطوة واحدة لتمّ جرّي إلى محكمة التفتيش الدينيّة بلا شك.
‘سأموت موتًا أبشع من التناسخ … بل ربّما أبشع من المرّة السابقة’
رأيتُ في طفولتي محقق التفتيش من رهبانيّة دومينيكو التي تشرف على محاكم التفتيش.
مرّة واحدة فقط ، لكنّ جنونه المرعب لا يُنسى مدى الحياة.
“سيّدتي ، إنّني بيرتول. سأدخل قليلًا”
“يا لوقاحتك! ألم أقل لك إنّ سيّدتي نائمة الآن؟!”
ازدادت أصوات الشجار في الممرّ.
الباب لم يكن موصدًا. لو فتحه بيرتول بالقوّة ، سيرونني مباشرة و أنا واقفة في منتصف الغرفة بذهول.
هرعتُ في هلع إلى المرآة أتحقّق من هيئتي.
مسحتُ بقع السائل الأحمر الجافّ حول فمي بقوّة ، و غطّيتُ قميص النوم الملطّخ بشالٍ من الفرو.
ثمّ رميتُ نفسي داخل السرير.
“ما كلّ هذا الضجيج منذ الصباح؟”
مع صوتي توقّفت الضجّة خارج غرفة النوم لحظة.
بعد صمتٍ طويلٍ يوحي بأنّ شيئًا ما قد أصابه ، فتح رئيس الخدم بيرتول فمه متردّدًا.
“أه … سيّدتي؟”
لسببٍ ما بدا رئيس الخدم في غاية الارتباك.
قبل قليل كان يحاول اقتحام الغرفة مستندًا إلى أمر الدوق ، و الآن صار مؤدّبًا فورًا بمجرّد كلمة واحدة منّي.
‘هل بدوتُ مهيبة إلى هذا الحدّ؟’
بينما أعجب بنفسي لاكتشاف موهبة تمثيليّة لم أكن أعرفها ، تابع بيرتول كلامه متلعثمًا.
“حـ-حيّة … لا ، ليس ذلك”
للأسف ، لم يكن بسبب هيبتي ، بل لأنّ البرد القارس جمّد لسانه.
شتاء لومبارد في أقصى شمال الإمبراطوريّة قاسٍ إلى درجة تجمّد الوحوش ، فما بالك بالبشر.
“أعتذر لإزعاج راحتكِ. سأعود لاحقًا”
تذكّرتُ أنّ رئيس الخدم المسنّ يعاني كثيرًا من التهاب مفاصل الركبة. سيكون من العسير عليه صعود الدرج و نزوله مرّات في بردٍ كهذا.
لين قلبي فتحدثتُ بلطف.
“تقصد أنّك ستزعجني مرّة أخرى لاحقًا؟! تكلّم بما لديك بسرعة ثمّ اخرج!”
“أ-أعتذر”
بالطبع ، لكيلا يمسكني محققو التفتيش ، أضفتُ لمسة من أسلوب إليسيا الأصليّة.
فتح الباب بحذر ، ثمّ أطلّ بيرتول برأسه بحذرٍ أكبر.
ما إن التقت عيناه بعينيّ و أنا جالسة على السرير حتّى شحب وجهه كأنّه رأى شبحًا.
“كيف … بالضبط …”
“ما كلّ هذا الهذيان منذ قليل؟”
“لا ، لا شيء. صـ-صباح الخير ، سيّدتي”
دخل بيرتول متردّدًا و هو يحمل وثائق في يده.
بفضل ذلك استطعتُ توقّع سبب زيارته بسهولة.
في قلعة لومبارد حاليًّا لا توجد سيّدة للقصر—
بما أنّ الدوقة السابقة توفّيت مبكّرًا ، ظلّ بيرتول رئيس الخدم يدير شؤون القصر حتّى الآن ، لكن بما أنّ سيّدة جديدة دخلت ، كان عليه تسليم السّلطة إلى إليسيا.
لكن إذا فكّرنا في سمعة إليسيا …
‘لا يمكنه تسليمها بالطبع’
كانت شخصيّة مشهورة في الأوساط الاجتماعيّة في العاصمة ، بالمعنى السيّء طبعًا.
‘غبيّة بشكل مرعب ، تُبدّد خزينة القصر كالماء ، و طباعها قذرة ، هكذا كانت سمعتها’
إليسيا هي الابنة الشرعيّة الوحيدة لوليّ العهد الذي توفّي دون أن يرث العرش ، و كانت تتمتّع بحمايةٍ و تدليلٍ خاصّين من عمّها الذي اعتلى العرش بعده.
لم يوبّخها الإمبراطور مهما تكبّرت ، و كان يغطّي على كلّ فضائحها.
حتّى لو قطعت يد خادمة بفأس لأنّها مشطت شعرها بطريقة خاطئة ، أو دفعت سيّدة نبيلة من الشرفة لأنّها قالت لها كلامًا صريحًا ، أو وضعت طوقًا في عنق فارسٍ مرموق و جعلته يزحف كالكلب في حفلة استقبال.
‘لو سلّموا إدارة القصر إلى هذه المجنونة …’
يبدو أنّ بيرتول فكّر بالأمر نفسه ، فقدّم الوثائق بوجهٍ مصمّم كأنّه عقد العزم.
“هذه الوثائق يجب أن تعالجيها سيّدتي من الآن فصاعدًا”
“تقصد أن أعمل الآن؟”
“قد لا تكوني معتادة يا سيّدتي التي نشأتِ كأميرة مدلّلة في القصر ، لكن من الآن أصبحتِ سيّدة لومبارد ، فعليكِ متابعة كلّ كبيرة و صغيرة في الإقليم بنفسك”
كنتُ أعرف بيرتول إلى حدّ ما.
كان من المقرّبين جدًّا من الدوق ، صامتٌ و جادٌّ دائمًا ، يصعب معرفة ما في قلبه.
لذلك لم أفهم لماذا كان يرتجف كأنّه رأى ميتًا عاد إلى الحياة قبل قليل ، لكنّه عاد أخيرًا إلى طبيعته التي أعرفها.
آه ، برد لومبارد القارس يجمّد حتّى لسان رئيس الخدم الشجاع …
“اقرئيها بنفسك من فضلك”
رفعتُ عينيّ مندهشة من شرودي.
من النبلاء من لا يجيدون القراءة كثيرون. حتّى بين النبلاء الكبار و الأباطرة لم يكن ذلك استثناءً ، و إليسيا السابقة كانت كذلك أيضًا.
لا يمكن لرئيس الخدم أن يجهل هذه الحقيقة.
‘و مع ذلك يقول لي اقرئي فجأة. هل ينوي كسر هيبتي من البداية؟’
أو ربّما تصرّفٌ مدروس كي أبتعد تمامًا عن الشؤون الإداريّة.
مهما كان الأمر ، بدا لي تخويف رئيس الخدم مضحكًا. أنا أصلاً لا أنوي فعل شيء.
هل يظنّ أنّني سأعمل من أجل لومبارد مرّة أخرى بعد أن متّ من أجلها؟
‘لكن أن يحتقرني إلى هذا الحدّ مزعجٌ أيضًا’
بما أنّني صرتُ إليسيا ، فأنا أنوي أن أعيش بقيّة حياتي أتكاسل و آكل و أنام فقط ، لكن لأجل ذلك يجب أوّلًا أن أُحذّر من لا يراني سهلة.
دلّفتُ ببطء بإصبعي على غلاف الوثيقة.
“أليس هذا تقريرًا لا علاقة له بواجبات سيّدة القصر؟”
“ماذا فجأة …”
“تقرير إحصاء سكّان إقليم لومبارد”
ما إن نطقتُ بالعنوان حتّى تجمّد كتفا رئيس الخدم اللامبالي.
“مثير للاهتمام ، لكن لا أعرف ما علاقته بي. بيرتول ، هل حان وقت اعتزالك إن كنتَ تخلط بين وثائق بسيطة كهذه؟”
“هـ-هذا …”
شحب وجه بيرتول فورًا.
حدّقتُ به ثمّ تبسّمتُ بخفّة.
“لا داعي للتوتر إلى هذا الحدّ”
“نـ-نعم؟”
“أنا غير مهتمّة بالشؤون الداخليّة للومبارد. أعني أنّه لا داعي لهذه المقالب الطفوليّة. استمرّ في عملك كما كنتَ تفعل حتّى الآن”
طالما لا تمسّني بالطبع.
هل فهم الكلام المضمر؟ حسنًا ، طالما هو رئيس خدم في عائلة دوقيّة كبيرة، لا بدّ أن يكون لديه حدّ أدنى من الذكاء.
مع تحذيري ازداد وجه رئيس الخدم قتامة.
“أنا متعبة ، اخرج الآن”
“أشكر تسامحكِ سيّدتي”
ما إن سمحتُ له حتّى خرج بيرتول هاربًا كأنّه نسي الوثائق من شدّة الذعر.
بعد أن طردتُ كلّ الخادمات و بقيتُ وحدي ، حدّقتُ في الوثائق على الطاولة الجانبيّة.
كان تقريرًا رديئًا جدًّا على عكس ذكرياتي.
“من كُلّف بهذه المرّة حتّى خرج بهذا الشكل؟”
تقرير إحصاء سكّان إقليم لومبارد.
كان هذا التقرير الذي كتبته أنا بنفسي في الماضي عندما كنتُ موظّفة في لومبارد ، بعد أن قضيتُ سنة كاملة أركض بقدميّ.
لكن التقرير أمامي الآن كان مختلفًا حتّى في السّمك.
تمّ تقدير عدد سكّان القلعة الداخليّة تقريبيًّا ، و كانت هناك مناطق كثيرة تمّ إحصاؤها خطأ في القلعة الخارجيّة بشكل خاص.
‘هكذا ستحدث مشكلة في جمع الضرائب’
تأفّفتُ من الوغد الذي قدّم هذا الهراء كتقرير.
و في الوقت نفسه سخرتُ—
لقد صاروا يتلقّون تقارير أطفالٍ كهذه بمجرّد أن رحلتُ أنا.
“ها ، ممتع”
لم يكن يضرّني حتّى لو لم أسمع تقارير إدارة القلعة.
كلّ شيء موجودٌ في رأسي على أيّ حال.
التعليقات لهذا الفصل " 1"