مرّ أسبوع كامل منذ ذلك الحين.
حادثة استدعاء الشياطين، التي كادت أن تتكرر تمامًا كما حدث سابقًا، انتهت بعدما أعادت الساحرة القديسة إلى عالمها الأصلي.
وبتلك الحادثة، تكشّفت حقيقة ما جرى قبل مئة عام.
فقد تبين أن المملكة المُقدسة كانت هي المسؤولة عن استدعاء الشياطين، بينما كان السحرة هم الأبطال الذين أوقفوا فتح البوابة.
هاتان الحقيقتان أثارتا ضجة هائلة في أوساط الناس.
شعب الإمبراطورية، الذي أصيب بصدمة كبيرة، بدأ يتحدث عن الحقيقة المُرة:
“ الإمبراطورية نفسها هي من أعدمت أولئك الأبطال بيدها.”
تلك الحقيقة كانت الضربة الأكبر التي زلزلت كيان الشعب.
ومنذ ذلك الحين، لم يتوقف الناس عن الحديث عن السحرة ليلًا ونهارًا:
“ إذا كان الأبطال أنفسهم قد اتُهموا زورًا وقُتلوا، فماذا عن أمثالنا من المواطنين؟ ألسنا في خطر أكبر؟“
“ مجرد التفكير أن المرء قد يُقتل ظلمًا هكذا يُرعبني.”
وبسرعة، تحولت هذه الصدمة إلى فقدان للثقة في الإمبراطورية، فقدانٌ انتشر بين الناس كالنار في الهشيم، ولم يخفت بل زاد يومًا بعد يوم.
* * *
قاعة الاجتماعات الكبرى – قاعة الطاولة المستديرة
النبلاء العسكريون الذين طالما خنقتهم سطوة المملكة المُقدسة، رفعوا أصواتهم أخيرًا.
“ يجب معاقبة المملكة المُقدسة بشدة لتكون عبرة للآخرين، ولإعادة هيبة الإمبراطورية!”
“ صحيح، يجب أن يُتخذ موقف حازم!”
حتى النبلاء الذين لطالما سعوا للحفاظ على العلاقات الودية مع المملكة المُقدسة، لزموا الصمت وقد علت وجوههم تعابير العجز.
وفي خضم ذلك الجدل، اتخذ الإمبراطور قرارًا استثنائيًا.
أن تُمحى المملكة المُقدسة من على الخارطة بالكامل.
فقد بدأت الأدلة تتكشف، وأصبح من الواضح أن كبار الكهنة بمن فيهم أرييل، كانوا متورطين.
ولو تُركت الأمور على حالها، فلن يعود بالإمكان إعادة بناء أسس الإمبراطورية كما ينبغي.
وبالنسبة للناس، كان هذا القرار بديهيًّا.
“ لكن، ماذا عن الساحرة؟“
“ لقد أنقذت العالم بإعادة القديسة، ألن تُجازى على ذلك؟“
“ من يدري؟ هل ستحصل على تكريم؟“
“ لا أظن. لو كنت مكانهز، بعدما عشت مطرودة طوال حياتي، لكنت دمرت الإمبراطورية بيدي.”
“ هاي! انتبه لما تقوله، هذا كلام خطير!”
“ لكنك تعلم جيدًا أنها ليست بعاجزة. أليس من المعروف أن السحرة العظماء يملكون قوة تُغير وجه العالم؟“
حتى لو حاولت الإمبراطورية التستر، فالناس يعرفون في قرارة أنفسهم:
أن الساحرة تغاضت كثيرًا عن كل ما فعلته الإمبراطورية.
* * *
في المستشفى.
دخل نواه الغرفة ليحدث إيف عن ما يُتداول بين الناس.
“ يقولون إنك تستطيعين حكم الإمبراطورية إن أردتِ.”
ردّت إيف ببرود:
“ هذا لأنهم لا يعرفونني حقًا.”
ضحك نواه ساخرًا وهو يرفع كتفيه، لكن ملامحه لم تكن سعيدة.
رغم انكشاف براءتها، لم يظهر عليها الارتياح.
‘ لماذا كنت أعيش طيلة هذا الوقت بهذا القلق والتوتر؟‘
شعر بالأسى على والده ووالدته، وكل من خدم عائلته. وكذلك على شقيقته الجالسة أمامه.
“ أنتِ بالكاد تتحملين إدارة شؤون العائلة، فكيف ستديرين إمبراطورية؟! حينها حقًا سينقلب العالم رأسًا على عقب.”
“معك حق …”
ردّت إيف بجفاء، وزفر نواه بتبرم.
لو كان الوضع طبيعيًّا، لكان قد هاجمها على تقاعسها المعتاد، لكنها اليوم بدت بلا أي حيوية.
“ إلى متى ستظلين غارقة في هذا البؤس؟“
نظر نواه إلى إيف الجالسة قرب سرير باليريان، الذي لم يستفق بعد.
بدت وكأنها شخص آخر، ملامحها متعبة وقد انطفأ بريقها المعتاد.
“ يقولون إنه سيفيق قريبًا، أليس هذا كافيًا لتهدئي؟“
لكن كلامه المتفائل لم يجد صدى في وجهها، فقد كانت تحدق في باليريان بنظرة يائسة.
“ لكني لا أعلم متى سيستيقظ…”
* * *
مرت أيام.
ولم تُفتح عيناه المغلقتان ولو مرة.
وفي ذلك الضباب من المشاعر المتلاطمة، عادت بذاكرتها إلى اليوم الذي جاءت فيه إلى هنا لأول مرة.
عندما عاد باليريان وهو في غيبوبة، جاء الدوق لودفيغ فورًا لتفقد حالته.
“ المظهر الخارجي بخير… لكن مافي داخله فوضى.”
في الظروف العادية، لكانت قوة إيلا كفيلة بشفائه،
لكن الآن، قواه مختلّة، والطاقة الشريرة تعيث فسادًا في جسده.
لم يكن هناك ما يمكن فعله.
قال الدوق:
“ الزمن هو الدواء الوحيد.”
كأنه يقول لا علاج.
سقطت إيف على الكرسي في يأس.
لم يكن حزنها بسبب مرض حبيبها فقط، بل كان أعمق من ذلك.
كان الإحساس بالعجز، والندم، والذنب، يجثم على صدرها.
‘ لو لم يمنحني قوته… لو أنني انتبهت لسلوك أرييل في وقت أبكر…’
ربما كان قد نجا.
رغم معرفتها أن الندم لن يغير شيئًا، فإنها لم تستطع الهرب من مستنقعه.
“ أنا آسفة…”
نظر إليها الدوق لودفيغ بصمت. ثم قال، بنبرة لطيفة على غير عادته:
“ الشيطان في الأساس محتال بارع. لا تلومي نفسك على الوقوع في خداعه.”
حمّل الدوق الشيطان المسؤولية عن كل ما حدث، لا لإيف.
رغم أن ابنه يرقد بلا حراك، لم يُبدِ أي لوم أو غضب تجاهها.
“ لكن… لو كنتُ قد كشفت الحقيقة منذ البداية…”
ربما كان يمكن تفادي هذا المصير.
استمرت إيف في اجترار الندم.
لم تأخذ مشاعر باليريان على محمل الجد، بل فكرت فقط في نفسها وعائلتها.
رغم كلمات الدوق، لم يظهر على وجهها أي تحسن.
فالجميع يقولون إنها ليست مذنبة، لكنها لم تكن قادرة على تصديقهم.
قرأ الدوق ما يدور في داخلها، وتنهد:
“ أنا أيضًا، بعد أن فقدت ميلين، فكرت بنفس الطريقة.”
“ ميلين؟ تقصد… زوجتك الراحلة؟“
تفاجأت إيف بذكر الدوق لزوجته الراحلة.
أومأ برأسه.
‘ لكن… ما علاقة وفاتها بما يجري الآن؟‘
أطبقت إيف شفتيها، وراحت تنبش في ذاكرتها.
ميلين لودفيغ.
قبل أكثر من عشر سنوات…
كانت ميلين والدة باليريان البيولوجية وزوجة الدوق لودفيغ، قد لقيت حتفها في حادث عربة أثناء توجهها إلى بيت عائلتها.
هذا ما كان يُعرف في الأوساط الأجتماعية، وكذلك كانت إيف تظنه.
لكن ما سمعته الآن من الدوق خالف تمامًا ما كانت تظنه.
“ كان يومًا عاديًّا كأي يوم… صباح ذلك اليوم، وصلني تهديد، يقول إنه إن لم أتوقف عن نشاطي كـ إيلا، فإن الأشخاص من حولي سيتعرضون للأذى.”
روى الدوق ذكرياته بنبرة هادئة، وكأن لا شيء استثنائي في الأمر، لكن الحزن الذي انعكس في عينيه الزرقاوين لم يكن خافيًا تمامًا.
“ بالطبع، تعاملت مع الرسالة باستخفاف، ظننتها من أحد المتطفلين كما حدث كثيرًا من قبل. لقد كنت مغرورًا… ظننت أنني أستطيع حمايتها مهما حصل.
لكن تلك الليلة، أثناء توجه ميلين إلى منزل عائلتها، كانت قد اختفت.”
“لا يعقل …”
“ بلى، كان ذلك من فعل الشياطين. حين علمت باختفائها، كان الأوان قد فات.”
توقفت أنفاس إيف عند سماع خفايا تلك المأساة التي لم تُروَ من قبل.
“ ومنذ ذلك اليوم، اعتزلت نشاطي كـ إيلا.”
كانت إيف على علم بأن دييغو لودفيغ أعلن فجأة اعتزاله مهمة القضاء على الشياطين كـ إيلا، وقد صدم الجميع حينها، لأن لم يتوقعه أحد.
“ لم يتبقَّ مني سوى قشرة فارغة، لا أمل في أن أعود كما كنت.”
صمتت إيف، ولم تجد ما تقوله.
“ وعلى مدار أكثر من عشر سنوات، كنت أعيش مشلولًا بالذنب، ألوم نفسي على موت ميلين…
وأنتِ، هل تظنين أن موت باليريان الآن يقع على عاتقك وحدك؟“
“ بالطبع لا! ما فعله الشيطان لا يجب أن تحمّله لنفسك، سيدي الدوق… لا أرى سببًا لتشعر بالذنب!”
لم يجبها الدوق، لكن إيف فهمت تمامًا ما كان يحاول إيصاله.
“ لا تتعاملي مع كلامي وكأنه مجرد عزاء تقليدي… حقًا، ما حدث ليس ذنبكِ.”
كان لكلماته المخلصة وقعٌ كبير على قلبها، إذ وجدت فيها عزاءً صادقًا لم تكن تتوقعه.
بل وراودها خاطر.
ربما كانت تلك الرقة التي يتمتع بها باليريان قد ورثها من والده، لا أكثر.
لكنها لاحظت أيضًا أن نظرة الدوق نحو ابنه كانت تحمل تعقيدًا لا يمكن تجاهله.
“ على الأقل، باليريان أفضل حالًا مني.”
“…….؟ “
“ لأنه تمكن من إنقاذ من يحب… على عكسي.”
ثم غادر الدوق الغرفة بعد أن ألقى بتلك الكلمات الهادئة.
✦✦✦
( ملاحظه غير مهمه: قاعده ابكي وانا اترجم)
مرّ أسبوع منذ ذلك الحين.
كانت إيف غارقة في الذكريات عندما ناداها نواه، فقطع شرودها وأعادها إلى الواقع.
“ ما زال لا يتحسن؟“
“ همم، كما هو الحال دومًا…”
لم يكن بيدها فعل الكثير وهي إلى جواره، سوى أن تفتح الستائر في الأيام المشمسة، لتدع الشمس تتسلل إليه.
ومنذ أن بدأت بمرافقته، لم يكن هناك يوم واحد غائم.
فقد كانت تُبعد الرطوبة عن السماء باستخدام السحر، لتُبقي الأجواء صافية دائمًا.
‘ عليّ أن أفعل هذا على الأقل، ليتعافى بأسرع ما يمكن.’
لم يتخيل أحد أن فتاة تتحكم بالطقس لأجل شخص واحد فقط.
حتى نواه الجالس بجانبها، لم يكن يدري بشيء.
‘ سيقول إنني أتصرف بجنون إن عرف.’
نظرت إيف إليه بطرف عينها، بضيق واضح.
لا بد أن مجيئه لم يكن من باب الفضول فقط، فبالتأكيد هناك سبب.
“ وماذا تريد؟“
“ آه، صحيح!”
صفق نواه بيديه وكأنه تذكر شيئًا للتو.
“ جئت لأبلغك أن جلالته يريد مقابلتك، تمامًا في الساعة الثالثة.”
‘ يال لطف هذا الأخ، أليس كذلك؟‘
قالها نواه بلا مبالاة، وكأنما يخبرها أن الغداء كان لذيذًا.
فتحت إيف فمها من الصدمة، لا من الغضب.
لكن ثمة شعور غريب تملّكها…
… ما الذي سمعته للتو؟ يبدو كأنه أمر ينذر بالخطر؟
“ ماذا؟! انتظر، الساعة الثالثة؟!”
أسرعت إيف بنظرها إلى الساعة.
كانت عقاربها تشير إلى الثانية وخمس وأربعين دقيقة.
المسافة من غرفة المرضى إلى قاعة الاستقبال الملكية تستغرق أربعين دقيقة مشيًا، عشرين دقيقة ركضًا…
أو خمس عشرة دقيقة إن ركضت بجنون.
قفزت من مكانها كالمصعوقة.
“ أجننت؟! ولم تخبرني إلا الآن؟!”
صرخت فيه بغضب، بينما انفجر نواه بالضحك.
“ بدوتِ مكتئبة، فقلت أرفع معنوياتكِ قليلًا–”
بووم!
بلكمة في معدته، أسكتته قبل أن يتم جملته.
ثم هرعت إلى الخارج وهي تصرخ:
“ اعتنِ بريان جيدًا في غيابي!”
“آغغ … أااه …”
كان نواه ملقى على الأرض، ممسك ببطنه، غير قادر على الوقوف.
لم يكن يصلح لا للتمريض ولا لغيره، وعلى الأغلب سينتهي به الحال طريح الفراش بجانب باليريان.
صرخ في داخله، بينما تلاشت أفكاره وسط دوامة من الدوخة…
__________
ترجمه: سـنو
واتباد :
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 97"