كما في المرة السابقة، وقف أسموديوس أمامها على هيئة صبي لم تتغير.
من خلال القضبان الصغيرة في الأعلى، كانت أشعة الغروب تتسلل إلى القبو، صابغةً الجو بلون الأصيل.
قال مبتسمًا بسخرية:
“ لأنك مسكينة، سأكون طيبًا وأوضح لك الأمر. السحرة لا يملكون قدرة على شفاء أحد. كل ما يستطيعونه هو الهجوم والإيذاء، لا أكثر.”
صرخت يوري:
“ آآاه!”
ثم هرعت مذعورة لتختبئ خلف إيف، ويداها المرتجفتان تمسكان بكتفها من الخلف.
أما إيف، التي كانت تواجه الصبي، فنطقت باسمه ببطء:
“… أسموديوس؟“
ضحك أسموديوس وهو يهز كتفيه قائلًا:
“ أوه، يبدو أن آبادون لم يتمالك نفسه وأفشى كل شيء.”
ثم أضاف بابتسامة:
“ نعم، أنا هو. ها نحن نلتقي مجددًا هنا.”
اتجهت عيناه الحمراء القانية نحو باليريان الذي كان فاقدًا للوعي مستندًا إلى الجدار.
“ كنت مدينًا لإيلا بردّ ما، لكن أولًا…”
وفي لحظة، كان قد اقترب من خلف إيف ومدّ يده نحو يوري.
نظرة إيف انطلقت كالسهم بين يوري وأسموديوس، تراقب كل حركة بحدة.
قال أسموديوس وهو يبتسم ابتسامة باردة:
“ يجب أن أبدأ بأخذ القديسة أولًا، أليس كذلك؟“
انتبه لوجوده كلٌّ من لوغان ويوري في اللحظة الأخيرة، فصاحا مذعورَين:
“ آآاه!”
“ سيدتي القديسة!”
وحين أمسك أسموديوس بذراع يوري، سحبها بقوة، ولم يكن بوسعها سوى الصراخ بينما تُجرّ بلا حول.
كل هذا حدث في لحظة، ولم يكن هناك متسع لإنقاذها.
عاد أسموديوس إلى الوقوف فوق الرموز السحرية، وجعل حوله درعًا سحريًا من جديد، وعيناه تشي بالملل، كأن الأمور تسير بسهولة مفرطة.
أما إيف، فرغم كل ما حدث أمامها، لم تتحرك قط.
كانت تحدق بهدوء، كأنها فقدت صلتها بالعالم.
نظر إليها أسموديوس مشدوهًا، ثم مال برأسه باستغراب.
“… همم؟ هل استسلمتِ فقط لأن حبيبك مات؟“
لم تجبه، وكانت عيناها الحمراوان تحت رموشها تبدوان خاويتين.
همست يوري بصوت مرتجف، وقد امتلأت عيناها بالحزن واليأس:
“…إيف أوني .”
هل كانت لا تزال غير قادرة على مسامحة نفسها بعدما تسببت بموتها تقريبًا؟
لقد قضت يوري وقتها في هذا المكان وهي تسمع أحاديث أرييل وأسموديوس والعديد من الشياطين.
ومن خلال تلك الأحاديث، أدركت مدى خبث الشياطين وقسوتهم، كما فهمت كل ما جرى في الخفاء.
وعرفت كذلك أن السحرة وحدهم من يستطيعون إعادتها إلى عالمها الأصلي.
فلا أمير على حصان أبيض في هذه القصة.
وخصمتها التي كانت تعتبرها منافسة في الحب، اتضح أنها الوحيدة التي يمكن أن تنقذها.
‘… في الحقيقة، لم أظن أبدًا أن أوني ستأتي لإنقاذي.’
لذلك حين رأت إيف تخاطر بحياتها من أجلها، أصابها الذهول.
هل اندفعت إلى الموت من أجل فتاة ارتكبت في حقها كل تلك الأفعال؟
أثناء مداواتها لإيف، كانت يوري تعض شفتيها حتى نزف الدم.
لو كنتُ مكانها… لما خاطرت بحياتي هكذا لإنقاذي.
هذا طبيعي.
كانت ترى أن تخلي إيف عنها هو أمر منطقي تمامًا.
فهي السبب في إصابة إيف وكادت أن تودي بحياتها، لذا حتى لو أنقذتها إيف، فلن يُعد ذلك فضلًا منها.
عجزه يوري عن إنقاذ من تحبه جعل إيف تشعر بأنها بلا أي قيمة في نظرها.
وبالنظر إلى كل ما فعلته بها، كانت مقتنعة بأن الهجر هو المصير الذي تستحقه.
يوري تخلّت عن كل أمل.
ابتسم أسموديوس بارتياح وقال:
“ لقد فكّرتِ جيدًا. لم تكوني على وفاق معها من الأساس، أليس كذلك؟ فلتكن هذه فرصتك للانتقام.”
ثم تابع مبتسمًا:
“… لقد أطل القمر.”
تمتمت إيف وهي تنظر إلى النافذة الصغيرة في السقف.
كان ذلك إيذانًا ببدء الخسوف.
صرخ بها لوغان بجزع:
“ ماذا تفعلين؟! هل تنوين أن نُقتل جميعًا؟!”
رمقته إيف بنظرة جانبية وردت ببرود ساخر:
“ نعم. باليريان لا أمل في نجاته، فما الفائدة من الاستمرار في هذا العالم الحقير؟“
صاح لوغان مستنكرًا:
“ ما هذا الجنون؟! ألا تدركين عواقب تصرفاتك؟!”
لكن إيف تجاهلت صراخه تمامًا، واستمرت في التحديق بهدوء إلى السقف.
كانت عيناها الحمراوان شاخصتين نحو القمر، وكأن لا شيء آخر يهم.
ضحك أسموديوس بصوت عالٍ وصفق قائلاً:
“ رائع! تفكير ذكي للغاية.”
لقد وجد في هذه الساحرة شيئًا مختلفًا، فبعض البشر حقًا يملكون جانبًا ممتعًا.
كان يعلم من خلال معاركه العديدة أن البشر يفقدون إرادتهم بسرعة حين يصاب أحبّاؤهم.
‘ آه… البشر مخلوقات هشة حقًا.’
أما الشياطين، فلا يهتمون كثيرًا بموت رفاقهم.
فمنذ نشأتهم، اعتادوا أن يعتمدوا على أنفسهم دون عاطفة.
إنهم كائنات أسمى من البشر في جوهرهم.
ولذا، فإن احتجازهم في هذا القبو المهين، أمر لا يُغتفر.
كانت نشوة الانتصار والتطلّع لتحقيق ما سعى إليه منذ قرون تتملكه.
وفي غمرة نشوته، بدأ يشعر بأن أصابعه لم تعد كما كانت.
“ فهمت… لكن يا أسفاه، فقد فات الأوان يا أيها الشيطان.”
قالتها إيف بابتسامة هادئة تشبه تلك التي كان يرسمها هو على وجهه.
ابتسامة مشرقة وجميلة، لكنها مشبعة بالسم كزهرة سامة.
زمجر أسموديوس وهو يحدّق فيها مظهرًا أنيابه:
“… ماذا فعلتِ بي؟“
لم تجب، بل تقدمت نحوه بهدوء.
صاح لوغان محذرًا، إذ لم يفهم ما الذي يجري.
“ ابتعدي! هذا خطر!”
لكن إيف لم تُعره أي انتباه.
اقتربت من يوري، ثم نظرت إليها بثبات ومدت يدها.
أمسكت يوري بتلك اليد الممتدة أمامها بتردد.
ضغطت إيف على يدها قليلًا، وجذبتها نحوها.
ذلك الفعل البسيط كان بمثابة الخلاص الكامل ليوري.
وخلال ذلك، لم يكن بوسع أسموديوس سوى المشاهدة بعينين محمرتين لا يقدر على الحراك.
‘ هل فكّت تعويذة الحماية؟‘
لم يصدق أن هذا الكم المعقد من السحر قد فكّ في لحظة واحدة.
سأل لوغان، وقد اقترب من إيف:
“ لماذا… لماذا فعلتِ ذلك؟“
تذكرت إيف المعركة التي خاضتها في الزنزانة ضد أسموديوس.
تحديدًا، اللحظة التي وضع يده على عنقها ليخنقها.
عندها، سرت طاقتها السحرية إلى جسده عبر يده، وجعلت حركته تتباطأ.
ولذا، حين أمسكت بيد يوري، مرّرت إيف طاقتها السحرية من خلالها إلى جسده.
ولكن بحذر شديد حتى لا يتمكن من التمييز بين القوة المقدسة التي تنبع من يوري والسحر الذي بثّته فيها.
‘ثم …’
تظاهرت عن قصد بالاستسلام واليأس، وتركت يوري تذهب، حتى توهِمَه بالأمان وتدفعه إلى الاسترخاء والحذر.
في تلك الأثناء، كانت إيف قد نجحت في فكّ رموز التعاويذ الدفاعية المنصوبة داخله.
كما أنها كسبت ما يكفي من الوقت لتتغلغل طاقتها السحرية التي ما زالت عالقة بداخله في جسده بالكامل.
توجّهت عينا إيف الحمراوان نحو القضبان الصغيرة في الأعلى.
كانت الشمس تغرب، والسماء توشك أن يغمرها الظلام.
لقد بدأ الخسوف.
ظهر دائرة سحرية كبيرة تشعّ بضوء ساطع عند قدمي يوري. وفي اللحظة ذاتها، تحوّلت طاقة آس السوداء إلى شكلٍ حادّ أشبه بالشفرة، وانطلقت مهاجمةً نحوهم.
لكن تلك الطاقة السوداء اصطدمت بجدار غير مرئي، فتبعثرت كضباب ممزق.
رمشت إيف بهدوء وقالت:
“ لا جدوى من ذلك.”
‘ لقد طبّقت نوعًا من التعديل على تعويذة الحماية السابقة.’
وقفت يوري داخل الدائرة السحرية، تحدّق بعينين دامعتين وقد شعرت أن لحظة الوداع قد اقتربت، فتمتمت بصوت مرتجف:
“ أنا آسفة… أوني….”
أجابتها إيف بابتسامة باهتة، بدت دافئة ولكن خالية من القوة:
“ فكّري به ككابوس… ثم انسَيْه.”
“ هذا ما سأفعله أنا أيضًا.”
وفي اللحظة التالية، ظهرت دائرة سحرية أخرى.
ولكن هذه المرة، كانت تحت قدمي آس.
حين رأت إيف ذلك الضوء الأحمر القاتم يتراقص في تلك الدائرة المريبة، ارتسمت على شفتيها ابتسامة غامضة.
ابتسامة أبرد من الجليد، وأعمق من الهاوية.
ومع بدء الخسوف، انطلقت أنوار الدوائر السحرية معًا.
✦ ✦ ✦
غمرت يوري أضواء بنفسجية مشرقة، وارتفع جسدها في الهواء للحظة، ثم هبط سريعًا إلى الأرض.
فتحت عينيها بفزع، إذ بدا لها المكان مألوفًا بطريقة غريبة.
“ هذا المكان… ؟“
في تلك اللحظة، فُتح الباب بعنف، واقتحمته سيدة تصرخ:
“ يوري! قلتُ لكِ اذهبي إلى المدرسة بسرعة—! يا إلهي! ما الذي جرى لك؟!”
“ أمّــاه!!”
عرفت يوري وجه والدتها، وأجهشت بالبكاء وهي تركض لتعانقها.
لقد عادت أخيرًا.
عادت إلى بيتها الدافئ… والمليء بالحنان.
✦ ✦ ✦
كان جنود الإمبراطورية بمدرّعاتهم الذهبية يطوّقون الكنيسة، قلب المملكة المقدسة.
وذلك استعدادًا لاقتحامه فور إطلاق إشارة من الساحرة أو رفاق إيلا في الداخل.
لكن… لم تصدر أي إشارة.
هل هذا يعني أن الأمور تسير بسلاسة؟
أم أنّ الوضع في الداخل بلغ من السوء حدًا لم يترك لهم حتى فرصة إشعال إشارة استغاثة؟
ومع بدء الخسوف، ابتلع الفرسان الجافّ من حلوقهم بتوتر بالغ.
وفي المقدمة، كان ولي العهد زافيير واقفًا بين صفوفهم.
حاول الجميع من مستشارين وقادة إقناعه بعدم القدوم.
بحجّة أن الجيش يحتاج إلى قائد يُصدر الأوامر في حال وقوع طارئ.
لكن زافيير اتخذ قراره.
‘ إن فتحت بوابة الأبعاد وجاءت الشياطين، فلن يجدي التنسيق شيئًا… سيكون الأمر فوضى.
الأفضل أن أكون في قلب المعركة، فذلك سيكون أكثر نفعًا لشعبي.’
هكذا حكم.
“ مولاي! هناك ضوء يسطع هناك!”
صرخ أحد الفرسان مشيرًا بإصبعه إلى بقعة ما. لحق زافيير ببصره فورًا.
‘ إنه السحر.’
شدّ قبضته على سيفه، وقد شحب وجهه.
لم يكن الفرسان أقلّ ذعرًا، لكنهم أخفوا خوفهم خلف نظرات مصمّمة وقلوب متحفّزة.
سادت حالة من التوتر العميق بين صفوف الجنود.
عندها…
“ مولاي!!”
انطلق صوت مألوف من جهة ما. التفت زافيير والفرسان جميعًا نحو مصدره.
كان لوغان كلاين، يركض من داخل الفاتيكان وهو يصرخ في هلع:
“ هناك مصاب!!”
كان جسده مغطى بكدمات طفيفة، وبدا عليه الإرهاق الشديد… فهل كان المصاب هو نفسه؟
‘ هل يمكن أن يكون هذا جزءًا من خدعة شيطانية؟‘
تذكّر زافيير أن الشياطين قادرون على تقمّص هيئات البشر.
وبينما كان وجهه يزداد تصلّبًا وتوجّسًا، صرخ أحد الفرسان بجانبه مشيرًا بإصبعه بذهول:
“ذا …ذاك الشخص …!!”
بدأت همهمات الذهول تنتشر بين بقية الجنود.
شعر زافيير بشيء مريب، فاستدار نحو المكان الذي تشير إليه الأنظار.
وهناك خلف لوغان، رأى شخصًا قادمًا يجري نحوهما، ففتح فمه بغير وعي، مذهولًا مما يراه:
“ هاه… هيكك… أرجوكم… أنقذوا ريان!!”
كانت إيف إستيلّا، تبكي وتصرخ وهي تركض باتجاههم، حاملة باليريان على ظهرها.
_____________
ترجمه: سـنو
واتباد :
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 96"