“ رئيسة الكهنة!”
صرخ لوغان مذعورًا وهو يندفع نحوها. وما إن التفتت إيف نحو الصوت ورأت أرييل، حتى بدا عليها الذهول، لكنه كان ممزوجًا بالارتياح.
‘ أرييل ما زالت على قيد الحياة!’
كان شعرها مبعثرًا، لكن لحسن الحظ، لم تظهر عليها أي إصابات ظاهرة.
غير أن سؤالًا مباغتًا راود إيف فجأة.
‘ لماذا حُبست القديسة مع رئيسة الكهنة في غرفة واحدة؟‘
حين لمحت أرييلَ إيف ورفاقها، بدأت بالكلام ووجهها مبلل بالدموع.
“ هاه… إيف، باليريان، لقد أتيتما لإنقاذنا… يا له من أمر مفرح…”
رغم الرعب الذي سيطر على ملامحها، كانت مشاعر الارتياح والأمل واضحة على وجه أرييل.
وقبل أن يقترب منها لوغان، أمسكت به إيف تلقائيًا.
“ ما الأمر؟“
تجهم لوغان مستغربًا، لا يفهم سبب منعها له.
تمتمت إيف بخفوت:
“ هناك أمر غير طبيعي…”
‘ لماذا الرباط بهذا التراخي؟‘
منذ أن لاحظت أن أرييل والقديسة مقيّدتان معًا، راودها الشك، ولاحظت أن العقدة التي تربط أرييل كانت أضعف مما ينبغي.
كانت الأمور غير منطقية منذ البداية.
وما لبثت أن استخلصت أكثر الأسئلة بداهة:
‘ لماذا قتلوا البابا وأبقوا أرييل حيّة؟‘
كانت أرييل تحدّق مباشرة في عينيها القرمزيتين، ثم سعلت سعالًا خفيفًا، وقالت بصوت واهن:
“ أنتِ تشكّين بوجودي هنا، أليس كذلك؟ يمكنني تفهّم ذلك تمامًا.”
عمّ وجهها حزن عميق.
“ كنت أختبئ، لكنني وقعت في قبضة أولئك الشياطين الأوغاد بينما كنت أحاول إنقاذ القديسة… كان عليّ أن أختبئ بشكل أفضل…”
تقلصت عينا باليريان وهو يستمع لها.
فقد كان قد تلقى تحذيرًا من زافيير قبل قدومه:
“ رئيسة الكهنة أرييل، التي زارت القصر الإمبراطوري، لها علاقة بالشياطين دون أدنى شك.”
أشار زافيير إلى تصرفات أرييل المريبة في قاعة الاستقبال، محذرًا إياه.
وبناءً عليه، كان هناك احتمالان:
إما أن تكون أرييل التي جاءت إلى القصر ليست سوى شيطان متنكر، أو…
أن تكون أرييل نفسها خادمة للشياطين.
لكن الشيء المؤكد هو أن من تقف أمامهم الآن، إنسانة.
اقترب باليريان منها بحذر.
لم يكن هناك وسيلة لمعرفة ما إذا كانت عميلة للشياطين الآن، ولهذا، كان الخيار الأكثر أمانًا هو إفقادها الوعي وأخذها إلى القصر الإمبراطوري.
“ ريان!”
نادت إيف بصوت مرتفع، لتقطع خطوته.
فقد شعرت بطاقة سحرية مشؤومة تنبعث من أرييل.
كانت خفيفة لدرجة أن حتى باليريان لم يشعر بها.
وفي اللحظة التالية—
بدأت بقعة تحت قدمَي باليريان تتلألأ بسواد غريب.
“ باليريان!”
حاول أن يتراجع بسرعة حين سمع نداءها، لكن ظلًا أسود أمسَك بساقه.
وفي ذات اللحظة، تحررت أرييل من قيودها، وأخرجت شيئًا من طيات ثوبها.
كان أسطوانة زجاجية تحتوي على سائل شفاف.
صوّبتها نحو باليريان بقوة، ثم رشت محتواها باتجاهه.
لكن إيف، التي لاحظت الحركة قبل أن تُتمّها، قفزت بينه وبين السائل.
تصرف غريزي.
“…….؟ “
نظرت إيف بدهشة إلى السائل الشفاف الذي نُثر عليها.
كان له رائحة زهرية منعشة، على نحو مريب.
“ ما الذي يحدث هنا؟“
لكن قبل أن تستوعب ما يجري، بدأت تشعر بضعف شديد يجتاحها، وفقدت توازنها.
“ما هذا؟ …”
بدأ نظرها يتلاشى، وضباب كثيف غطى عينيها.
لم يكن الإحساس كالمرة السابقة حين استُنزفت طاقتها السحرية قسرًا ، تلك المرة كانت عاصفة، أما الآن، فكان وكأن كل طاقتها تُسحب منها بهدوء تام.
“ ماذا فعلتِ بها؟!”
صرخ باليريان، وقد أدرك أن شيئًا غريبًا يحدث لإيف، فقتل الأفاعي السوداء تحت قدميه بسيفه المقدس، ثم اندفع نحو أرييل.
ضحكت بخفوت، وقالت:
“ هاهاها… كنت أنوي قتل إيلا أولًا، وترك الساحرة لأَس… لكن يبدو أن الأمور أصبحت أسهل مما توقعت.”
اندلع غضب شعواء في عيني باليريان، فأمسك بذراعها وكسرها دون تردد.
“ آآآه! … هاهاها.”
رغم الألم، ضحكت أرييل.
“ ما الذي تهذي به؟…”
حاولت إيف استيعاب ما يجري، لكن كل الأصوات باتت مشوشة وغير مفهومة.
كان جسدها يغوص شيئًا فشيئًا في هوة سحيقة.
لم تستطع الصمود، وسقطت على الأرض.
رأت من خلال نظرها المشوش ابتسامة أرييل المظلمة.
‘ اللعنة…’
أرادت أن تصرخ أو تلعن، لكن حتى النطق كان فوق طاقتها.
وفي الجهة الأخرى، نظر باليريان داخل الأسطوانة، وشمّ الرائحة.
كانت مألوفة على نحو مزعج.
“هذا …”
تذكّر ما حدث في صغره، حين أصيب بتلك المادة السامة في غابة الوحوش أثناء قتاله ضد أحد الشياطين العظيمة.
تلك الزهرة البيضاء التي تشبه زهرة الزنبق، والمعروفة بأسم…
زهرة السحر.
سمّها لا يؤثر على البشر العاديين، لكن على من يمتلكون طاقة سحرية، فهو قاتل.
حتى إيلا، الذي كان يتملك طاقة شمسية، لم يستطع مقاومته.
بينما يستطيع الإنسان العادي الذي يعيش بلا طاقة سحرية تحملها، فإن إيلا كان مثل نبات لا يعيش دون الشمس.
في ذلك الوقت، أنقذه والده.
وكان قد نجا بفضل قوة إيلا التي منحها له والده.
‘ لكن، الساحرة؟…’
تذكر ما قرأه ذات مرة في كتاب قديم “ بالنسبة للسحرة، المانا ليست مصدرًا للقوة فحسب، بل للحياة ذاتها.”
وفجأة، توقف كل تفكير لديه.
“ س– سيدي لودفيغ! إ– إن الآنسة إستيلّا… تنفسها غير طبيعي!”
صرخ لوغان، بعد أن تفقد حالة إيف وتبيّن أن وضعها خطير.
اهتزت يد باليريان، وبدأ جسده يشعّ نورًا.
كان نورًا قويًا لدرجة أن من حوله لم يستطيعوا فتح أعينهم.
أُحاط جسده كله بضياء يشبه الشمس.
واختفى الظلّ الأسود الذي كان يمسك به فورًا، بينما انطلق النور من جسده نحو أرييل مباشرة.
“ آااااااااه!!”
صرخت أرييل وهي تحترق بالكامل بذلك النور المقدّس.
كانت المعاناة تفوق الألم الذي شعرت به عندما كُسرت ذراعها.
أطرافها بدأت بالذوبان تدريجيًا، ارتجف جسدها، وبكلمات تقطّعت بالدموع، توسلَت:
“ ب– باليريان! كل هذا… كان لأجل المملكة المقدّسة! أنت على الأقل… يجب أن تفهمني!”
رفعت وجهها تنظر إليه برجاء.
لكن عيناه الزرقاوان، رغم محيط النار من حولها، كانتا باردتين كالجليد.
“ إن كان هذا هو السبيل لحماية المملكة المقدسة…”
قالها بصوت بارد كالسيف.
“ فهي لا تستحق البقاء.”
“ آآآااااه! أَتجرؤ على معارضة مشيئة الإله؟!”
صرخت أرييل بألم عظيم، وهي تحترق.
نظر باليريان إليها، وهي تذوب ببطء بوجه خالٍ من أي تعبير.
لكن عينيه لم تكُنا كذلك.
كانت مشتعلة بغضب أشد من حمم البركان.
كان يستطيع أن يُنهيها بقوة إيلا، لكنه لم يفعل.
بل اقترب منها بخطوات ثابتة.
“ أنت لستِ بشرًا… بل شيطان.”
استل سيفه المقدّس، وبضربة واحدة، قطع عنقها.
سقطت أرييل أرضًا، ميتة.
موت قسيسٍ على يد سيفٍ مقدّس… أقبح أنواع الموت وأكثرها عارًا.
كان لوغان يراقب المشهد دون أن ينبس بكلمة، ثم فجأة صرخ:
“ آنستي! تنفّسي!”
هرع باليريان إلى جوار إيف، وجثا على ركبتيه.
“…إيف .”
ارتجفت يده وهو يلمس وجهها.
كان باردًا على نحو لا يمكن لإنسان أن يكون عليه.
أسوأ حتى مما كانت عليه حين أُنقذت من الزنزانة.
وجهها شاحب تمامًا، عيناها مغمضتان، ولا تبدو عليها أي علامة حياة.
تنفّسها صار واهنًا جدًا.
شعر باليريان بحدسه… إن تركها الآن، ستموت.
أمسك يدها فورًا، وبدأ يصبّ فيها قوة إيلا كما فعل والده معه.
تدفقت هالة دافئة ذهبية حمراء نحو جسدها.
لكن جفنيها لم يتحركا، وحرارة جسدها لم تعد.
بعكس ما حدث في الزنزانة، بدا أن قوة إيلا لا تخترق جسدها، بل تنفصل عنه كالماء والزيت.
حاول مرارًا وتكرارًا، محاولًا فهم السبب.
ثم أدرك الحقيقة.
لقد فقدت المانا من جسدها… ومعها، فقدت الحياة.
قوة الشمس تستطيع تجديد الطاقة السحرية، لكنها لا تستطيع إحياء الموتى.
“ سيّدي… أظن أن الأمر قد انتهى.”
قال لوغان بصوت خافت، وجهه يملؤه الحزن.
كان باليريان يعلم أن الأمر ميؤوس منه.
ومع ذلك، تمسك بها كما لو كانت آخر ما يملك.
جلس قابضًا على يدها، رأسه منكّس، كأن كل شيء قد انهار من حوله.
من يفهم ما يشعر به رجل يرى من يحب تحتضر، دون أن يستطيع إنقاذها؟
ابتلع لوغان ريقه بصعوبة، ثم قال بصوت متهدّج:
“… ألا يجدر بنا إنقاذ القديسة أولًا؟“
“ انتظر.”
رفع باليريان رأسه فجأة، وعيناه الزرقاوان تتوهجان بوميض غريب.
حدّق في يوري، القديسة الساقطة في الجوار.
إن كانت يوري، التي تمتلك أقدس طاقة روحية ما زالت حيّة… فقد تتمكن من إنقاذ إيف.
وبتلك الفكرة الوحيدة، نهض واقترب منها بخطى سريعة.
“ س– سيّدي لودفيغ! ألم تقل الآنسة إيف سابقًا إن يوري محاطة بحاجز واقٍ؟! لا يمكنك الاقتراب منها بتسرّع، الأمر خطير!”
حذره لوغان بصوت مرتعب.
لكن فاليريان لم يتراجع. واصل تقدمه نحو يوري دون تردد.
“………”
كلما اقترب باليريان من يوري، كما قال لوغان، ازداد شعوره بطاقة غير مرئية ومزعجة تحيط بالمكان.
كانت طاقة سحرية مظلمة وكئيبة، لدرجة أنها أثارت في النفس شعورًا بالقرف.
ولمواجهة تلك القوة الثقيلة والملتصقة كالوحل، أطلق باليريان ما بداخله من طاقة الشمس.
لكن حتى هذه القوة لم تكن كافية لكسر التعويذة.
وفي تلك الأثناء، كانت أنفاس إيف تصبح أضعف شيئًا فشيئًا.
عندها، شد باليريان على أسنانه غيظًا، ثم انفجر من جسده نور دافئ وساطع كحرارة الشمس، فغمر أرجاء الغرفة كلها.
______
ترجمه: سـنو
واتباد :
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 94"