كان الشياطين المتنكرون بزيّ الكهنة يتفحصونهم بنظرات بطيئة وثقيلة.
يبدو أن حضور إيلا والمجموعة المرافقة والساحرة مباشرة إلى هذا المكان قد أثار استغرابهم، إذ بدت على وجوههم علامات الضيق والارتياب.
“خذوا الساحرة وإيلا، كل واحد منكم يتكفل بأحدهما.”
وفي لحظة، تحولت أيدي الشياطين إلى أسلحة حادة تشبه الشفرات، ثم انقضّوا بسرعة نحو إيف وباليريان.
كانت حركتهم أسرع من أي شيطان قابلوه من قبل، ما جعل الجميع يتوترون على الفور.
رأى باليريان الشياطين يقتربون منهم بسرعة خاطفة، فسحب سيفه المقدس فورًا، أما إيف فاستدعت قوتها السحرية وبدأت بتلاوة تعويذة.
[إييلو!]
كوّنت إيف في يدها عصًا ضخمة من الجليد وصدّت بها هجوم الشياطين.
“ما هذا السلاح الغريب؟ أليس من المفترض أن يكون سيفًا؟!”
سأل لوغان بصوت مرتبك وسط المعركة.
كانت العصا الجليدية التي تحملها إيف بطول متر تقريبًا وأسمك من جسدها.
“لأني لا أجيد استخدام السيوف.”
ردّت بهدوء وهي تهوي بعصاها على شيطان مندفع.
بووم!
صوت تهشُّم مدوٍّ تلاه ارتجاف جسد الشيطان الذي سقط أرضًا يتلوى.
“كياااااه!”
وبينما كان يصرخ، تحطّم جسده بفعل الضربة وتحول إلى رماد.
بدا كأنها مجرد عصا جليدية بسيطة، لكنها في الواقع كانت مشبعة بالسحر.
عندما شاهد الشياطين ذلك، تراجعوا قليلًا بتوجّس.
“ساعدينا هنا أيضًا، أرجوك!”
قال لوغان وهو يشتبك مع شيطان آخر بنبرة ملحّة.
تجاهلته إيف للحظة، ثم استدارت فجأة وسددت ضربة قوية بعصاتها على العدو الذي كان يواجهه.
–بووم!!
رؤية الضربة عن قرب كانت صادمة بحق. كانت قوة مروّعة لا يُستهان بها.
ابتلع لوغان والفرسان المحيطون بإيف ريقهم بتوتر.
شعور غريب انتابهم، وكأن كلمة واحدة خاطئة قد تجعلهم في مرمى تلك العصا المهلكة.
أحسّت إيف ببعض الحرج، كأنها استعرضت قوتها بلا قصد، لكنها أخفضت رأسها وتظاهرت بالهدوء.
أما باليريان، فكان يتحرك بخفة وأناقة وهو يقطع رؤوس الشياطين بسيفه المقدس.
حركاته كانت نظيفة ودقيقة، تدل على خبرة طويلة في قتال الشياطين.
الفرسان كانوا بالكاد يخوضون معركة حقيقية، إذ كل ما عليهم فعله هو السير خلف باليريان.
وإيف لم تكن أفضل حالًا، إذ بمجرد أن تفكر في استخدام سحرها، يكون الشيطان قد لقي حتفه بسيف باليريان قبل أن يصرخ حتى.
لقد بدا كقطار جامح يكتسح كل ما في طريقه من شياطين.
هل كان يمكن لباليريان أن ينهي هذه المهمة وحده؟
أدركت الآن لماذا قال إن حضورهما فقط يكفي.
كانت قد أرادت في الأصل أن تمنعه من استخدام قوة إيلا، لكنها باتت قلقة الآن من حالته وهو يستخدم كل هذه القوة دون تردد.
ومع اقترابهم أكثر فأكثر من قاعة التعليم، بدت الوجوه أكثر توترًا وجديّة.
بعضهم أصيب بجروح وكدمات، لكنهم جميعًا وصلوا بأمان.
في الحقيقة، كان الانفصال عن المجموعة والبقاء وحيدًا في المنتصف هو الخطر الأكبر.
بمجرد أن تُفتح البوابة، يكون الموت محتومًا.
كان شعور المسؤولية الثقيلة يسيطر عليهم.
“انتظروا.”
قال باليريان وهو يحدّق في باب قاعة التعليم. ثم تابع بصوت خافت:
“الطاقة الشيطانية خلف هذا الباب… مرعبة. تختلف تمامًا عن أي شيطان واجهناه حتى الآن.”
استدار نحو لوغان وبقية الفرسان وقال:
“من الآن فصاعدًا، من دوني ودون إيف، اعتبروا أنفسكم كيانًا واحدًا في القتال.”
ثم أضاف بنبرة باردة وهو يعيد نظره إلى الباب:
“فقط بهذه الطريقة قد تنجون… وقد لا تنجون حتى مع ذلك.”
“لا يمكن أن يكون هذا حقيقيًّا…”
شحبَت وجوه الفرسان. أما باليريان، فتوجه نحو إيف وألقى عليها نظرة مليئة بالقلق.
رغبته في استبعادها من هذه المعركة كانت واضحة، لكنه لم يملك خيارًا آخر.
فكرة اصطحابها إلى هذا الخطر كانت تقضّ مضجعه، وأزرق عينيه امتلأ باليأس.
“إيف، لا تفارقي جانبي أبدًا. مفهوم؟!”
لو لم تؤكّد له قبل القدوم إلى هنا أن السحرة وحدهم قادرين على إعادة القديسة إلى عالمها الأصلي، لما اصطحبها.
دوره الآن هو أن يحميها ويوصلها إلى حيث القديسة بأمان.
“حسنًا.”
أومأت إيف بسرعة. لم تكن تفكر أصلًا في الابتعاد عنه.
لو حدث شيء لباليريان…
يجب أن تكون قريبة منه لتساعده وتحميه.
هل أكرر ما فعلته سابقًا؟
وبينما كانت تراقب حالته بعين حذرة، حاولت استشعار تدفق الماء داخل القاعة، وهمّت بتحريك شفتيها لتتمتم تعويذتها…
“تراجعوا جميعًا!”
صرخ باليريان فجأة، وأسرع ليضم إيف إلى صدره ويبتعد بها عن مدخل القاعة.
–بوووم!!
في اللحظة التي سقطا فيها على الأرض، انفجر الجدار أمام قاعة التعليم. ومن بين الحطام، بدأت الشياطين تخرج بخطى ثقيلة.
بعكس الشياطين الذين تنكروا بزيّ الكهنة العاديين، كان هؤلاء يرتدون ملابس الكهنة الكبار.
“ما هذا؟ التخفي في الظلال واستخدام السحر؟ ألا تعتقدون أن ذلك جُبن قليلًا؟“
قال أحدهم بابتسامة ساخرة. وكان هو ميغيل، أقرب المساعدين لرئيسة الكهنة أرييل.
عرفوه فورًا، لكن ما رأوه لم يكن ميغيل، بل شيطانًا قد استولى على جسده.
كان الشيطان يلحس شفتيه وهو يتفحّصهم جميعًا.
“كأنكم جرذان خرجت من جحورها.”
شددت إيف على شفتيها بقلق.
متى حدث هذا؟
قبل مجيئهم إلى هنا، لم يكن ميغيل بين الكهنة المقيدين.
هل يعني هذا أنهم قتلوه أيضًا؟
طردت هذه الفكرة المزعجة من رأسها وهمست لباليريان:
“بما أنه استشعر طاقتي السحرية، فلا يمكن أن يكون شيطانًا عاديًّا.”
“هوه، ذكية…”
قال الشيطان وهو يقترب خطوة، مبتسمًا ابتسامة خبيثة.
“أنا آبادون، أحد نخبة الشياطين المخلصين لسيدنا الأعظم، الشيطان الكبير أسـمـوديوس.”
كان واضحًا أنه يعشق التباهي. ومع ذلك، لم تكن كلماته عادية على الإطلاق.
شيطان عظيم؟!
اختفت الدماء من وجوه الفرسان. وحتى إيف اتسعت عيناها بدهشة.
لم تكن تتخيل أن ما قرأته في الكتب عن الشياطين العظام حقيقي.
قال باليريان إنه واجه واحدًا في صغره…
حين ذهب إلى غابة الوحوش ليتدرب على استخدام قوة الشمس، واجه شيطانًا عظيمًا، وكان هو الوحيد الذي نجا من بين كل الفرسان.
إن كان هذا الكلام صحيحًا، فهذا يؤكد شيئًا واحدًا.
أن القديسة موجودة في الداخل. وإلا، لما أُوكلت حماية هذا المكان لواحد من أتباع الشيطان الأعظم.
قال شيطان آخر بجانب آبادون:
“آبادون، سيدنا أسـمـوديوس منعنا من الحديث الشخصي.”
“أوه، هذا صحيح.”
ردّ آبادون وهو يحكّ رأسه وكأنه نسي الأمر فعلًا، ثم تمتم بضجر وهو ينهال عليه باللوم، قبل أن يميل برأسه ببطء:
“لكن منذ متى يُسمح لوغد مثلك أن يتطاول عليّ؟“
“لا، لم أقصد-“
بووم!
طار رأس الشيطان في لحظة، قبل أن يُكمل جملته.
حدث كل شيء في غمضة عين، وساد الصمت المشوب بالرعب.
‘طباعه ليست سهلة…’
فكرت إيف، وعيونها الحمراء وميضها الحذر.
‘الآن… علينا الهجوم فورًا.’
كان الوقت مناسبًا لاستغلال تشتّت انتباههم. لا بأس إن بدا ذلك غير نزيه، فالنزاهة لا تُطلب وسط حرب حياة أو موت.
[إييل…]
كانت قد بدأت بتمتمة تعويذتها، حين…
“……!”
ظهر آبادون أمامها فجأة وهو يكشف عن أنيابه بابتسامة تهديدية. في يده سيف أسود بالكامل، حتى نصلُه كان داكنًا.
“التحايل لم يعد رائجًا في صفوفنا، تعلمين؟“
شعرت إيف بنية القتل تنبعث منه، فتابعت تعويذتها فورًا.
[إييلو!]
ظهرت أمامها جدار جليدي شفاف وسميك على الفور.
بوووم!!
الصوت الذي نتج عن اصطدام السيف بالجدار لم يكن مجرد احتكاك، بل بدا كقنبلة انفجرت في المكان.
بشقّ الأنفس تمكّنت إيف من تشكيل جدارٍ جليدي صدّت به الضربة، ثم لهثت وهي تلتقط أنفاسها.
لقد كانت المسافة الفاصلة بين الحياة والموت ضئيلة للغاية.
لو تأخرت لحظة واحدة فقط، لكانت رقبتها قد طارت في الهواء بذلك السيف.
‘هل سأتمكّن من صدّ الهجمة التالية أيضًا؟‘
لكنها لم تحصل حتى على فرصة لالتقاط أنفاسها، إذ لحق بها أبادون من الخلف.
‘ما هذه السرعة؟!’
رغم أنها كانت قادرة حتى الآن على تتبع حركات الشياطين الذين واجهتهم، فإن ما فعله أبادون قبل قليل لم يكن مجرد استعراض، بل سرعته كانت خارقة لدرجة أنها لم تستطع حتى رؤيته.
لم تكن هناك حتى لحظة لتفتح فمها وتنطق بتعويذة.
رنّ في أذنيها صوت احتكاك نصلين حادّين يتصادمان.
وعندما التفتت، رأت نصل أبيض يشتبك بعنف مع نصلٍ أسود، يصطدمان بشكل حاد وشرس.
“……..”
كان باليريان، الذي واجه أبادون بسيفٍ مقدّس، قد شعر بأنّ شيئًا ما ليس على ما يرام، وعبس قليلاً.
رفع أبادون كتفيه بلا مبالاة وقال:
“آه، هذا السيف لا يتحطم أمام سيفٍ مقدس.”
غطّى ضوء ذهبي مائل إلى الحمرة النصل الذي يحمله باليريان، فقد كان يفعّل قوة إيلا. ومع ذلك، لم يهتزّ السيف الأسود أدنى اهتزاز.
“ولا يتأثر بالحرارة أيضًا.”
ابتسم أبادون بسخرية، فغشيت وجوه الفرسان الذين يشاهدون المعركة ملامح الذهول والقلق.
أن يكون هناك سيف لا تؤثر فيه قوة إيلا؟ هذا يعني أن الموقف قد انقلب بالكامل لصالح العدو.
لكن ما إن سمعت إيف تلك الكلمات، حتى تذكّرت فجأة شيئًا.
أنا أعرف هذا السيف.
في القصة الأصلية، عندما خاض باليريان معركة ضد شيطانٍ اختطف يوري، صرخ ذلك الشيطان قبل أن يموت، غارقًا في الحسرة:
“لو كان معي سيف الظلام فقط! لكنت قد سحقت إيلا تمامًا…”
سيف الظلام.
على عكس السيوف المقدسة التي تستمدّ قوتها من الشمس والنور، فإن سيف الظلام يستمدّ طاقته من الظلام، وقد صُنع خصيصًا لمعادلة قوة السيف المقدس وقوة إيلا.
وهذا يعني…
أنه قد يكون ضعيفًا أمام البرودة.
إن لم أنجح، فلا ضرر في المحاولة.
فجمعت على الفور الرطوبة المحيطة بالسيف، وجعلتها تلتصق به، ثم قامت بتجميده في لحظة.
“……..؟“
شعر أبادون بشيء مريب بحسّه الفطري، فالتفت نحوها. في تلك اللحظة كان باليريان قد حرّك سيفه بسرعة خاطفة.
تألق السيف المقدس الأبيض بخفة ساحرة وهو يندفع نحو سيف الظلام ويصطدم به.
•تشااانغ!
بدأ سيف الظلام يتشقق بشكل طفيف. وقد أدركت إيف من ذلك أن السحر بدأ يؤثر فيه، فركّزت نظرها على تلك التشققات.
أكثر برودة… بعد، القليل فقط.
بدأت الرطوبة تتجمد بسرعة شديدة. وعندما فهم أبادون ما تنوي فعله، اندفع نحوها بنظرات مرتبكة.
لكنّ سيف باليريان المقدّس كان قد رسم قوسًا ناعمًا وهو يتّجه مباشرة نحو عنق أبادون.
✦ ✦ ✦
“آه، ألا يجدر بكِ الاستسلام؟“
قالت أرييل بابتسامة دافئة وهي تحدّق من علٍ إلى يوري التي كانت ترتجف وتلهث.
“هذا التمرّد لا طائل منه سوى إهدار طاقتك، صدقيني.”
“كح… لماذا… تفعلين هذا؟…”
لم تكن يوري قادرة على استيعاب ما تقوم به كبيرة الكهنة.
رفعت عينيها المُرهقتين ونظرت إلى أرييل التي لا تزال تبتسم بلطف.
فأجابت أرييل بصوتٍ يفيض بالعطف كمن يوبّخ طفلًا مدللًا:
“كل هذا من أجل تضحية نبيلة لصالح المملكة المقدسة يا سيدتي القديسة.”
وفي تلك اللحظة، صدر صوت طقطقة خافتة. انتبهت أرييل فجأة ورفعت رأسها.
لقد قام أحدهم بسحب الرافعة الميكانيكية(التي تفتح باب القبو).
________
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 92"