“لا يُعقل… هذا وقت الصلاة المسائية.”
بدت ملامح باليريان وكأنه لم يصدق الأمر.
الصلاة المسائية كانت تُعد أكثر أهمية من صلاة الصباح،
لأنها تُؤدى لشكر الإله على نعمة الحياة قبل ختام اليوم.
“أنا جادة. الرطوبة في الهواء… باردة جدًا.”
“باردة؟“
“نعم.”
عندها تجهم وجه باليريان بجدية واضحة.
“انتظري لحظة.”
أغمض عينيه. وحين شعرت هي بدفء يحيط بالمكان، أدركت أنه استخدم قوى إيلا.
“…لا وجود لأي بشري هنا.”
“بشري؟“
كان في نبرة كلامه شيء غريب. وقبل أن تتمكن إيف من طرح تساؤلها، تابع حديثه:
“الشيـاطين فقط هم من يملؤون المكان.”
“…ماذا تقول؟“
شحب وجه الفرسان بمجرد سماع كلمات باليريان.
“كم عددهم؟“
سألته إيف، فظل مغمض العينين وهو يعقد حاجبيه.
“على الأقل… أكثر من عشرة.”
وجود هذا العدد من الشياطين داخل قاعة الصلاة لم يكن أمرًا عاديًا.
لم يكن ثمة سوى احتمال واحد لذلك.
تمتمت إيف بصوت خافت:
“…يبدو أن هناك من يجب حمايته في الداخل.”
وربما ذلك الشخص لم يكن سوى القديسة يوري.
ورغم أنها نفسها لم تكن تصدق أن الشياطين يريدون تقديم القديسة كقربان…
‘فهذا لم يحدث في القصة الأصلية!’
إلا أن الوقائع بدأت تتكشف تدريجيًا لتُثبت أن سحر الوهم في الزنزانة لم يكن وهماً.
ومع تزايد الأدلة على صحة كلام الساحرة، بدأ الفرسان ـ وعلى رأسهم لوغان، يبتلعون ريقهم بقلق.
“ريان… هل أنت بخير؟“
رأت إيف شحوبًا غريبًا في وجه باليريان، فأمسكت بيده بقلق.
كانت يده باردة للغاية.
مع أنه وُلد بقوة الشمس، ودرجة حرارته عادة أعلى من غيره… إلا أنه الآن بارد كالثلج.
أخفت إيف توترها وقالت:
“باليريان.”
“أنا بخير، ربما فقط متوتر قليلًا.”
“…هل هذا كل ما في الأمر؟“
لم تصدق إيف كلامه.
رجل خاض العديد من المعارك لا يمكن أن يرتجف من التوتر الآن؟
‘هل يمكن أن تكون قد ظهرت عليه أعراض جانبية بعدما امتص جزءًا من قوتي؟‘
راودها هذا الاحتمال، وشعرت كما لو أنها تسقط في هاوية.
لكنها كانت واثقة أنه مهما سألت، فسيُصر على أنه بخير.
‘هل أتركه يخوض القتال بهذه الحالة؟‘
الإجابة كانت لا.
لكن غيابه عن القتال سيؤثر بشكل كارثي على قوتهم.
الأمر لم يكن متعلقًا بمصير الإمبراطورية فحسب، بل بحياة كل من في المكان.
‘لا يمكنني ببساطة استبعاده من المعركة.’
وحتى لو طلبت منه أن يتراجع خطوة للوراء، سيكون هو أول من يتقدم للأمام.
من تجربتها، كانت تعلم أنه عنيد بطبعه.
فتوصلت إلى قرار لا مفر منه.
‘من الأفضل أن أمنعه من استخدام قوة إيلا قدر المستطاع.’
أغمضت عينيها وبدأت بالتركيز بسرعة.
وقبل أن يتمكن باليريان من إيقافها، ناداها بقلق:
“إيف—!”
لكنه لم يُفلح في إيقافها، فقد شرعت بالفعل في تلاوة التعويذة:
[إييلو].
صرير.
صوت تجمّد الرطوبة في الهواء، تبعته هجمة خاطفة تشق الهواء بقوة.
“آاااه!”
“ساحرة!!”
تعالى صراخ الشياطين داخل قاعة الصلاة، ولم تكن صرخاتهم بشرية، بل أشبه بعواء وحوش.
تجمدت وجوه الفرسان وكأنها تحولت إلى تماثيل من الرخام.
“…….!”
مجرد لحظات بعد أن تلفظت بتلك الكلمات الغريبة، علا صراخ مروع من الداخل.
وقد أدرك الفرسان على الفور أن ما حدث كان بفعلها، فصمتوا بذهول.
“إيف.”
ناداها باليريان، وقد أدرك الآن سبب تصرفها المفاجئ.
لكن عينيه أصبحتا باردتين وجادتين.
“…لماذا أخذوا في الصراخ فجأة؟“
تظاهرت إيف بعدم الفهم وفتحت الباب بهدوء.
من خلفه، لم يبقَ من الشياطين أي أثر. اختفوا تمامًا، وتحولوا إلى رماد.
“لا يُصدّق…”
فتح الفرسان أفواههم من شدة الذهول، عاجزين عن تصديق ما رأوه بأعينهم.
لم يكن هناك وصف أفضل مما حدث سوى كلمة “معجزة“.
الفرسان الذين اعتادوا المشاركة في حملات قمع الشياطين، لم يستطيعوا إغلاق أفواههم من هول ما رأوه من قوة ساحقة.
“هاه…”
تنهد باليريان طويلًا وهو يرمق إيف التي واصلت التظاهر بالجهل.
شعرت بالارتباك، لكنها تجاهلت الأمر كما لو أنها لم تفعل شيئًا.
“الآن…”
واجهوا معضلة جديدة.
“إذا كانت الشياطين هنا، فأين خبأوا القربان؟“
ذلك هو السؤال المحوري والأصعب.
من المؤكد أنهم أخفوه في مكان بعيد عن متناول البشر،
مكانٍ مخفي ومعزول تمامًا.
لكن حتى باليريان لم يكن يعرف مثل هذا المكان.
“باليريان!”
رأت إيف أنه يستعد لإغلاق عينيه مجددًا لاستخدام قوة إيلا، فأسرعت بإيقافه.
فتح عينيه، وقد بدا عليه الارتباك.
“لا داعي لاستهلاك قوتك الآن. فقد تحتاجها في اللحظة الحاسمة.”
قالت ذلك وكأنها تحاول إيجاد مبرر، وفي الوقت نفسه أرادت أن تخفف عنه الضغط.
“لنجرب البحث عن ممر سري هنا أولاً.”
تردد باليريان قليلاً وهو يفكر في كلامها، ثم أومأ برأسه موافقًا.
انضم الفرسان الذين كانوا يستمعون من الجانب إلى عملية تفتيش داخل غرفة الصلاة.
كما بدأت إيف تتجول في أرجاء المكان ببطء.
‘لا يبدو أن هناك شيئًا هنا…’
فهل يعني ذلك أن المكان خالٍ تمامًا؟
– بييي.
فجأة دوّى طنين حاد في رأسها، وبدأت الأصوات المحيطة تبدو بعيدة ومشوشة.
كان الموقف مألوفًا بشكل غريب.
لم تستطع إيف احتمال الصداع المفاجئ، فأمسكت رأسها بقوة.
“هنا!
كيم يونغ–هي موجودة هنا!”
كانت شذرات من ذكريات شخصٍ آخر، وكأنها حُقنت في ذهنها قسرًا.
لاحظ باليريان تعابيرها المتغيرة، فسارع بالاقتراب منها.
“هل أنتِ بخير؟“
أومأت إيف برأسها قليلاً كإشارة على أنها بخير. ثم، وهي تسترجع الصدى الذي سمعته والذكريات المبهمة، حرّكت شفتيها بتردد:
“القديسة… موجودة في سرداب غرفة التعليم.”
“…لكن غرفة التعليم لا تحتوي على سرداب، فهل كان مخفيًّا؟“
تمتم باليريان وكأنه يحاول فهم الأمر.
“…وكيف عرفتِ ذلك؟“
سأل لوغان من جانبه، وكان تساؤله منطقيًّا تمامًا.
“…هناك مكان يُستخدم منذ أجيال لأداء طقوس التضحية. لقد كشفته الآن باستخدام السحر.”
رغم أنها لم تحصل على هذه المعلومات بفضل سحرها، اختلقت مبررًا مقنعًا.
فما دامت قد ذكرت أن الأمر تم عبر السحر، فلن يجد الطرف الآخر ما يعارضها به.
وكما توقعت، التزم لوغان والفرسان الصمت، واكتفوا بالنظر إلى باليريان بانتظار أوامره.
“لنتوجه إلى غرفة التعليم.”
نطق باليريان بقراره، فتغيرت ملامح الفرسان على الفور.
إذ كانت غرفة التعليم تقع على مسافة بعيدة من غرفة الصلاة.
وإذا كانت القديسة هناك بالفعل، فهذا يعني أن عدد الشياطين المحيطين بها سيكون أكبر بكثير من الموجودين في محيط غرفة الصلاة.
عقد كل واحد منهم العزم في صمت، وبدأوا يتحركون.
في طريقهم السري من غرفة الصلاة نحو غرفة التعليم، لم يشعروا بأي أثر لوجود البشر في أروقة المكان.
بدت أروقة الكنيسة الرئيسية ساكنة، غريبة، ومُقلقة في آن واحد.
“……”
رغم أن الجميع كان يشعر بالريبة نفسها، لم ينبس أحدٌ ببنت شفة.
فقد يكون هناك شياطين كامنون في الظلام، ومن غير الحكمة إصدار أي صوت قد يجذب انتباههم.
“…لحظة. أليس هناك صوت غريب؟“
توقف لوغان فجأة، ورفع يده إلى أذنه وكأنه يحاول الإصغاء.
“يبدو أنه قادم من الجهة الغربية.”
“…إنه صوت بكاء.”
قالت إيف وقد سمعت الصوت ذاته. لم يكن بكاء شخصٍ واحد، بل مزيجًا من أصوات متعددة.
قطبت حاجبيها بشدة.
هل هي خدعة من الشياطين لتشتيت انتباههم؟
أغلقت عينيها بسرعة وركّزت على حرارة الرطوبة المنتشرة في الجو من حولها.
بدأت ملامح وجهها تتصلب تدريجيًا.
“…هناك بشر في الجهة الغربية. بالعشرات.”
“هذا يعني أنهم في الطريق المؤدي إلى غرفة التعليم.”
أجاب لوغان بنبرة جامدة.
نظر باليريان نحو الاتجاه المشار إليه بنظرة باردة.
“يبدو أنهم كبّلوا الكهنة الحقيقيين واحتجزوهم هناك.”
أسرعوا الخطى باتجاه غرفة التعليم، ومع اقترابهم، أصبح صوت البكاء أكثر وضوحًا.
فتح لوغان الباب بخفة ثم أغلقه بسرعة.
“إنهم كهنة بالفعل… كلهم مقيّدون بالحبال.”
قالها وهو يعقد حاجبيه بانزعاج.
“لا أفهم لمَ لم يقتلوهم الشياطين بعد؟ ما الذي يخططون له؟“
جاء الجواب من شفتي إيف.
“القوة الروحية مفيدة جدًا للشياطين في استعادة طاقتهم.”
“ماذا تقولين…؟! تقصدين أنهم يستخدمونهم كنوع من الغذاء المقوي؟!”
صاح لوغان بصدمة.
فكرة أن يُحتجز البشر كطعام مغذٍّ ويُستهلكوا لاحقًا كانت كريهة ومقززة للغاية.
“لو أنقذناهم الآن، فسنلفت انتباه الشياطين إلينا.”
لم يُعارض أحد كلام إيف.
كان من الواضح أن عليهم إنقاذ القديسة أولًا، ثم التفكير في الكهنة.
كما أن محاولة التحرّك مع هذا العدد الكبير من الناس ستكون خطيرة للغاية، وقد تتسبب في انقلاب الكفّة ضدهم.
وبينما كانت أنظارهم لا تزال منصبّة على الكهنة المقيّدين…
– ضربة!
سمعوا صوت ارتطام مكتوم، وسقط عدد من الفرسان أرضًا فجأة.
نظرت إيف نحو الكهنة، لكنها سرعان ما أدركت الحقيقة.
‘لم يكونوا كهنة… بل شياطين متنكرين!’
ارتبكت للحظة لكنها سرعان ما استعادت توازنها وتخذت وضعية القتال فورًا.
________
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 91"