مرّ يوم بدا طويلًا، ومع ذلك وكأنه انقضى بسرعة.
كان زافيير في غرفة المستشارين يتابع تطورات المهمة التي كلفها لهم في انتظار الفتى، حينها تسلّل إلى ذهنه شعور غريب… حدس ينبئ بأن أحدًا لن يتمكن من العثور على ذلك الفتى.
ولسوء الحظ، تحقق ذلك الحدس.
“ما الذي حدث؟ أليس هناك أحد تمكن من إدخاله إلى القصر؟“
نظر زافيير إلى لوغان كلاين الجالس بجانبه.
“…نعم، لم يتمكّن أحد من العثور على الفتى.”
أجاب لوغان بوجه ممتعض، كأنما يرفض الاعتراف بالأمر.
هوية الفتى لا تزال غامضة، وهذه الحقيقة كانت تميل بكفة الصدق لصالح الساحرة وما قالته.
“…إذن، هل يعني هذا أن ما قالته إيف إستيلّا كان صحيحًا؟“
“لكن العثور على فتى من حي فقير خلال ليلة واحدة… هذه مهمة شبه مستحيلة جلالتك.”
كلمات لوغان كانت تبدو منطقية للوهلة الأولى، لكن زافيير كان يعلم أن هناك أمورًا غير منسجمة.
“ألا يمكنكم العثور على فتى مميز، فاقد لأحد ذراعيه وعيناه لا تبصران؟“
فتى يحمل أوصافًا واضحة، ويعاني من إعاقة في الحركة… لهذا السبب شعر زافيير بالقلق عليه، وأرسل إليه طبيب القصر ليهتم به.
لكن حتى الطبيب لم يستطع العثور على منزله، فعاد أدراجه إلى القصر خالي الوفاض.
كلما فكّر بالأمر، ازداد شعوره بالريبة.
عندها تذكّر زافيير الكتاب الذي كان الفتى يحمله. كان هناك أكثر من شاهد أكدوا أن الفتى كان يحمل كتابًا لحظة انفجار سحر الساحرة.
‘الكتاب.’
تذكّر كيف أن إيف سألت آنذاك إن كان أحدهم قد رأى كتابًا في مسرح الحادث، وهي تؤكد أن الفتى شيطان.
أطبق زافيير حاجبيه بتفكير عميق.
في الحقيقة، خلال فقدان إيف لوعيها، أدلى باليريان بشهادته.
قال إن إيف انتزعت الكتاب من يد الفتى، وما إن فُتح من تلقاء نفسه حتى انفجر السحر فجأة.
كانت هذه شهادة باليريان الكاملة.
‘هل هذا يعني أن الكتاب الذي تحدث عنه باليريان هو نفس الكتاب؟‘
تلك الشهادة كانت كافية لتبرئة إيف إستيلّا تمامًا… لكن المشكلة أن من أدلى بها كان باليريان.
وهو معروف بأنه يفقد حياده عندما يتعلق الأمر بها، فيفعل من أجلها ما لا يفعله حتى لأجل نفسه.
ومع ذلك، كان هناك أمر حاسم:
‘…الشهادتان متطابقتان.’
شهادة إيف داخل السجن، وشهادة باليريان، تطابقتا في الترتيب والتفاصيل تمامًا.
وما يمنع احتمال تواطئهما، أن كليهما كان في حالة غياب عن الوعي عندما أدلى الآخر بشهادته.
لم تتح لهما أي فرصة للتنسيق أو الاتفاق.
أدرك زافيير تمامًا ما تعنيه هذه الحقيقة.
“لا يعقل…”
تغيّر وجه لوغان كلاين، فقد أدرك ما ينوي ولي العهد قوله.
“هل تفكّر في إطلاق سراح إيف إستيلّا؟! هذا غير مقبول إطلاقًا!”
في تلك اللحظة، دخل باليريان غرفة المستشارين دون حتى أن يطرق الباب.
كان قد وضع حرّاسه الشخصيين أمام غرفة إيف داخل الجناح الطبي.
كانوا الفرسان الذين رافقهم باليريان، حين استخدم بنفسه قوة إيلا عند ظهور الشيطان في السجن.
“إذا كان الفتى شيطانًا…”
نظر باليريان مباشرة إلى لوغان كلاين، ونبرة صوته حادة كالسهم.
“ما الذي تعتقد أنه كان يخطط له ذلك الشيطان؟“
انزعج لوغان من لهجة باليريان المتعجرفة، لكن عندما رآه أمامه، تجمّدت ملامحه للحظة.
باليريان لودفيغ… الوحيد في الإمبراطورية الذي ما يزال يستخدم قوّة إيلا.
كان لوغان قد رآه عدة مرات سابقًا في القصر حين رافق ولي العهد كفارس شخصي.
وكان باليريان يملك سمعة تُجمع على أنه رجل نزيه وعادل ومعروف بطيب خلقه.
لكن عينيه الزرقاوين في هذه اللحظة، كانتا باردتين وقاسيتين بشكل لا يُحتمل.
“إما تقييد الساحرة… أو قتلها.”
قالها زافيير متنهّدًا وهو يرد على باليريان، فهو يدرك أن محاولة قتل الساحرة من قبل الشيطان قد حدثت فعلًا، ولذلك تبدو فرضية أن يكون الفتى شيطانًا منطقية أكثر من أي وقت مضى.
لكن لوغان أغلق شفتيه بعناد، وكأنه لا يريد الاعتراف بهذه الحقيقة.
“لكن من الخطير أن نعيد إيف إستيلّا إلى منزلها الآن. قد يكون هناك شياطين آخرون يتربصون بها… من الأفضل مراقبتها وحمايتها هنا في القصر—”
“القصر لم يعد آمنًا بعد الآن.”
قاطع باليريان كلمات زافيير، ونظراته الحادة كالسيف وجهت مباشرة نحوه.
كان يشير بوضوح إلى محاولة قتل إيف داخل السجن.
لم يكن لدى زافيير ما يردّ به. فالقصر، كما هو الآن، لم يعد ملاذًا آمنًا. وإن كان بإمكان الشياطين التنكر بهيئة البشر، فالمسألة تصبح أخطر.
لكن رغم ذلك، لم يكن بإمكانه التراجع.
في تلك اللحظة، تذكّر زافيير نبوءة قديمة:
<في يوم يسطع فيه القمر الأحمر، ستغمر صرخات العالم حين تحجب الشمس
شياطين الظلام.>
القمر الأحمر…
هي ظاهرة يخفت فيها نور القمر، حين يغمره ظل الكوكب جزئيًّا، ويُعرف ذلك بخسوف القمر.
في البداية، بدت كلمات النبوءة غامضة… لكن قبل بضعة أيام، وبعدما استمع لتقرير علماء الفلك، أدرك زافيير أن النبوءة كانت تشير إلى هذا الخسوف تحديدًا.
وتذكّر أن اليوم الذي فُتحت فيه البوابة بين العالم السفلي والعالم العلوي قبل مئة عام… كان أيضًا يوم القمر أحمر.
كلّ القرائن تشير إلى أن هذا الخسوف القادم هو اللحظة المصيرية.
وأصبح من السخافة أنه لم يدرك هذا في وقت أبكر.
لذا، لم يتراجع زافيير هذه المرة عن موقفه.
“يجب أن تبقى الآنسة إيف في القصر… على الأقل حتى انتهاء الخسوف.”
“الخسوف؟“
ضاقت عينا باليريان، في نظرة تحمل سؤالًا صريحًا:
“ولِمَ الخسوف بالذات؟“
أشار زافيير بعينيه إلى لوغان كلاين، آمرًا إياه بالمغادرة.
تلقّى لوغان النظرة على مضض وخرج من غرفة المستشارين بوجه ممتعض.
وما إن خرج، حتى تنهد زافيير بعمق وفتح فمه قائلاً:
“تلقيتُ نبوءة تقول إن بوابة العوالم السُفلي ستُفتح في وقت الخسوف.”
فما إن سمع باليريان هذا، حتى تجمّد وجهه.
“فتح بوابة بين الأبعاد لا يمكن تحقيقه بمجرّد طاقة سحرية. إنها تحتاج إلى قوة هائلة، قوة تتجاوز قدرة البشر، أي أشبه بالمعجزة.”
ضاقت عينا زافيير وهو يواصل:
“الآنسة إيف إستيلّا زعمت أن القديسة هي القربان المطلوب لفتح تلك البوابة. وإن صحّ كلامها… فحينها لن يكون الأمر مستحيلاً.”
قربان لفتح البوابة…
القديسة، تلك التي يُقال إنها هدية من الحاكم، قد تُستخدم كقربان؟ بدا ذلك ممكنًا، لا سيما وأن فتح البوابة يتطلب قوة تعادل قوّة الحاكم.
كان باليريان قد وصل إلى نفس الاستنتاج، فاكتفى بالصمت وهو يُصغي لما سيقوله زافيير بعدها.
“ولا يمكن تجاهل قوة إيف إستيلّا أيضًا. فقط استخدامها للسحر داخل زنزانة مانعةٍ للطاقة السحرية، يعني أنها بلغت مستوى الساحرة العظمى.”
كان زافيير قد أمر بتفتيش الزنزانة التي كانت محتجزة فيها، وهناك وجدوا جدرانها مبللة بالكامل.
لم يكن مصدر الرطوبة طبيعياً، بل بدا وكأن المياه قد سُكبت عمداً.
خشية أن يكون ما جرى قد تكرر في الماضي، انكبّ زافيي على تصفّح كتب التاريخ القديمة، بحثًا عن أي واقعة سابقة استطاع فيها أحد السحرة النفاذ من سجنٍ مضاد للسحر.
لكن النتيجة كانت واضحة:
لا شيء.
أي أن إيف إستيلّا هي أول من فعل ذلك.
‘لكن… كيف يمكن لساحرة وُلدت بعد قرنٍ من الزمان أن تبلغ مرتبة الساحرة العظمى؟‘
حتى هذه اللحظة، لم يُسجَّل سوى اسمٍ واحد في تاريخ الإمبراطورية كمَن بلغ تلك المرتبة: ليا لوسيِيلا. كانت أول وآخر من نال هذا اللقب.
أما الآن، وبعد مئة عام، تظهر ساحرة أخرى بنفس القوة؟ بدا الأمر وكأنه سخرية من القدر.
ما لم يخطر ببال زافيير هو أن باليريان نفسه كان السبب، حين اعطاها إكسير كابيلا.
باليريان الذي ظلّ صامتًا طوال الحديث، لم يحتمل الاتهام فأجاب مباشرة:
“إيف مستحيل أن تفعل هذا.”
“قد يكون لجلالة الإمبراطور رأي مختلف، ثم لا يمكنني أن أفترض أنه يشاركنا نفس وجهة النظر.”
عندما تصرف باليريان تمامًا كما كان يتوقعه زفر زافيير مجددًا.
كان مشهدًا يشعره بشيء من الديجافو، لكنه كان يعلم جيدًا أن الوضع الآن أشد خطورة من أي وقت مضى.
“لكن في هذا الوقت… لسنا بحاجة إلى رأي جلالته، بل إلى قرارٍ صائب. إن استمر حبس الساحرة، وفشلنا في العثور على القديسة، وإن كانت تلك القديسة فعلًا هي القربان المطلوبة للطقوس…”
تصلّب وجه زافيير أكثر من أي وقت مضى.
“فحينها… سيُكتب لهذا العالم الفناء.”
سكت باليريان، لكنه لم يكن بحاجة إلى الكلام، إذ كان يعلم تمامًا ما يرمي إليه زافيير.
“وإن كانت إستيلّا تنوي استدعاء الشياطين فعلاً… فليس هناك من يمكنه إيقافها سوى أنت يا إيلا.”
بكلمات صريحة، اعترف زافيير بعجزه. لم يكن يملك القوة الكافية لردع من وصلت إلى مرتبة الساحرة العظمى.
حتى أنها لم تُسجن إلا لأنها فقدت وعيها أثناء انهيار طاقتها السحرية.
“وكذلك أنت، لم تتمكن منها إلا لأنها كانت غائبة عن الوعي،”
تمتم زافيير وهو ينظر إلى باليريان بعينين خضراوين تلمعان بوضوح عقلاني نادر.
الآن وقد اتّضح أن إيلا في صفّ الساحرة، لم يعد من المجدي الاستمرار في الشك بها.
“وما دمتَ مصرًّا على البقاء إلى جانب إيف إستيلّا، فليس أمامنا سوى خيارٍ واحد.”
قالها بصوت خافت، وكأن كلماته غاصت في السكون العميق الذي يلفّ غرفة المستشارين:
“باليريان… أنقذ القديسة مع الآنسة إستيلّا.”
كان هذا أمرًا سريًّا… لا يعلمه حتى الإمبراطور.
تحت ضوء القمر المتسلل عبر قضبان الحديد…
استفاقت يوري وهي مستلقية على أرضية تحمل نقشًا مرسومًا بالدم.
رفّت بعينيها لتتفحص المكان، ثم راحت تبكي بصوتٍ خافت عندما تأكدت أن لا أحد حولها.
“هاه هاه… هاه…”
بينما كانت تحدق بالإبرة المغروسة في ذراعها، داهمها صداعٌ حاد كاد يفجّر رأسها.
‘من أين بدأ الخطأ؟‘
هل كان حبّها لباليريان؟
أم حين اتّهمت أختها إيف ظلمًا؟
أم ثقتها العمياء في من حولها بهذا العالم؟
أم أن الخطأ منذ البداية… كان في قدومها إلى هذا العالم الغريب؟
“آه!”
ها هو الصداع يعود مجددًا.
لم تعتَد عليه، ولم تتوقف حدّته.
شدت على أسنانها وهي تكتم أنينها.
في تلك اللحظة، ترددت في ذهنها أصواتٌ دافئة…
—”يوري! كم مرة قلت لك ألا تعبثي بغرفتك؟“
—”فتاتي المجتهدة… علامتك ارتفعت كثيرًا!”
أصوات التوبيخ والحنان واللمسات الرقيقة…
كانت بقايا ذكرياتها من العالم الذي جاءت منه.
ارتبكت وارتعد قلبها.
أرادت فقط… أن تعود إلى ذلك الصوت، وإلى ذلك الدفء.
وبينما تحدّق في نور القمر، انحدرت من عينيها دمعة صامتة.
‘أرجوكم… أنقذوني.’
_______
ترجمه: سـنو
التعليقات لهذا الفصل " 87"