مرّت ليلةٌ شهدت فيها إيف ما جرى قبل مئة عام عبر سحر الوهم، ثم بزغ فجر اليوم التالي.
وقد توصّلت إيف إلى نتيجة واحدة لا تحتمل التأجيل.
“لا بدّ لي من مقابلة زافيير و باليريان.”
لكن باليريان كان في غيبوبة، بعدما بذل كل طاقته للسيطرة على انفجار سحرها.
أضافة إلى ذلك أنها محتجز في سجن مُحصَّن ضد السحر، والفرار منه شبه مستحيل.
غير أنها لم تكن لتجلس هنا مكتوفة الأيدي بانتظار الموت.
لذا بدأت تفكر إن كان هناك وسيلة لاستدعاء زافيير إلى هذا المكان.
اقتربت بخفّة من القضبان الحديدية، ثم نادت بهدوء:
“سيدي الحارس…”
“ما الأمر؟“
“هل لي أن أطلب مقابلة سموّ وليّ العهد؟“
“ماذا؟! هل فقدتِ صوابك؟ قولي شيئًا معقولاً!”
وكما توقّعت، أبدى الحراس انزعاجهم الشديد ورفضوا طلبها رفضًا قاطعًا.
وفي تلك اللحظة، تدخل صوت غريب لم تألفه من قبل.
“وأنتِ، بعد أن سبّبتِ ظهور الشياطين كل ليلة، تجرئين على طلب لقاء سموّه؟“
كان في صوته نبرة ازدراء فاضحة، ما جعل إيف تعقد حاجبيها من دون أن تشعر.
نظرت نحو مصدر الصوت، فرأت شابًا ذو شعرٍ أحمر يحدّق بها بنفور ظاهر.
وقد عرفته إيف في الحال.
لوغان كلاين، فارس ولي العهد وقائد الحرس الجديد الذي تولّى منصبه مؤخرًا.
‘لوغان كلاين… مهلاً، هذا الاسم مألوف…’
استدعت إيف تفاصيل الرواية الأصلية، وراحت تنبش في ذاكرتها القديمة.
لوغان كلاين كان مؤمنًا متعصبًا من دولة الكنيسة، وأحد أتباع القديسة.
والآن، أمامه امرأة اتُهمت بطرد القديسة، وساحرة فوق ذلك، فلا عجب أن منظَرها يستفزه.
وكانت إيف تعلم تمامًا أن النقاش مع شخصٍ يحمل هذا النوع من الأحكام المسبقة لن يعود عليها بأي فائدة.
ولأنها كانت متأكدة أنه لم يأتِ لرؤيتها برغبته، تساءلت بدهشة.
‘ما الذي جاء به إذًا؟‘
“ما الذي يجلب قائد فرسان مثلك إلى مكانٍ بائس كهذا؟“
بدت ملامح الاشمئزاز جلية على وجه لوغان كلاين وهو يجيبها.
فقد أُرسل بأمرٍ مباشر من ولي العهد ليتفقد حالتها. والأمر كان واضحًا.
في حال طرأ أي خلل على جسدها، عليه أن يُبلّغ فورًا.
“ما شأننا إن مرضت ساحرة أو ماتت؟“
أليست هذه هي المرأة التي لطّخت اسم القديسة وجعلت منها أضحوكة للإمبراطورية؟ ألا يعني هذا أنها من أتباع الشياطين؟
لم يكن كلاين قادرًا على فهم سبب ميل ولي العهد نحو ساحرة كهذه.
“…لا يبدو أنك جئت بإرادتك. هل أرسلك سمو ولي العهد إذًا؟“
وكان حدسها في محله، ما جعل كلاين يقطّب جبينه.
وقد أدركت إيف من تعابيره أن تخمينها كان صحيحًا، فاضطرت لكبح ابتسامة كادت ترتسم على وجهها.
يجب ألا تُفوّت هذه الفرصة أبدًا. مهما كلّف الأمر.
فجأة بدأت تسعل بشدة.
راقبها كلاين لفترة، لكن عندما لم تتوقف عن السعال، بدت على وجهه علامات القلق.
“ما الأمر؟ هل أُصبْتِ بالزكام؟“
“لا أعلم… بدأت منذ أيام فقط.”
تظاهرت بالمرض، مع سعالٍ متواصل.
“كفي عن الدلال!”
صرخ بها، ثم نظر إليها بريبة. لكنه لم يطمئن، فالتفت إلى الحراس وسأل:
“متى بدأت هذه بالسعال؟“
‘يا ويلي! سيفضح أمري!’
خافت إيف من انكشاف تمثيليتها، فعضّت داخل فمها حتى سال الدم.
ثم راحت تسعل بعنف، فامتزج السعال بالدم، وظهر كأنها بصقت دمًا.
“حالتها خطيرة جدًا!!”
صاح الحراس بذهول. فقد كانت إيف قد كسبت شيئًا من ودّهم بحديثها اللطيف معهم في الأيام الماضية. وبما أنها في عمر بناتهم تقريبًا، فقد أصيبوا بالذعر عندما رأوها تتقيأ دمًا.
“…انتظري هنا.”
قال كلاين ببرود وهو يحدّق بها نظرة ضيق، ثم غادر السجن.
وبعد وقت قصير، عاد ومعه الطبيب الملكي.
لكن الطبيب بدا مترددًا، بل خائفًا من الاقتراب منها.
“…ما الذي تفعله؟“
رمقه كلاين بنظرة لا تُصدَّق.
“إنها ساحرة! ماذا لو آذتني أثناء الفحص؟ ثم… ماذا لو كان مرضها معديًا؟!”
“…هاه.”
وكأن وجهه يصرخ “يا لهذا العبث!”
“ربما… يمكننا الاكتفاء بفحص شفهي؟ كحّ كحّ…”
واصلت إيف عضّ لحم خدّها من الداخل حتى يخرج الدم بلا توقف.
كان الألم لا يُحتمل، لكن لا خيار أمامها. حتى لو أدى الأمر إلى إحداث جرح دائم في فمها، فعليها الصمود.
‘القديسة كانت القربان.’
إن لم تنقل ما رأته إلى ولي العهد، فالتاريخ سيعيد نفسه.
فرغم ما كُتب في كتب التاريخ عن أن إيلا من أوقف الشياطين، إلا أن الحقيقة كانت مغايرة.
الذين أنقذوا الموقف هم السحرة.
لقد أعادوا القديسة إلى عالمها الأصلي، وتمكّنوا من إغلاق البوابة.
بعد رؤيتها لذلك بعينيها، لم تعد إيف مستعدة للتراجع الآن.
أومأ الطبيب أخيرًا، وأخرج دفتر ملاحظاته.
“ما الأعراض التي تشعرين بها؟“
“في البداية… فقدت شهيتي، وأشعر بضغطٍ يخنق صدري، يصاحبه سعالٌ ممزوج بالدم. وأحيانًا أستيقظ وأنا أرتجف.”
راحت إيف ترتجل ما خطر على بالها من أعراض خطيرة.
“هممم…”
بدأ القلق يعلو وجه الطبيب. ما وصفته يطابق أعراض مرضٍ صدريٍّ حاد. كما أن مظهر جسدها بدا هزيلاً بشكل غير طبيعي.
“هل كانت دائمًا بهذا النحول؟“
سأل الطبيب، فأجاب أحد الحراس بنبرة قلقة وهو ينظر إليها:
“لم تكن هكذا في البداية، لكنها فقدت الكثير من الوزن مؤخرًا.”
“مع أنها لم تفوّت وجبة، لكن وزنها ظل ينخفض، ياله من شيء غريب.”
أيها الحراس الطيبون… والآن، ما عساي أقول بعدما ذكرتُ أنني فقدت شهيتي؟
ندمت إيف على تلك الكذبة الصغيرة.
“إن كانت تتناول طعامًا متوازنًا ومع ذلك تخسر وزنًا… فهذا أمر مقلق حقًا.”
بدأت ملامح الطبيب تزداد جدية.
“لقد أمرنا سمو ولي العهد بأن نولي اهتمامًا خاصًا بطعامها.”
“…هاااه.”
تنهد الطبيب بعمق.
فهي تتغذّى جيدًا ومع ذلك تضعف.
هل جسدها لم يعد يمتصّ المغذيات؟
إذن فالأمر لم يكن مشكلة عادية.
تعابير وجه الطبيب الملكي أصبحت قاتمة، إذ لم يكن يعلم أن معدل الأيض الأساسي لديها أعلى بكثير من الإنسان العادي، رغم مظهرها الضعيف.
“سأحرص على إرسال الدواء، لذا لا تفوّتي وجباتك.”
“كح، شكرًا، كح، جزيلًا.”
غادر لوغان كلاين والطبيب الملكي المكان، بينما اقترب الحراس منها وهم يرمقونها بنظرات مشفقة ويهزون رؤوسهم بأسى.
“ظننا أن السحرة مختلفون عن البشر، لكن يبدو أنها ضعيفة مثلهم تمامًا… تسك تسك.”
وفي أعينهم، بدت علامات القلق جلية رغم محاولتهم إخفاءها.
“كح كح… آه، يا إلهي…”
تمددت إيف على الأرض، تأنّ وتتصنّع المرض، وقد بدأت تعتاد على برودة الأرض القاسية لدرجة أن النوم فوقها لم يعد صعبًا.
ومرت بعض اللحظات…
“هل أنتِ مريضة حقًا؟“
نهضت إيف من نومها على صوت مألوف. رجل وسيم ذو شعر أسود كان يحدق بها بريبة.
“سموّ الأمير!”
“……”
“إذن، كنتِ تتصنعين المرض.”
وقد كُتب هذا بوضوح على وجه زافيي.
حكّت إيف رأسها بحرج وهي تبتسم ابتسامة خفيفة. لكن وجه زافيير تجهم بشكل خافت وهو يحدق بها.
‘لقد خسرت وزنًا أكثر بكثير مما كانت عليه آخر مرة رأيتها فيها…’
في تلك اللحظة، استعاد زافيير محادثة قديمة دارت بينه وبين باليريان منذ زمن طويل.
* * *
“لماذا تشتري هذا الكم من الحلوى النادرة للنبيلات؟“
“إيف تحبها.”
“حتى وإن أحبتها، ألا تظن أن الكمية مبالغ فيها؟ حتى أحبّ الأطعمة تصبح مملّة إن أُفرط فيها.”
* * *
في ذلك الحين، كان باليريان يزور القصر الملكي، وقد اشترى أنواعًا مختلفة من الحلوى مثل الإكلير والميلفيه والمادلين… وأكثر من عشرة أصناف، خمسة من كل نوع.
في البداية ظنّ زافيير أنه يشتريها لنفسه، لكنه اكتشف أنها جميعًا لخطيبته.
إلا أن أكثر من خمسين قطعة حلوى بدت كثيرة جدًا على فتاة واحدة.
“آه، لا بأس، إيف تنهيها كلها خلال يومين.”
تذكّر زافيير كيف سخر من كلام باليريان حينها قائلاً إنه كلام لا يُصدَّق.
‘وإن كان الأمر صحيحًا، فيجب أن أزيد من كمية طعامها الآن…’
عندما لاحظت إيف التجهم في ملامحه، ظنّت أنه منزعج، فأخفضت صوتها وتحدثت بتردد:
“أنا آسفة لخداعك… لكن كان لدي أمر مهم لأقوله لك، يا سموّ الأمير.”
نظرت نحو الحراس بطرف عينيها، فتنهد زافيير وقال لأحدهم:
“اتركونا وحدنا قليلًا.”
“أمرٌ مطاع، يا سموّ الأمير.”
وأخيرًا، بقيت إيف وزافيير وحدهما. ورغم وجود القضبان الحديدية الباردة بينهما، لم تكترث إيف ودخلت في صلب الموضوع مباشرة:
“القربان كانت هي القدّيسة.”
“ما هذا الكلام المفاجئ؟“
“القربان المطلوبة لفتح بوابة العالم السفلي…”
“…ماذا تقولين؟“
كانت ملامح زافيير أشبه بمن سمع قصة لا يُصدَّق بها.
في تلك اللحظة، ترددت إيف؛ هل تخبره عن رؤياها التي رأتها داخل السجن بواسطة سحر الأوهام؟
لكن الحديث عن السحر قد يكون سكبًا للزيت على النار.
ووسط تردّدها، قاطعها زافيير ببرود:
“تظاهرتِ بالمرض فقط لتروجي مثل هذه الخرافات؟“
“ليست خرافة!”
نظرت إليه إيف بقلق، تشعر أن كل ما ستقوله سيُعدّ أكاذيب في نظره، حتى تلك الرؤيا السحرية.
“ذلك الفتى الذي قيل إنه أُصيب… هل عُرفت هويته الحقيقية؟“
“ليس بعد.”
لم تجد إيف ضرورة لذكر أن إعدامها بات قريبًا ما لم تُعرف هوية ذلك الفتى.
خاصة مع الضغط المتزايد من رئيسة الكهنة، كان تأجيل التنفيذ أشبه بالكابوس لزافيير.
لكنها تابعت بثقة:
“ثم ابحثوا في هويته أولًا. أظن أنه لن يكون من السهل العثور عليه.”
“هل لا زلتِ تصرّين على أن ذلك الصبي كان شيطانًا؟“
تابع زافيير بصوت بارد.
“لقد رأيته بنفسي… كان صبيًا بشريًا عاديًا تمامًا.”
‘الآن تحاول أن تغطي على خطأها باتهام طفل بالشيطانية؟ هذا مُخزٍ حقًا.’
خيبة الأمل التي ارتسمت على وجهه لم تكن بحاجة لكلمات.
استدار زافيير عنها، وخرج من السجن يتجول في أروقة القصر، وقد أثقل صدره بالتفكير، فتنهد بضيق.
وفجأة، استعاد كلمات قالتها رئيسة الكهنة.
“للعلم فقط، فإن القديسة في حالة نفسية متدهورة حاليًا، لذا نأمل منكم تفهم عدم قدرتها على لقاء أحد أو الخروج.”
لماذا تذكّر ذلك الآن بالذات؟
كانت طريقة رئيسة الكهنة غير المباشرة في منع الوصول إلى القديسة تثير القلق في داخله.
‘هل يُعقل حقًا أن القديسة هي القربان؟‘
كاد رأسه ينفجر من شدة التفكير.
وفي النهاية، كتب زافيير رسالة إلى شخص واحد خطر في باله في تلك اللحظة.
مؤسس نادي القراءة، وأوسع رجال الإمبراطورية اطلاعًا على الكتب…
مستشاره الوفي، وأحد أعزّ حلفائه.
* * *
في الوقت ذاته، في قصر الدوق لودفيغ، حدثت جلبة غير متوقعة.
“يا سعادة الدوق! السيد الشاب قد أفاق من غيبوبته!”
أسرع أحد الفرسان الذين كانوا يراقبون باليريان إلى مكتب الدوق، وهو يحمل بشرى غير متوقعة.
________
التعليقات لهذا الفصل " 83"