“طالما أنتَ وأمّنا وأبي لم تُعتَقلوا بعد، فلا يزال هناك بصيص أمل… أو ربما سيتم اعتقالكم قريبًا.”
تنهدت إيف بعمق مجددًا، بينما تجمّد وجه نواه من القلق.
“ما الذي حدث هذه المرة؟ هل حصل شيء جديد؟“
“نعم، الشيطان الذي تظاهر بهيئة صبي يتظاهر الآن بأنه ضحية بريئة، ويزعم أنه مجرد مدني أُصيب خلال انفجاري.”
“ماذا؟!”
صرخ نواه مصدومًا، ثم أعاد السؤال بتوتر ليتأكد مما سمعه.
عضّت إيف على شفتيها وأجابت بمرارة:
“لهذا، لم يُحدَّد موعد إعدامي رسميًّا بعد، لكن من الواضح تمامًا أن التنفيذ سيتعجل.”
“ماذا؟! وماذا سنفعل إذًا؟!”
صاح نواه وهو ينتفض واقفًا فجأة، حتى أن الكرسي الذي كان يجلس عليه سقط محدثًا ضوضاء عالية. فهرع الحرّاس إلى الزنزانة بوجوه متوترة.
“ما الذي حدث؟!”
أجابتهم إيف بهدوء وتهذيب:
“لا شيء، لقد تعثّر أخي وأسقط الكرسي دون قصد. أعتذر لإزعاجكم.”
نظر إليها أحدهم بتحذير وقال بلهجة غليظة:
“راقبي أفعالكِ. ولسنا ملزمين بمنحكِ وقتًا طويلاً للزيارة. ما تفعلينه الآن مسموح فقط بفضل تساهل وليّ العهد. هل فهمتِ؟“
“نعم، أشكركم جزيل الشكر، وأقدر جهودكم.”
عاد الحراس إلى أماكنهم متذمّرين.
أما نواه فأخذ يتأملها بذهول، مدهوشًا من هدوئها المبالغ فيه رغم الموقف.
حتى تعاملها اللطيف المفاجئ مع الحراس بدا غريبًا. ولما لفت انتباهها لذلك، هزّت كتفيها وقالت:
“التمرد عليهم لن يجلب لي إلا الضرب… والألم آخر ما أحتاج إليه الآن.”
في كثير من الأحيان، كان بعض المحكومين بالإعدام يبتسمون وهم يصعدون منصة الإعدام، لا لأنهم شجعان، بل لأنهم يشعرون بالراحة بعد الخلاص من عنف السجّانين.
رمق نواه الحراس بنظرة حذرة، ثم أخرج شيئًا صغيرًا من ملابسه بسرية بالغة… كان كتابًا صغيرًا، وسرعان ما مرّره عبر القضبان.
“ما هذا؟“
“قد يكون طوق نجاة… أو مجرد كومة أوراق عديمة القيمة.”
تساءلت إيف كيف تمكّن من إدخاله رغم تفتيش الحراس الدقيق. فعلق نواه منتشيًا:
“افتحي الكتاب.”
فتحته، ثم تمتمت بدهشة:
“مجرد أرقام؟!”
“بالضبط. كتبت كل شيء بشيفرة رقمية.”
“هاه؟“
ابتسم قائلًا:
“لا تنسي أنني جامع ضرائب. لوّحت ببعض الأرقام، فظنّوا أن الكتاب سجل ضريبي، ومرروه بسهولة.”
تنهدت إيف في استغراب.
أن يكون الحراس بهذه السذاجة كان أمرًا يثير القلق… لكنها بنفسها كانت تضعف أمام الأرقام، وغالبًا ما تتجاوزها دون تمعن، ولهذا استطاع نواه، رغم كسله، أن يشغل منصبًا كهذا بفضل براعته في الحساب.
قال نواه وهو يناولها ورقة:
“كتبت على هذه الورقة تفسير الشيفرة. حاولي قراءتها لاحقًا… لكن لا تَدَعي أحدًا يراكِ.”
“وهذا… يحتوي على دليل براءتي؟“
“نعم. لأن ما فيه قد يغيّر مجرى التاريخ.”
“هل تطلب مني إثبات براءة ساحرة؟ يا له من أمر مشجّع!”
قالتها بسخرية لاذعة.
“أنا عالقة هنا لا أستطيع فعل شيء. لماذا تعطيني هذا أصلاً؟“
“لأني أظن أن ما قرأته يشير إلى هذا المكان تحديدًا.”
نظرت عيناه البنفسجيتان إلى داخل الزنزانة، وقال:
“يبدو أن هذا السجن بُني خصيصًا عبر العصور لاحتجاز السحرة. وصُمّم من مواد خاصّة تُعطّل استخدام السحر.”
نظرت إيف من حولها. المكان يبدو عاديًا تمامًا. كان من المفترض أن تُجرب استخدام السحر لتتأكد، لكنها خافت أن يكون ذلك سببًا مباشراً لإرسالها إلى المقصلة.
إذن… هل يُخفي هذا المكان شيئًا؟(تساؤل)
أو ربما قد يخفي شيئًا ما…(تأكيد)
مجرد معرفة أن الاحتمال قائم كان في حد ذاته اكتشافًا مهمًا.
“وكيف توصّلت إلى هذه المعلومة؟“
أجابها نواه بتنهيدة مرهقة:
“أثناء سجنكِ، أنا وأمي قلبنا المكتبة رأسًا على عقب.”
كانت ملامحه شاحبة من الإرهاق.
“هذا كل ما استطعنا فعله لمساعدتك.”
عجزت إيف عن الكلام.
لا يمكنها تصور كم الجهد الذي بذلوه خلال تلك الفترة القصيرة للعثور على هذه الخيوط.
بعد لحظة، تمتمت بصوت خافت:
“…شكرًا لك.”
لكن نطق تلك الكلمة جعلها تشعر بإحراج شديد، وكأنها قالت شيئًا لا يُغتفر.
ويبدو أن نواه شعر بالحرج هو الآخر، فشحب وجهه بدوره.
ولتخفيف الأجواء، بادرت بالكلام سريعًا:
“عليك الآن أن تعود لوالدنا، وتهتم بصحته. وإن لزم الأمر، خذه وغادر العاصمة.”
لكن نواه هزّ رأسه ساخرًا:
“أمام منزلنا الآن طابور من فرسان القصر، محيطون بالمكان تمامًا.”
‘أوه، لم أكن أعلم…’
منذ حبسها وهي معزولة تمامًا عن العالم الخارجي.
هذا يعني أن فكرة الهروب للعائلة لم تعد واردة.
إذن لم يبقَ أمامي إلا الاعتماد على ما جاء به نواه.
أخفت إيف الكتاب بين طيات ملابسها. وفجأة خطر لها شخص معين، فترددت قليلاً قبل أن تسأل:
“…هل تعرف شيئًا عن حالة باليريان؟“
“وكيف لي أن أعرف؟!”
أيّ حال يجعلها تفكر بغير نفسها؟!
كان على وشك الانفجار من ضيق صدره كلما رأى أخته لا تكف عن القلق على ذلك الرجل.
ونهض مغتاظًا من مكانه، لكن هذه المرة انتبه إلى نظرات الحراس فلم يُسقِط الكرسي.
نظرت إليه إيف بنظرة باردة، وكأنها تقول كفى تهورًا أيها الأحمق.
* * *
حينما دخل الصبي إلى قاعة الكنيسة، تهلّلت أسارير أرييل وسألته بسرور:
“أين كنت تتجوّل؟“
“كنت مشغولًا بالتخلّص من تلك الساحرة.”
انعطف طرفا عيني آس بابتسامة هادئة، كأنّه يتحدث عن التخلص من قمامة لا أكثر.
رغم براءة ابتسامته، شعرت أرييل فجأة بقشعريرة تسري في جسدها.
كيف لأحد أن ينظر إلى هذا الوجه ويظن ولو للحظة أنه شيطان عظيم؟
“أقتلت إيف إستيلّا؟ لو أنك تولّيت الأمر بنفسك فلابد أن يكون في ذلك عواقب وخيمة. ثم إنّ إيلا قد يستفيق في أي لحظة…”
قالت ذلك بنبرة يغلب عليها القلق.
فالساحرة كانت العقبة الأكبر في طريقهم.
ابتسم آس ابتسامة واثقة:
“لا تقلقي بشأن إيلا. بعد ما تلقّاه من طاقة سحرية، فلن يفيق قبل مرور شهر على الأقل. وخلال هذه الفترة، سيكون الإمبراطور مضطرًّا لإعدام الساحرة.”
“آه، يبدو أنك رتّبت كل شيء مسبقًا! حقًا، أنت ماكر كما أنت دائمًا!”
ضحكت أرييل وقد بدأت تدرك ما الذي فعله، إذ كان من الواضح أن الأمر كله من تدبيره.
زرع الفتن…
كان هذا اختصاص أسْمُودِيوس.
فمنذ مئة عام، كان هو من لفّق تهمة استدعاء الشياطين للسحرة، وتسبّب في إعدامهم جميعًا.
“البشر يعشقون إصدار الأحكام. للحظة يتوهّمون فيها أنهم يملكون البصيرة، يتصرفون كما لو كانوا حكماء. وما إن يغرقوا في نشوة هذا الوهم… حقًا، البشر…”
شبك يديه بانفعال وكأنه أمام أعظم تحفة فنية.
“هم أعظم أعمالي.”
“هاها، أجل… بلا شك.”
ضحكت أرييل ضحكة متكلفة، توافقه رغم شعورها بالارتباك.
عندها، مال برأسه قليلًا، وما زال محافظًا على ابتسامته المشرقة:
“بالمناسبة، ماذا عن القديسة؟“
“نستخرج منها كل ما نستطيع من الطاقة المقدّسة، لكنّ الأمر لم يكتمل بعد.”
“كما توقّعت، لا بد من استخدام جسدها نفسه كقربان.”
تنهد آس بأسى، وكأن ما يحدث أقل مما كان يأمل.
“لكن لو استعجلنا، فقد نثير شكوك المملكة المقدّسة. عليك أن تكتفي بمنصب البابا في الوقت الراهن.”
“صحيح. وماذا عن غياب البابا الحقيقي؟ كيف ستبررونه؟“
“أبلغنا المؤمنين أنه طريح الفراش. لكن لا أعلم إلى متى ستنطلي هذه الكذبة.”
“آه، نعم. فقد دخل في امعائي منذ زمن.”
أطلق آس لحنا خفيفًا، وكأنّه يُغنّي.
ما لم أتوقعه هو أن القوى المقدسة ستزيد من قوّتي…
‘لو أنني أدركت هذا قبل ألف عام، لكانت هذه الأرض كلها لي منذ زمن.’
جلس على مقعد البابا، يتنهّد متحسّرًا.
‘لكن… لم يفت الأوان بعد.’
لمعت في عيني أسْمُودِيوس الحمراء لمعة جشع وتعلّق لا يخطئها البصر.
“لا مفر… سأقوم بدور البابا بنفسي لبعض الوقت.”
وما إن قال ذلك، حتى تحوّل إلى هيئة البابا باستخدام السحر.
“لكن… كم أفتقد مظهري الصغير.”
رفع مرآة سحرية أمامه وأخذ ينظر إلى نفسه بامتعاض.
لم تُظهر آرييل أي اندهاش، وكأنها اعتادت على تحوّلاته.
“بالمناسبة، ماذا سنفعل بالعشيقات السريّات للبابا؟ ما زلن يتردّدن عليه بلا انقطاع.”
“أمر مزعج. ربما أبتلعهن أيضًا؟“
“هاها، فكرة رائعة!”
ضحكت أرييل، فلطالما أزعجتها هؤلاء العشيقات وسوء استخدامهن لأموال الكنيسة.
في تلك اللحظة، طرق أحدهم الباب ودخل قاعة الكنيسة.
“آه! قداستك! لقد تعافيت أخيرًا!”
قالها كاهن رفيع المستوى بفرح غامر، وهو يرى آس في هيئة البابا.
“همم، أشكرك على اهتمامك. ما الأمر؟“
ردّ آس بمهارة متقنة.
“هناك أمر عاجل من القصر الإمبراطوري، يطلبون مساعدتك. لكن، بما أنك ما زلت في طور التعافي، فربما تذهب رئيسة الكهنة أرييل بدلاً منك…”
“وما نوع المساعدة؟“
سأل آس بلهجة مهتمّة.
“لقد ألقوا القبض على ساحرة.”
تجمّد وجه الكاهن توترًا، بينما نظرت أرييل إلى آس.
“ما هذا؟! ساحرة؟!”
تظاهر آس بالدهشة، كأنّه لا علاقة له بما حدث، لكن أرييل كانت تعلم الحقيقة.
كتمت ضحكتها وارتدت قناع الجدية.
“آه…ما زلت طريح الفراش ولا أقوى على الذهاب بنفسي… حقًّا، أشعر بالأسف تجاه لوسيّان. فلتذهبي أنتي يا رئيسة الكهنة بدلًا عني، وراعِ الأمر بعناية.”
لوسيان كان اسم الإمبراطور الحالي لـ هيليوس.
نظر آس إليها بنظرة متقمّصة بدقّة، ففهمت ما يريد وأومأت برأسها:
“أجل، هذا القرار هو الأفضل.”
“سأبدأ بتجهيز نفسي إذن.”
غادر الكاهن دون أن يشك بشيء، فمن المعتاد أن تتولّى رئيسة الكهنة أرييل المهام البعيدة.
نهضت أرييل، وانحنت بأدب أمام آس:
“ثم، سأتهيّأ للسفر إلى العاصمة.”
حسنًا، عودي سالمة يا رئيسة الكهنة أرييل. لم يتبقَّ الكثير على فجر مجد المملكة المقدسة.”
“نعم، يا صاحب القداسة…”
خرجت أرييل من قاعة الكنيسة تكتم ضحكتها.
لقد بات يوم ازدهار المملكة المقدسة قريبًا… يا له من وعد مذهل ومبهج!
وما إن لمح آس حماسها المفرط، حتى ارتسمت على شفتيه ابتسامة ذات مغزى.
_______
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 80"