‘الشارع خالٍ… لا أحد سواي هنا.’
في العادة، تكون شوارع العاصمة في مثل هذا الوقت شبه خالية، لكن لا تنعدم فيها حركة الناس تمامًا.
غير أن سلسلة حوادث الاختفاء الأخيرة جعلت السكان يلزمون بيوتهم حالما تغيب الشمس، مغلقين الأبواب بإحكام.
والآن، وبينما تسير إيف وحيدة في ظلمة الليل، خيّم على الأجواء شعور كئيب جعلها تقشعر.
صحيح أن بعض الفرسان يجوبون العاصمة، لكن عددهم لم يكن كافيًا لتفتيش الشوارع بدقة.
تسللت إيف إلى زقاق ضيق، وأخذت تتلفت من حولها.
لا يوجد أحد. فقط بعض الفرسان يظهرون بين الحين والآخر وهم في دورياتهم.
ومرت الساعات…
‘لقد مضى وقت طويل بالفعل… ولا أثر للشيطان.’
زفرت إيف عدة مرات بضيق، حتى الفرسان الذين يطوفون المكان بدأ التعب يظهر عليهم، فقد بدؤوا يتثاءبون علنًا.
‘أين أنت؟! أظهر أيها الشيطان البغيض.’
تمتمت في سرّها بنفاد صبر. كانت تريد القضاء على الشياطين بأسرع وقت لتعود بشيء من السلام إلى حياتها.
وفجأة…
“شيطان!”
صرخة عالية تبعتها أصوات دروع وخيول وفرسان يهرعون إلى الموقع.
لم تتردد إيف، وسرعان ما اتجهت إلى مصدر الصوت، متجنبة أعين الفرسان عبر طرق الزقاق الضيقة.
“تظنون أنكم ستقتلونني بتلك الخردة؟! هاهاها!”
كان الشيطان ذا بشرة سوداء كأنها احترقت، يضحك بسخرية.
وبما أنه لم يحاول التظاهر بكونه بشريًا، فغالبًا هو من الشياطين المتوسطة أو الأدنى.
لكن حتى الشياطين الأدنى لم تعد تُستهان بها مؤخرًا، فقد ازدادت قوتهم بشكل ملحوظ.
وربما لهذا السبب، لم يجرؤ الفرسان على الهجوم فورًا.
لم تكن الأسلحة العادية كافية للقضاء عليهم؛ بل فقط السيوف المغموسة في الماء المقدّس أو السيوف المقدسة هي القادرة على قتلهم تمامًا.
لكن حتى الماء المقدس… لم يعد من السهل الحصول عليه.
بدون دعم مباشر من المملكة المقدسة، لا يمكن قتل الشياطين.
أحد الفرسان، ويبدو أنه القائد، أخرج بسرعة زجاجة ماء مقدس وسكبها على سيفه. لكن الشيطان كان أسرع. وبمخالبه الطويلة البشعة، انقضّ وانتزع الزجاجة من يده، ثم رماها بعيدًا.
“تبًا!”
“هاهاها! تظنون أن هذا الماء القذر يمكنه قتلي؟!”
ضحك الشيطان بصوت مريع، ثم تحوّل بصره فجأة، وانبعث من عينيه بريق قاتم مليء بالغضب والدموية. وانقض على الفرسان بقوة.
“آااه!”
رغم أنه ليس شيطانًا من الطبقة العليا، إلا أن قوته البدنية تفوق البشر بكثير، فبدأ الفرسان يتساقطون أمامه واحدًا تلو الآخر.
من بعيد، فتحت إيف الزجاجة التي كانت تحملها وسكبت ماءها على الأرض، وبدأت في تلاوة تعويذتها بسرعة:
[إييلو]
توقفت قطرات الماء في الهواء، كأن الزمن قد تجمّد. ثم بدأت تتجمد تدريجيًا، متحولة إلى شفرات جليدية دقيقة حادة، بالكاد تُرى بالعين المجردة، لكنها تحمل قوة هائلة.
‘سأستهدف ساقيه أولاً.’
لم تكن إيف متمرسة بعد في استخدام السحر.
صحيح أن سحرها يحمل قدرة تدميرية عالية، لكن دقته ضعيفة. ولو حاولت إصابة رأس الشيطان من هذه المسافة، قد تؤذي أحد الفرسان دون قصد.
راقبت حركات الشيطان بعناية، ثم أطلقت شفرات الجليد باتجاه ساقيه.
“آاااه!”
صرخ الشيطان، وسقط أرضًا وهو يمسك بساقه المصابة.
كانت قوى إيف الجليدية قد أصابت ساقه بدقة، فبدأت تمتص طاقته الشيطانية. وبدأت ساقه المتفحمة تتحول إلى رماد وتختفي تدريجيًا.
‘تركيز…’
جمعت إيف المزيد من الرطوبة حول الشفرات، لتعزز سحرها وتستنزف قوى الشيطان قدر الإمكان. فإن لم يُقضَ عليه بسرعة، سيعيد تجديد نفسه فورًا.
كانت تنظر إلى الشفرات بعين ثابتة وتركيز عميق.
“هاه…”
تنهدت وهي تخرج الزفير، وبدأت تشعر بضعف مفاجئ.
“آااااه!!”
وتلاشى جسد الشيطان تدريجيًا، متحولًا إلى رماد كما حدث مع ليليث.
‘لقد نجحت مجددًا!’
كتمت إيف ابتسامة الانتصار، ثم تسللت بسرعة إلى عمق الزقاق خوفًا من أن يراها أحد.
ومنذ تلك الليلة، بدأت تجوب شوارع العاصمة ليلًا بمفردها، تواصل اصطياد الشياطين.
‘هاه، يبدو أن الأمر أسهل مما تخيلت.’
وبينما استمرت على هذا الحال، مرت عدة أيام.
بفضل تجولها الليلي المتواصل، انخفضت حوادث الاختفاء بشكل ملحوظ. كانت قد تخلصت من عدد كبير من الشياطين دون أن يعرف أحد.
‘بذلت جهدًا كبيرًا لتجنّب باليريان أكثر مما فعلت في قتل الشياطين.’
كان تجنّب لقاء باليريان الذي يخرج ليلًا في دورياته أصعب عليها من قتال الشياطين أنفسهم.
وفي نهاية المطاف، اضطرت إيف إلى الذهاب مباشرة إلى الدوق لودفيغ وطلبت منه جدول تحرّكات باليريان، حتى تتمكن من تجنّبه أثناء جولاتها الليلية.
وعندما طلبت منه تفاصيل جدول باليريان الخارجي، بدا أن الدوق قد أدرك على الفور ما تنوي القيام به.
ولهذا السبب، كان عدد من فرسان لودفيغ يتخفّون بهدوء حولها. وكانت إيف على دراية بذلك، لكنها لم تمانع.
‘أنا أقدّر حياتي، في نهاية الأمر.’
كانت تشعر بالاطمئنان، إذ في حال وقوع أي طارئ، فهؤلاء الفرسان سيتدخلون، وشعرت بالامتنان للدوق من أجل ذلك.
غير أن إيف فوجئت برسالة من باليريان صباحًا يخبرها فيها بنيته زيارة القصر. عندها أمالت رأسها باستغراب.
‘هل حدث شيءٍ ما؟‘
لم تكن تفهم ما الذي يدفع باليريان المشغول دومًا لزيارتها بهذا الوقت المبكر.
لا بد أن لديه أمرًا يخصّها.
والمشكلة أنها تخفي أمرًا قد يُكتشف في أي لحظة.
فانتظرت قدومه وهي تكافح لإخفاء توترها.
دخل باليريان غرفة الاستقبال بوجه متجهّم.
‘أوه، ليس هذا الوجه مجددًا!’
وما إن رأت ملامحه، حتى شعرت في قرارة نفسها أن ما سيحدث لن يكون جيدًا، وصرخت داخليًا بيأس.
قال بنبرة صارمة:
“إيف، أنا أعلم تمامًا ما الذي تفعلينه.”
“هم؟ عمّ تتحدث؟“
تظاهرت بالجهل، فأصبحت نظرته إليها حادة، بينما خفق قلبها بشدّة.
“ألم تقولي إنك لن تكذبي عليّ مجددًا؟“
“أنا آسفة…”
بادرت بالاعتذار مباشرة.
“لكنّي فقط شعرت أني أزيد العبء عليك… لم أُرِد أن أرهقك أكثر.”
“هذا جزء من واجبي بصفتي إيلا، ولا يُعد أمرًا شاقًا أو غريبًا عليّ.”
“لكن… من واجب إيلا أيضًا ألا يخفي هويتي كساحرة، أليس كذلك؟ كان من الأفضل لو…”
بدأت تتحدث، لكنها قطعت كلامها فجأة.
فهي تعلم أن الإفصاح عن هويتها ليس خيارًا ممكنًا، خصوصًا حين تكون أرواح أفراد أسرتها على المحك.
وبدا أن باليريان قد أدرك ما كانت تنوي قوله، فانعكست على وجهه صرامة باردة.
“هذا غير مقبول. لو حاول أيّ كان كشف هويتك… فسأنهي أمره بيدي.”
وفي تلك اللحظة، ذاب الكأس الذي كان بيده واختفى كليًا دون أن يترك أثرًا.
“لذا توقفي فورًا عن مغامراتك الليلية في مطاردة الشياطين.”
وبعد أن أكد عليها هذا التحذير مجددًا، غادر القصر.
نظرت إيف من النافذة بهدوء، وكان من الواضح حتى بالعين المجردة أن الحراسة حول القصر قد ازدادت صرامة.
‘هل يمكنني التسلّل رغم هذا الحصار…؟‘
‘مستحيل.’
كان نواه قد ظهر بجانبها دون أن تشعر، وعيناه تتبعان نفس المشهد خارج النافذة.
“ما الذي فعلتيه لتُعاملي وكأنك مجرمة؟“
رمقته إيف بنظرة جانبية بلا تعليق، فتنهّد وقال:
“هذا إذًا كنتِ فعلاً مذنبة… على أي حال، لقد وصلكِ خطاب.”
أراها نواه رسالة. وعندما سمعت أن هناك رسالة باسمها، مدت يدها تلقائيًا لأخذها، لكن نواه سحب يده بسرعة، فقالت له بنبرة منزعجة:
“ما الذي تفعله؟ لست في مزاج للعب.”
لكنه أجاب بوجه جاد:
“هذه ليست مزحة. فتحت الرسالة من قبلي، وكانت فارغة تمامًا. أليس هذا غريبًا؟“
“يبدو أن أحدهم شعر بالملل وأراد مداعبتي برسالة بيضاء.”
قالت إيف ببرود، وهي تهز كتفيها بلا اهتمام.
“من يبعث رسالة فارغة كهذه لمجرد المزاح؟ خاصةً أن اسم المُرسل كان مذكورًا.”
ثم تجهم وجه نواه.
“ومن كان المُرسل؟“
“آرون رومان.”
“…ماذا؟“
نظرت إيف إلى الرسالة بعيون مشوشة.
‘هل يمكن أن يكون آرون ما زال حيًّا؟‘
‘ربما كانت هذه رسالة استغاثة…’
‘لكن آرون قد… رحل بالفعل.’
وبدأ عقل إيف يزدحم بالأسئلة.
“آرون رومان مات. هذه الرسالة إما مزحة ثقيلة، أو أسوأ من ذلك… رسالة شيطانية. علينا أن نُريها لذاك الشخص.”
“أتعني أنك تريد أن تستخدم باليريان كفأر تجارب؟“
“لا داعي لتسميته هكذا…”
لم ينكر نواه الفكرة، فحدّقت فيه إيف بعيون ضيقة.
“وماذا لو حدث له مكروه؟!”
هزّت إيف رأسها رافضة فكرة اعطاء الرسالة لباليريان.
إن كانت هذه الرسالة مسحورة، فقد تعرّض باليريان للخطر.
والأسوأ إن كان الأمر من تدبير شيطان، فالمستهدف لن يكون سوى إيلا.
“أنت تقلقين عليه كثيرًا بشكل غريب.”
“أعطني الرسالة. عليّ التحقق بنفسي.”
لكن نواه لم يُسلّم الرسالة مباشرة، فتقدّمت إيف بقبضتها مهددة، ثم ابتسمت قائلة:
“ستُعطيني إياها طوعًا أم أضربك أولًا؟“
“لا أعلم ما الذي يُعجبه في فتاة عنيفة مثلك.”
“ألا تعلم أنني لا أستخدم قبضتي أبدًا أمام باليريان؟ فهل تفضّل أن أبدأ بك؟“
“آه، حسنًا…”
هزّ نواه رأسه مستسلمًا وأعطاها الرسالة. تناولتها إيف بسرعة.
“حقًا، لا يوجد بها أي شيء…؟“
كما قال، كانت الرسالة بيضاء تمامًا. فحصت الظرف بدقة أيضًا، لكنها لم تجد أي أثر لعلامة الشيطان التي ظهرت في رسالة ليليث.
التفت نواه نحوها بنظرة متوترة.
“ما الأمر؟ أخبريني على الأقل. هل هي مسحورة أيضًا؟“
“مهلاً لحظة… آه!”
وفجأة، اسودّت رؤيتها، وشعرت بدوار شديد. ترنحت، وبدأ صوت نواه يتلاشى في الخلفية.
ثم تراءت أمامها صورة… وجه مألوف دخل ضمن مجال بصرها.
‘باليريان…’
لقد كان هو.
_____
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 77"