“آه… رأسي… يؤلمني…”
نهضت يوري وهي تمسك برأسها المتألم، وملامحها توحي بالدوار والتشوش. وبينما كانت تحاول النهوض، شعرت بشيء غريب يزعجها، فخفضت نظرها إلى ذراعها وصُدمت بما رأت.
“م–ما هذا؟!”
أنابيب غريبة متصلة بذراعها، بدت كأنها تلك التي تُستخدم لسحب الدم، لكنها لم ترَ أي أثر له. ورغم عدم وجود الدم، فقد كان المنظر بحد ذاته مثيرًا للاشمئزاز والانزعاج الفطري.
حاولت نزع تلك الأنابيب، لكن يديها وقدميها كانت موثوقة بالسلاسل، مما جعل الأمر عسيرًا عليها. وبعد عدة محاولات مؤلمة، أدركت أن الألم لا يستحق العناء، فاستسلمت.
“لكن… أين أنا؟“
أخذت تتفقد المكان من حولها متأخرة، بدا أشبه بزنزانة منفردة، خالٍ تمامًا من أي أثر بشري.
“مستحيل! ما هذا؟!”
تراجعت مذعورة وهي تلاحظ الرمز المرسوم أسفلها. لم يكن الرعب بسبب غرابة الشكل، بل لأنه…
“مرسومٌ بالدم…!”
ارتعد جسدها من شدة القشعريرة.
“أفقتِ أخيرًا؟“
صوت مألوف، لكنه بارد، انبعث من خلفها. التفتت لترى صاحبه .
كانت رئيسة الكهنة أرييل، وهي تقف ممسكة بدفتر صغير تدون فيه شيئًا، بينما عينيها تحدقان بها وكأنها تقيّم حالتها.
“كيف هو وضعك الصحي؟“
“رئيسة الكهنة أرييل… ما الذي يحدث؟ ما هذا المكان؟“
“أجِبيني. أنا من يطرح الأسئلة.”
تبدلت نبرة المطران فجأة، وامتلأت بالحدة والبرود. فشعرت يوري بوجود شيء غير طبيعي.
“لماذا تتحدث معي هكذا؟ وأين أنا؟!”
وبمجرد أن فتحت فمها وبدأت تسأل، شعرت بالغضب والظلم يتصاعدان في داخلها، ولم تستطع كبح نبرتها المنفعلة.
“أتظنين أن ريان سيبقى ساكتًا إن علم بما تفعل؟!”
صفعة!
ومض أمام عينيها ضوء مفاجئ، وارتدّ رأسها جانبًا من شدة الضربة. وخدها اشتعل ألمًا.
“ه–هل ضربتني؟!”
تراجعت يوري مذهولة، تنظر إلى أرييل بعينين دامعتين، غير مصدقة ما حدث. كيف لهذه الامرأة، التي لطالما بدت لطيفة ومبتسمة أمامها، أن تنقلب بهذا الشكل؟!
“كيف تجرؤين؟! من تظنين نفسك حتى ترفعين يدك عليّ؟! هل يجوز لكِ أن تُعامِلي القديسة بهذه الطريقة؟!”
صرخت يوري بانفعال ووجهها محمر من الغضب، بينما نظرت إليها رئيسة الكهنة بابتسامة مشوهة.
“يبدو أن حالتك الصحية جيدة بما يكفي لتصرخي بهذا الشكل. مؤسف أنك لا تملكين ذرة وعي بما يجري حولك.”
ردّت عليها ببرود وهي تعود لتدوين ملاحظاتها في دفترها. وازداد شعور يوري بالقهر، وكأنها مجرد فأر تجارب.
“ما الذي تفعلونه بي؟! أطلقوا سراحي فورًا!”
“لا يمكنني تحرير قربان ثمين بهذه البساطة.”
عندها، سُمع صوت شاب مرح ينبعث من خلف رئيسة الكهنة.
اقترب الشاب اليافع آس، من يوري وهو يتفحص حالتها بسطحية، ثم قال:
“القديسة هذه المرة تمتلك طاقة روحية عالية.”
“أحقًا؟ رغم سلوكها الطفولي، يبدو أن جوهرها مختلف، هاهاها.”
ضحكت أرييل بوجهها المعتاد، دافئ الملامح، مما جعل يوري ترتعد أكثر. فهذه الابتسامة الهادئة باتت الآن مصدر رعب.
“أعتقد أن الوقت قد حان لتوزيع طاقتها على الأطفال.”
ابتسم آس ابتسامة باهتة وهو يلتقي بنظرات يوري.
“نعتمد عليكِ يا قديستنا العزيزة.”
مرّت عدة أيام بعد تلك الحادثة.
خلال ذلك، ورغم أن إيف عرضت أن تذهب بنفسها، أصرّ باليريان على الحضور إلى قصر عائلتها، مما جعل اللقاءات تتم في قصر الكونت استيلا بدل قصر الدوق.
وكان في كل مرة، يرمقهم نواه بنظرات سخرية واضحة، لكن إيف شعرت بأن مشاعر الذنب تجاه باليريان تفوق انزعاجها من نواه.
“ريان، ما بك؟ تبدو شاحبًا.”
سألت إيف وقد جلسا وجهًا لوجه، ولاحظت أن بشرته التي كانت مشرقة كالحرير، أصبحت الآن خشنة على نحو غريب. لا بد أن أمرًا ما يقلقه.
“من الذي أفسد بشرة ريان؟“
نفخت إيف بانزعاج، ثم خفضت كتفيها، مدركة أن السبب الحقيقي في تدهور حاله… هو هي.
“ربما لأني ركزت على التدريب مؤخرًا، أشعر بالإرهاق فحسب.”
قالها مبتسمًا وهو يُخرج ساعته من جيبه ويتفقد الوقت، ثم وقف.
“يبدو أن عليّ الذهاب. أعتذر يا إيف.”
“لا بأس. لا داعي للاعتذار، إن كنت مشغولًا.”
أجابت إيف ببرود. ولو رآهما شخص من الخارج، لظن أن إيف هي من قررت الانصراف، لا العكس، لشدة ما بدا الحزن على وجه باليريان.
“إن كنت مشغولًا، يمكنني أنا المجيء إليك.”
“لا. يا إيف، ابقي هنا. لا تخرجي خصوصًا إن حلّ الظلام.”
قالها بوجه جامد كالصخر، وكأنه على استعداد لمطاردتها بنفسه إن غادرت.
“ح–حسنًا…”
ردّت إيف بتردد، ولم تكن تفهم تصرفه في حينها.
لكنها أدركت الحقيقة بعد عدة أيام، عندما تصفحت إحدى الصحف.
[تكرار حالات اختفاء غامضة في العاصمة… ولي العهد زافيير لو هيليوس يأمر بفتح تحقيق عاجل… (اختصار)]
كانت العاصمة تشهد سلسلة من حوادث الاختفاء الليلية. وكل الصحف سارعت لتغطية الخبر.
ورغم تكرار حوادث الاختفاء سابقًا، إلا أن الوضع الآن مختلف.
الضحايا كانوا يتزايدون بشكل متسارع، وكلهم اختفوا ليلًا. وإيف لم تحتج إلى الكثير من التفكير لتدرك المسؤول.
‘لا شك أنه عمل الشياطين.’
في الواقع، كان الجميع يعلم ولو ضمنيًا أن الشياطين وراء ما يحدث. لكن لا أحد كان يجرؤ على التصريح.
حتى الصحف كانت تتحاشى ذكر الشياطين، تنفيذًا لأوامر البلاط الإمبراطوري، الذي أراد منع إثارة الذعر بين السكان.
‘الأمر هذه المرة مختلف تمامًا…’
رغم أنه في بعض الأحيان كانت تظهر شياطين من الطبقة الدنيا أو المتوسطة وتهاجم الناس، لكن لم يسبق أن استمر الأمر بهذا الشكل المنتظم.
‘إن كان هذا سبب انشغاله…’
فربما زيارتها له في هذا الوقت ستكون عبئًا لا لزوم له.
ترددت إيف مرارًا، تفكر في الذهاب إليه ثم تتراجع في اللحظة الأخيرة.
وفي إحدى الليالي…
“آنستي، وصلك خطاب من دوقية لودفيغ.”
ناولها كبير الخدم الرسالة. توقعت أن تكون من باليريان، لكنها فوجئت بالاسم على الظرف:
“المرسل: راين بيدرو.”
كان مساعد الدوق هو من كتب الرسالة.
“هذا يعني أن الدوق نفسه هو من استدعاني؟“
شعرت بالتوتر وهي تفتح الرسالة، فالدعوة كانت صريحة.
[يجب عليها زيارة قصر الدوق في أقرب وقت.]
“حضّروا العربة.”
أصدرت الأمر، ثم أسرعت بالاستعداد للذهاب.
وعندما وصلت إلى القصر…
“مرحبًا…”
حيّاها من استقبلها مساعد الدوق، راين بيدرو بنبرة جادة:
“أهلًا بكِ آنسة إستيلّا. الدوق بانتظارك في مكتبه.”
“شكرًا…”
سار أمامها، كأنه كان ينتظر قدومها بفارغ الصبر. وتبعته بخطى خجولة.
‘هذه أول مرة يدعوني بنفسه…’
رغم أنها زارت القصر عدة مرات سابقًا، لم يطلبها الدوق شخصيًا من قبل.
وقفت أمام باب المكتب، مترددة.
وقف راين خلفها بهدوء، كأنه ينتظر منها أن تطرق الباب.
تسارعت أفكارها.
‘لماذا يريدني؟ لا يمكن أن تكون مسألة جيدة…’
فهي ارتكبت من الأخطاء ما يكفي ليجعل أي لقاء معه محط قلق.
أغلقت عينيها بإحكام، ثم طرقت الباب.
‘تبًّا، إن كنت سأتلقى الضرب على أية حال، لينتهِ الأمر بسرعة!’
دخلت إيف الغرفة وفتحت فمها بحذر:
“مرحبًا، يا صاحب السمو… هل كنت بخير طوال هذه المدة؟“
أجاب الدوق دون أن يرفع عينيه عن أوراقه:
“مر وقت طويل.”
كان يبدو منشغلًا بأعماله، يضع نظارات على عينيه، والوثائق أمامه كانت ممهورة بختم ذهبي، مما دلّ على أنها واردة من القصر الإمبراطوري.
“كما ترين، لم يكن لدي متسع لأستقبل أحدًا بشكل رسمي، فاعذريني.”
“لا بأس، لا مشكلة.”
“فلنختصر الحديث. هل تعلمين بما يحدث مؤخرًا في العاصمة؟“
“تقصدون حوادث الاختفاء؟“
“صحيح. تكرار ظهور الشياطين في العاصمة بات يزداد مؤخرًا.”
تلألأت عيناه الزرقاوان خلف عدسات النظارة بحدة لافتة، فشعرت إيف فورًا بأنه يوجه أصابع الاتهام إليها دون أن يصرّح بالأمر.
‘لكن… لماذا يسألني أنا؟‘
هل يُعقل؟
هل يعرف دوق لودفيغ حقيقتها؟
لكنها لم تستطع المجازفة بكشف أنها ساحرة في هذا الوضع.
“إذًا… هل هذا سبب انشغال باليريان؟“
“نعم.”
“شكرًا لإخبارك لي.”
غير أن نبرة الدوق سرعان ما ازدادت جدية:
“إيف إستيلا، ليس هذا ما أردت قوله.”
شعرت بقشعريرة تسري في جسدها، وقد أيقنت.
لقد كشف الأمر.
تمكنت إيف سريعًا من فهم الموقف. فهي الآن مشبوهة فقط لكونها ساحرة.
______
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 75"