عندما خرج باليريان لاستقبال الزائرة غير المتوقعة، بدا عليه الذهول. لكن إيف استقبلته بابتسامة مشرقة وقالت:
“صباح الخير!”
لوّحت له بذراعيها بحيوية، فنظر إليها بذهول وتحدث بنبرة متفاجئة:
“لم أتوقع أن أراكِ هذا الصباح.”
نظر إليها بدهشة واضحة.
كان واضحًا أنها تشعر بعدم الارتياح لهذا الموقف، ورغم ذلك، فقد خطت بنفسها نحوه.
بدا له أن في تصرفها هذا سببًا يمكن تخمينه، وظهرت على شفتيه ابتسامة دافئة.
“هل أتيتِ لرؤيتي؟“
“نعم. أنوي المجيء كل يوم حتى يهدأ قلبك.”
كانت إيف قد زارت قصر الدوق لودفيغ منذ الصباح الباكر، وكانت تنوي زيارته باستمرار.
يجب أن أبذل على الأقل هذا القدر من الجهد…
كانت تأمل أن يُلين ذلك قلبه. لكنها، حين تذكرت مقدار الألم الذي سببته له، ترددت ‘هل يكفي هذا؟‘
وسرعان ما خيم الحزن على وجهها.
ازداد ضيقها حين تخيلت والديها اللذان سبب كل ما حدث، يجلسان باسترخاء لاحتساء الشاي وكأن شيئًا لم يكن، فقُبضت قبضتها تلقائيًا.
“يعني إذا هدأ قلبي لن تأتي مجددًا؟“
توقفت إيف لحظة عند سؤاله. كانت تعرف جيدًا ما هو الرد المثالي، لكنها أيضًا تعرف نفسها.
أن تستيقظ مبكرًا كل يوم، وعلى مدار السنة، فقط لتراه؟
حتى شخص يعشق الخروج سيجد ذلك مرهقًا. فكيف بها، وهي التي تفضل البقاء في المنزل؟
بالنسبة لها، سيكون ذلك أشبه بمعجزة من معجزات الزمن.
“…أنا أيضًا بشر، أحتاج إلى الراحة أحيانًا.”
لم تعد ترغب في الكذب عليه بعد الآن. لكن ما إن قالتها، حتى بدا على باليريان خيبة أمل واضحة.
“يعني، مافي قلبك لي هذا فقط؟“
بدأت إيف تقلق إن كانت قد أساءت التعبير. هل كنت صريحة أكثر من اللازم؟
لكن باليريان، الذي كان يراقب تعبيراتها، ابتسم برقة.
كان يعلم أن ترددها هذا بحد ذاته دليل على أنها تهتم به.
لو لم تكن تكن له شيئًا لقالت ببرود ‘نعم، هذا كل ما لديّ لك.’ دون أي تردد.
أمسك بيدها وقال مبتسمًا:
“لا بأس. سأكون أنا من يأتي لرؤيتك كل يوم. أستطيع فعل ذلك.”
“…حسنًا.”
لم تستطع الرد على الفور. فقد أذهلتها ابتسامته الدافئة.
كانت ابتسامته تلك، التي تخطف القلب فجأة، شيئًا لا يمكن مقاومتُه.
لو أن باليريان كان شيطانًا…
ربما كانت لتنجذب إليه بلا حول لها ولا قوة، وتتبع خطواته بلا تردد.
حينها شد قليلاً على يدها، لا بقوة مؤلمة، بل بقوة خفيفة لا يمكن تجاهلها، وقال:
“لذا، لا تهربي مجددًا يا إيف.”
في عينيه الزرقاوين اللتين تطلّ عليها، كانت تختبئ مشاعر تملّك لم يحاول إخفاءها.
كان موعدهما اليوم خارج القصر لأول مرة منذ زمن، وكانت إيف تخطط أن يبدآ بجولة بسيطة.
لقد خططت لكل خطوة عن قصد…
لكن كل خططها الطموحة انهارت بصوت واحد فقط…
معدتها التي قرقرت فجأة، معلنةً احتجاجها على الجوع، أجبرتها على الرضوخ فاستسلمت لقيادة باليريان وذهبا إلى المطعم.
“كل هذا… لي أنا فقط؟“
اتسعت عينا إيف وهي ترى الأطباق تتوالى إلى الطاولة.
كان الموقف مألوفًا لها على نحو غريب.
تمامًا كما حدث عندما أخبرته لأول مرة أن ننفصل…
ربما تذكّر باليريان ذلك الموقف أيضًا، فابتسم وقال:
“الذكريات السيئة يجب أن تُمحى بأخرى جيدة.”
“…أنا آسفة باليريان.”
عادت إيف إلى وضعية المذنبة.
“ناديني كما اعتدتِ… قولي لي ريان.”
“حسنًا ريان.”
أسند ذقنه على يده، وحدّق بها وهو يتحدث، وارتسمت على شفتيه ابتسامة ماكرة:
“إذاً، اليوم هو اليوم الذي يجب أن تُسعديني فيه كثيرًا، أليس كذلك؟“
“طبعًا! فقط اعتمد علي.”
قالتها بثقة، لكنها في الحقيقة لم تكن تملك أي فكرة عن كيفية إسعاده.
بصراحة، لم تكن بارعة في العلاقات العاطفية.
في الماضي، كانت قد فاجأته بجملة مباشرة تمامًا:
“مرحبًا… أعتقد أنني وقعت في حبك. هل تفكر بالخروج معي؟“
اعتراف فج، بلا رومانسية أو تمهيد. ومن حولهم سخروا منها بوضوح، لكن باليريان قبِل اعترافها، بل وأعلنا خطوبتهما لاحقًا.
“صدقيني، لو لم يكن هو، لما قبِل بكِ.”
كان نواه شقيقها يحدق بها يومها بازدراء.
كانت علاقتهما سيئة حينها، فظنتها مجرد سخرية، لكنها اليوم تتساءل بجدية إن كان كلامه فيه شيء من المنطق.
ربما بدا اعترافها أشبه بكلام شخص يتسلى، لا يعترف حقًا.
لم تكن حتى الآن تفهم لماذا قبل باليريان بذلك الاعتراف.
“أتطلع لمعرفة كيف ستُسعديني، يا إيف.”
قالها بابتسامة دافئة كالشمس. كانت تلك أول مرة منذ زمن يبتسم فيها بتلك الراحة، فابتسمت له هي الأخرى، رغم احتراقها من الداخل.
لم تستطع التوصل إلى شيء يُفرحه حقًا.
لكن إن كان ريان هو من قبِل بذلك الاعتراف الساذج… فلا بد أنه سيحب أي شيء أفعله، مهما كان بسيطًا.
راودها هذا الأمل الصغير، وبينما هو أيضًا يسترجع الذكريات، قال:
“أتذكرين أول مرة اعترفتِ لي فيها؟“
“أجل؟ أنا أيضًا كنت أفكر في ذلك للتو.”
ضحكت بهدوء، لكن ابتسامتها ما لبثت أن تلاشت، حين أضاف:
“كان اعترافًا جادًّا جدًا، أتذكر أنني لم أصدق أنك كنتِ جادة عندما قلتِ إنني حبك الأول. لكن لاحقًا، أدركتُ أنكِ لم تكوني تمزحين.”
رغم نبرة المزاح في كلامه، تجمّد الدم في عروق إيف.
‘لقد انكشفت.’
شعرت بأن الأرض تهتز تحت قدميها، وعقلها توقّف عن التفكير.
نظرت إلى الطاولة الممتلئة بأشهى الأطعمة، ثم بدأت تأكل بصمت وهي تحاول استجماع أفكارها.
‘سأفكر بعد أن آكل…’
لطالما كانت ترى أن العقل لا يعمل بكفاءة إلا بعد أن يمتلئ البطن. وبينما كانت تنشغل بتناول الطعام، كان يراقبها باليريان بعينين راضيتين.
دون أن تدري، كان مجرد وجودها معه في هذه اللحظة سببًا كافيًا لسعادته.
أما هي، فبين لقمة وأخرى، كانت تجهد عقلها لتفكر بطريقة تسعده بها.
وبعد لحظات…
‘هل…أكلت كل هذا؟‘
حدّقت بدهشة في طبقها الفارغ. لم تكن قد توصّلت بعد إلى خطة لإسعاده، والآن حتى الطعام انتهى. وكذلك طبق باليريان نظيف تمامًا… مما يعني أنها أكلت حصته أيضًا.
لا، لا يجب أن يتكرر نفس السيناريو.
“هل نطلب المزيد؟“
سألها باليريان وهو يبتسم لها ابتسامة عريضة لا تخلو من المرح.
“لا داعي… بهذا الشكل سنقضي اليوم كله في الأكل!”
لم تكن تنوي إنهاء هذا الموعد بمجرد وجبة.
“ألست جائعًا، يا ريان؟“
“كنت منشغلًا بمراقبة طريقة أكلك، فنسيت أن آكل بنفسي.”
قالها وهو يضحك.
“كيف تنسى شيئًا كهذا؟!”
نظرت إليه بدهشة حقيقية، غير مصدقة لما تسمعه.
‘هل كان يمزح الآن؟‘
“لو كنتُ فعلًا جائعًا، لما نسيته، أليس كذلك؟“
“يعني طوال هذا الوقت لم تكن جائعًا أصلًا؟!”
كلما سمعته يتكلم، ازداد الأمر غرابة في نظرها.
كان الوقت قد تجاوز منتصف النهار، فكيف لا يشعر بالجوع؟
خرجت إيف من المطعم، لكن كلامه لا يزال يتردد في ذهنها، ولم تستطع إخفاء دهشتها.
كيف يستطيع الإنسان أن يبقى حتى هذا الوقت دون طعام؟
ثم خطرت لها فكرة عجيبة… لم تتذكر يومًا أنها سمعته يقول إنه جائع.
في الرواية الأصلية، كان إيلا يستمد قوته من ضوء الشمس… أهو نبات ليعيش على الشمس؟
رفعت رأسها تنظر إلى السماء، وكانت الشمس ترسل أشعتها الساطعة في يوم صيفي مشرق. انعكس الضوء على ملامحه، فبدا وكأنه تجسيدٌ للجمال الخالص.
لاحظ باليريان نظراتها واستنتج ما تفكر به، فضحك بخفة.
“أظن أن إيف كانت دائمًا جائعة، أليس كذلك؟“
“أليس هذا طبيعيًا؟“
“لكن، أظنك كثيرًا ما تتحدثين عن الجوع في الأيام المشمسة كهذه. وخصوصًا في الصيف…”
حدّق بها بدهشة، كأنه يلاحظ هذا للمرة الأولى.
“هل يمكن أن يكون هذا طبعًا في جسدك منذ الولادة؟“
كان يحاول، بشكل غير مباشر، القول إنها بشر عادي بينما هو ليس كذلك، إذ كان ساحرًا.
فكرت إيف في كلامه، وأمالت رأسها بحيرة
‘هل هذا ممكن فعلًا؟‘
في الإمبراطورية، لم تكن الأمطار كثيرة. والشمس كانت ساطعة أغلب الوقت.
وإذا كان هو يستمد طاقته من الشمس، بينما هي تزداد جوعًا تحتها… فهذا يعني أن طبيعتهما متضادّة تمامًا
‘من البداية، نحن على طرفي نقيض.’
فجأة، أدركت إيف أن المؤلف الأصلي للرواية جعل شخصيتها في تعارض تام مع باليريان منذ البداية.
ولوهلة، لم تستبعد أن يكون الكاتب قد خطط لها أن تكون “الزعيم الأخير” الذي يواجهه البطل في نهاية القصة.
قطّبت جبينها بضيق وهي تفكر في ذلك.
______
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 74"