عندما عمّ الاضطراب في القاعة بسبب إعلان القديسة المفاجئ، أشار زافيير إلى أحد فرسان القصر الملكي ليُرافقها إلى قاعة الضيوف المخصصة للشخصيات المهمة.
كانت في الواقع عملية إخراج قسرية تحت غطاء اللباقة.
ثم التفت إلى باليريان وقال:
“باليريان تعال معي. أريدك على انفراد.”
وانطلق الاثنان فورًا نحو غرفة كبار المستشارين.
دخل الاثنان الغرفة وحدهما، ووقف زافيير يتأمل لاليريان بصمت.
“باليريان، هل كنت تعلم بالأمر؟“
رغم أن سؤاله بلا سياق أو تفاصيل، إلا أن من في هذا المكان لا يمكن أن يجهل ما الذي يعنيه بكلامه.
“…أجل.”
أقرّ باليريان بهدوء.
في الحقيقة، أدرك أن إيف ساحرة منذ أن رأى تعبير نواه فور إعلان القديسة.
فلونه شحب تمامًا كما لو أن سرًّا خطيرًا كُشف للتو.
قال زافيير متنهدًا بعمق:
“ردّة فعلك لا توحي بأنك كنت على علم مسبق.”
سواء كان يعلم أو لا، فالأمر في الحالتين مشكلة.
استعاد زافيير كلمات الوحي، فتغير وجهه فجأة:
“في ليلة يكتمل فيها القمر الأحمر، سوف تملأ الشياطين السوداء التي تحجب الشمس العالمَ بصراخٍ لا ينقطع.”
ورغم أن باليريان لم يكن على علم بوجود هذا الوحي، إلا أنه أدرك جيدًا أن الأمور تسير نحو منعطف خطير.
فبادر سريعًا للحديث:
“إيف لا تمثل أي خطر.”
“ربما في الوقت الحالي، نعم.”
لكن ملامح زافيير بقيت متصلبة، ولم يبدُ عليه أنه اقتنع بكلامه.
ذلك الوحي، لم يكن باليريان قد سمع به بعد.
ومع ذلك، كان زافيير متأكدًا حتى لو أطلعه على مضمون الوحي، فلن يعترف بسهولة أن المقصودة به هي إيف.
سيجادل بأنه لا دليل قاطع على ذلك.
كل هذا التعقيد بدأ يصيب زافييز بصداع.
أسوأ ما في الأمر؟
أن حامل قوة إيلا نفسه، يحمي ساحرة الآن.
بل والأسوأ من ذلك، أنه علم بحقيقتها للتو ومع ذلك قرر حمايتها.
‘لا بد أنه وقع في حبها حتى النخاع.’
منذ أن مزق شارة زيه الرسمي، أدرك زافيير أنه يتعامل مع رجل فقد صوابه.
كاد يطلق تنهيدة ساخرة، لكنه تماسك حفاظًا على هيبته.
حينها قال باليريان:
“السبب الذي دفع إيف إلى قرية نادين هو—”
قاطعه زافيير بصوت بارد:
“أجل، كانت تخشى انكشاف هويتها، كساحرة.”
فبما أنها أخفت الأمر عن باليريان طوال هذا الوقت،
فمن المؤكد أنها كانت تخشى أن تُقتل على يد من يحمل قوة إيلا.
وهنا، تصدى باليريان لتلك الفرضية بصوت حاسم:
“أنا كنت أعلم أنها ساحرة.”
“…ثم؟“
“هربت لأنها كانت تخشى أن تُلحق الضرر بالإمبراطورية بسبب ما هي عليه.”
قالها بعينين تلمعان باليقين.
أراد أن يقول إن إيف لم تهرب لتحمي نفسها، بل لتجنب جلب الخطر على الإمبراطورية.
تجهم وجه زافيير.
‘إيف إستيلّا؟!’
‘تملك هذا القدر من الإحساس بالمسؤولية؟‘
لم تكن تظهر عليها ملامح الوطنية من قبل.
لكن زافيير لم يعلّق.
فقد أصبح هذا النقاش فرعيًا أمام المسألة الكبرى:
إيف إستيلّا ساحرة.
وباليريان لودفيغ، حامل قوة إيلا، يدافع عنها.
أغمض زافيير عينيه ببطء —
عادة كان يلجأ إليها حين تتراكم عليه الأعباء.
وفي ظلمة عينيه، يرى وجه إيف إستيلّا وهي ترتجف من الخوف.
فتح عينيه، مقطبًا حاجبيه.
‘باليريان.’
حتى هو لم يفهم نفسه في تلك اللحظة.
لماذا، إذن، ساعدها على إخفاء هويتها؟
ثم قال، بنبرة ثقيلة:
“إذا وقع أي خطر، فهل أنت مستعد لتحمّل المسؤولية، والوقوف كحامل لقوة إيلا لحماية الإمبراطورية؟“
فهم باليريان مقصده على الفور، ورد بلا تردد:
“نعم.”
لكن زافيير، الذي لم يُظهر ارتياحًا بعد، بادره باليريان مجددًا:
“أقسم بشرف عائلة لودفيغ.”
“……”
صمت زافيير لوهلة، ثم قال:
“إلى أن أطلب استدعاءها مجددًا، راقب إيف إستيلّا جيدًا.”
أومأ باليريان برأسه، وغادر غرفة المستشارين وقد بدا على وجهه الارتياح.
أما زافيير، فقد جلس وحده في الغرفة، ووجهه يغشاه الظل والتعب.
“هاه…”
تنهد طويل، ثم أغلق عينيه مجددًا.
وفي نفسه راودته فكرة.
في هذه اللحظة…
الشخص الذي أعجز عن فهمه حقًا…
قد لا يكون باليريان الواقف أمامي،
بل قد أكون أنا.
* * *
“آه…”
تنهدت يوري بعمق وهي تُجبر على الصعود إلى عربة المملكة المُقدسة، ثم صرخت بصوت مليء بالغيظ:
“أنا لم أكذب أبداً!”
“أيتها القديسة!”
أرييل التي كانت جالسة قبالتها، رفعت حاجبيها بنفاد صبر ووبختها بشدة:
“إلى متى ستستمرين في تشويه صورة المملكة المُقدسة؟!”
“رئيسة الكهنة…!”
لم تعهد يوري هذا الغضب الصريح في صوت أرييل من قبل، فتلعثمت وارتبكت. ولكن سرعان ما شعرت بالظلم الشديد فصرخت من جديد:
“لكنّ إيف إستيلّا حقًا ساحرة!”
“نعم، حتى لو كان ذلك صحيحًا، الناس صدّقوا كلمات إستيلّا!”
أرييل رمقتها بنظرة تحتقر سذاجتها، ثم أدارت وجهها.
عندها أدركت يوري أن رئيسة الكهنة لم تصدقها بصدق.
“لكنها الحقيقة…!”
حينها، تدخلت الكاهنة المرافقة لها بابتسامة خفيفة:
“أنا أصدق كلماتك يا قديسة، فلا تنزعجي. البشر لا يرون إلا ما يريدون تصديقه.”
كلمات الكاهنة أنارت وجه يوري بالأمل:
“حقًا؟ تصدقينني؟“
ارتسمت ابتسامة أوسع على ملامح آس الذي كان يتخفى في زي كاهن:
“بالطبع.”
لم يكن ليتخيل أن القديسة هي من ستفضح الساحرة الخفية.
“فأنتِ يا قديسة، هدية من الحاكم لي.”
العثور على الساحرة المختبئة لم يكن إلا دليلًا على أنها بالفعل هدية من الحاكم له.
* * *
في تلك الليلة.
كانت إيف متمددة على أريكة في صالة قصر إستيلّا، بعد أن نقل نواه الخبر السعيد، وقد بدا عليها ارتياح عميق.
كان ضوء القمر يتسلل عبر القضبان في النافذة.
تمتمت بشرود:
” عادت يوري إلى المملكة المُقدسة…”
شعرت كأن عبئًا ثقيلًا أنزاح عن صدرها، لكن في الوقت نفسه، انقبض قلبها بشعور غير مريح.
‘كأنني نسيت شيئًا مهمًا…’
وبينما كانت تميل برأسها حائرة، جاءها صوت الخادم:
“الدوق الصغير لودفيغ جاء لزيارتكِ.”
تجمدت.
‘أوه، صحيح!’
قفزت من مكانها كمن لدغته عقرب.
‘كيف نسيت هذا الأمر؟! يا لي من حمقاء.’
تذكرت الكذبة التي قالتها لباليريان، وبدأت تدور في الصالة بقلق:
‘كيف سأخرج نفسي من هذه الورطة؟‘
أدركت أنها لم تتجاوز الأزمة بعد، بل وكأنها نجت من قنبلة… لتجد صاروخًا نوويًا في طريقها.
‘آه… لا بد أنه في قمة غضبه الآن…’
تخيلت نظراته الغاضبة، تذكرت اليوم الذي أعلنت فيه خطبتها المزيفة مع ولي العهد، وكيف حدّق بها ببرود حينها.
‘هل سأعيش ذلك الموقف من جديد؟!’
في ذلك الوقت، كان زافيير على الأقل واقفًا كدرع أمام سخط باليريان.
أما الآن، فكل شيء سيسقط على رأسها وحدها.
“ما العمل الآن؟“
سألها كبير الخدم، فأجابت متلعثمة:
“ق–قل له إني لست هنا!”
رد تلقائي صادر من غريزة البقاء، لا من تفكير واعٍ.
“أخبره إذًا أنكِ لستِ في المنزل؟“
أومأت بسرعة:
“نعم، نعم! قل له إني خرجت على عجل، ولن أعود لفترة…”
“خرجتِ على عجل؟“
جاءها صوت مألوف قبل أن تُكمل عبارتها، فتصلبت في مكانها.
“ب–باليريان…”
“سيدي الدوق الصغير، لا يمكنك الدخول بهذه الطريقة!”
صرخت روز من خلفه محاولة منعه، لكن كان قد دخل الصالة بالفعل، ولم يكن ليسمع شيئًا غير صوت إيف.
“أنتِ لا تحبين الخروج عادة، أليس كذلك؟“
قال ذلك بابتسامة هادئة، لكن عيناها لم تخطئ ما تخفيه عيناه من برودة غاضبة.
فهمت تمامًا أنها في مأزق.
كانت في موقف لا تُحسد عليه، لكنها أدركت أيضًا أنه لا مفرّ.
ففتحت شفتيها أخيرًا، وقالت بهدوء:
“روز، أنت وكبير الخدم… غادروا المكان.”
“حسنًا.”
“…كما تشائين.”
خرج الاثنان ببطء، والقلق بادٍ على وجهيهما.
طَق.
أُغلِق الباب، وخيّم الصمت على الغرفة. شعرت إيف وكأنها تقف حافية على أرض مليئة بالشوك.
جلس باليريان قبالتها بصمت، يحدّق فيها.
“إيف.”
“هـ–هممم؟“
ضحك بخفة، كأنما يسخر من نفسه.
كيف ظنّ للحظة أنها شيطان؟ كم كان أحمقًا.
ضحكته أربكتها.
‘لِمَ يضحك…؟ هل بلغ به الغضب حدّ الجنون؟‘
“أنا آسفة… حقًا يا باليريان.”
قررت أن تعتذر أولًا. لا تملك أعذارًا. لا سبيل أمامها سوى الاعتذار.
“إذًا… كلام يوري كان صحيحًا.”
تأكد لديه حينها أن إيف ليست شيطانة… بل ساحرة.
أطبقت شفتيها، ثم أومأت ببطء.
“نعم…”
نظر إليها مطولًا، ثم قال بلهجة قاطعة:
“لكنكِ… لستِ شيطانة.”
قالها كمن يحاول كبح مشاعره، لكن عينيه كانتا تعجان بانفعالات شتى.
إيف، التي واجهت عينيه عن قرب، أغمضت عينيها بقوة.
“صحيح… لست شيطانة.”
لم يعد للإنكار معنى.
أقرت بذلك ببساطة، دون تبرير أو التفاف.
______
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 72"