عندما صدحت كلمات يوري بصوت عالٍ نسبيًا، خيّم على القاعة صمت خانق، وكأن الأنفاس قد انحبست في الصدور.
ثم سرعان ما تعالت الهمسات والضجيج في القاعة أكثر من أي وقت مضى، بينما اتسعت أعين الحاضرين حول إيف من الصدمة.
“ساحرة؟“
“أليست هي من استدعت شيطانًا قبل مئة عام؟“
“ساحرة، حقًا؟“
لكن الشخص الذي بدا عليه الذهول الأكبر كان باليريان.
فقد نظر إلى إيف مذهولًا، غير قادر على إخفاء اضطرابه من تصريح يوري المفاجئ.
شعرت إيف بنظرته، فحولت وجهها تلقائيًا لتتفادى عينيه.
ويبدو أن يوري فسّرت هذا التصرف بطريقة مغايرة، فارتسمت على وجهها علامات الثقة والانتصار وهي تتابع قائلة:
“هل تفهمون الآن لماذا وصفتُ إيف إستيلا بأنها أداة في يد الشيطان؟ لم أقل ذلك جزافًا، بل لدي أدلّة!”
في تلك اللحظة، تجمدت ملامح وجه زافييز كما لو كان قد تحوّل إلى تمثال، ثم وجه نظرة صارمة نحو “إيف“.
‘إيف إستيلا لم تُظهر أيّ انفعال…’
وكأن الأمر كان متوقعًا، فقد كانت إيف تنظر إلى يوري بهدوء تام.
عندها اقترب زافيير من يوري وسألها:
“ايتها القديسة، هل يمكنكِ أن توضحي الأدلة التي بحوزتكِ؟“
“الجميع يعلم أن القديسات عبر الأجيال كُنّ يمتلكن القدرة على رؤية طاقة السحر لدى الآخرين. وحين رأيتُ إيف إستيلا، شعرت بقوة سحرية هائلة تنبعث منها، وقد استبدّ بي الخوف!”
“وإذا كان الأمر كذلك، لماذا لم تُعلني ذلك منذ البداية؟“
طرحت أوفيليا غيلين، التي كانت تتابع الموقف بدقة، هذا التساؤل البديهي.
وكأنها توقعت هذا الاعتراض، ردت يوري على الفور:
“لأن إيف إستيلا طلبت مني ألا أقول شيئًا! أنا أيضًا بشر، لم أستطع تجاهل توسلاتها، ولهذا احتفظت بالأمر سرًا…”
وبينما اغرورقت عيناها بالدموع، نظرت نحو إيف بنظرة مفعمة بالمرارة.
“لم أتوقع أن تتهمني بالكذب وتدفع الناس ضدي!”
ضحكت إيف بسخرية مكتومة، ولكن في داخلها لم تستطع كتمان تساؤلها ‘لماذا تكرهها يوري إلى هذا الحد؟‘
‘لقد لاحظتُ تصرفاتها الغريبة منذ بداية مهرجان الصيف.’
أي نوع من التحريض كان قد همس به الشيطان الذي تقمّص هيئة آرون حتى أصبحت يوري بهذا الحال؟
لكنها كانت تعرف أن لا سبيل لفهم ما يدور في ذهن يوري سوى بمواجهتها وجهًا لوجه.
‘كنت أنوي التحدث معها أخيرًا، ولو لمرة…’
لكن عندما دخلت يوري“القاعة، لم تلقِ على إيف حتى نظرة واحدة. وعندما اقتربت منها، تجاهلتها تمامًا وبدأت بالكلام فورًا.
زفرت إيف تنهيدة ثقيلة، بينما كانت تحت أنظار باليريان الذي بدا وجهه مشدودًا.
شعرت إيف بوخزة ضمير حادة من نظرته، لكنها أخفت ذلك، وبدأت تؤدي دورها المتقن كما خططت مسبقًا.
“يا ايتها القديسة… هل تكرهينني إلى هذا الحد؟“
رنّ صوتها الصافي كحبات اللؤلؤ في القاعة، ثم عضّت شفتها الصغيرة المرتجفة وكأنها تحاول منع دموعها من الانهمار.
“أنا أعلم أنكِ تحبين باليريان. لكن أن تفعلي هذا بي… لم أظن أنكِ ستصلين إلى هذا الحد!”
وعينَاها الحمراوان كالروبي، المتلألئتان تحت رموشها الطويلة المرتعشة، بدأتا تدمعان.
“إذا كان هذا ما تريدينه، فسأتخلى عن باليريان. شخص مثلي لا يملك الجرأة ليعصي كلمة من القديسة…”
بدأ النبلاء المحيطون بها، الذين كانوا يتابعون بهدوء، يهمسون ويُدلون برأيهم واحدًا تلو الآخر:
“حقًا، هذا كثير!”
“حتى وإن كنتِ مختارة من الحاكم، لا يحق لكِ الافتراء على أحد.”
“صحيح. لا يمكنكِ اتهام شخص ما بأنه ساحر فقط لأنه لا يروق لكِ.”
“تقولون إنها بريئة؟!”
صرخت يوري غاضبة وقد اختنق صوتها، مما أثار ارتياحًا خفيًا على وجوه بعض النبلاء المحاربين الذين تبعوا ملامح ارتباكها بانتصار صامت.
ففي مثل هذه المواقف، من يفقد أعصابه أولًا يظهر كمن ارتكب الخطأ.
والأدهى من ذلك، أن لا دليل بيد يوري أصلاً.
كل ما لديها أنها وحدها رأت طاقتها السحرية… أما البقية فلا يرون شيئًا.
لكن فجأة…
“مهلاً…!”
تذكرت إيف أن هناك شخصًا آخر في القاعة يملك القدرة على رؤية السحر.
رمقت باليريان بطرف عينها، لكنه لم يكن ينظر نحوها، بل كان يحدق في شخص آخر… كان ينظر الى أخيها نواه إستيلا.
وكان هذا نواه قد احمرّ وجهه، متأثرًا بالموقف.
‘أحمق! نواه، ذلك الغبي…’
أسرعت إيف تنظر إليه بتوتر، ترسل له نظرات صارخة تحذره، وبالفعل، فهم نواه الرسالة سريعًا، وشدّ وجهه في محاولة لاستعادة توازنه.
ثم اندفع إلى وسط القاعة بخطوات واثقة، وهتف بصوت عالٍ:
“عائلة الكونت إستيلا ستقدم شكوى رسمية إلى المملكة المُقدسة بشأن هذه الاتهامات!”
اهتزت القاعة أكثر أمام نبرة نواه الحازمة.
وبينما كانت إيف تراقبه وهو يغيّر تعابير وجهه بانسجام مع تمثيليتها، خيّم عليها الصمت.
‘تصرّفه يُشبه أحدًا ما…’
ولم يطل بها التفكير حتى أدركت من هو.
‘إنه يُقلدني تمامًا…’
أغرقت وجهها بالكف، متحسرة، ولكنها رغم انزعاجها، أجادت دورها كما لو كانت متأثرة.
“أخي… لا أريد أن أراك تتأذى بسببي. لا أحتمل ذلك…”
‘يا إلهي، نواه، حافظ على ملامحك!’
وبينما كان وجه نواه يكاد ينهار من داخله، أمسكت إيف بذراعه، متظاهرةً بالاستناد عليه، وقرصته بشدة في خصره.
فقال بجدية مصطنعة:
“كيف لي أن أظل صامتًا وأختي في خطر؟ لا تقلقي، سأحميكِ يا أختي.”
كادت إيف تتقيأ من التمثيل، لكنها تظاهرت بالبكاء تأثرًا.
“شكرًا لك… أخي العزيز.”
ربما لأن رغبتها في الخروج من هذا الموقف الجنوني كانت شديدة، فقد قدّمت أفضل أداء تمثيلي لها.
والحقيقة أن اضطرارها للوقوف إلى جانب نواه وتمثيل هذا المشهد السخيف كان أقسى من اتهامات يوري ذاتها.
‘حسنًا… يبدو أن الأمر سيّان بالنسبة له.’
وبينما التقت عيناها بعيني نواه، شعرت ببعض العزاء. فهما يعانيان معًا على الأقل.
“ايتها القديسة، لعلّكِ لم تختاري الوقت والمكان المناسبين لطرح هذا الموضوع. فلنخرج ونتحدث على انفراد.”
تدخل زافيير أخيرًا لتهدئة الموقف. نظرته الباردة مرّت على إيف، فتجمدت في مكانها.
‘ما هذا؟ ما معنى تلك النظرة؟‘
كانت عيناه تنظران إليها وكأنه كشف الحقيقة كاملة.
‘مستحيل… لا، لا يمكن…’
كيف يمكن لولي العهد أن يكشف كذبها من خلال هذا المشهد فقط؟ ومع ذلك، كانت مشاعر الخطر تتزايد.
وكما توقعت…
زافيير الذي راقب تمثيل إيف عن كثب، لم يصدّق يوري بسبب كلامها، بل صدّقها لأن إيف كانت تمثّل.
وببراعتها الزائدة، أكدت له دون قصد أن ما قالته يوري حقيقي.
‘…إذًا، في ذلك الوقت…’
السبب الذي دفعها للهرب من العاصمة…
إن كان حقًا لأن إيف إستيلّا ساحرة، فكل شيء سيكون منطقياً تماماً.
عندها، استعاد زافيير في ذاكرته كلمات الوحي، وتجهم وجهه على الفور.
‘حادثة استدعاء الشيطان…’
هل يعقل أن الكارثة التي تحدث عنها الوحي،
تشير بالفعل إلى إيف إستيلّا الواقفة أمامه الآن؟
إن صحّ ذلك، فعليه أن يكون أول من يوقفها.
وفي تلك اللحظة تحديدًا…
تكلم باليريان، الذي ظلّ حتى الآن يراقب الموقف بصمت.
“سأعلن الحقيقة هنا والآن.”
“……؟!”
فيما ساد الارتباك من وقع هذا الإعلان المفاجئ،
تقدّم باليريان بخطى ثابتة نحو إيف ووقف أمامها.
ثم أمسك بذراعها.
فوجئت إيف وحاولت التملص،
لكن قبضته كانت قوية، لم تستطع الحراك.
شعرت بجفاف حلقها وبلعت ريقها بتوتر.
الشيء الوحيد الذي أحست به
هو دفء يده،
وحرارة تسري بهدوء في جسدها.
‘ما هذا…؟‘
ذلك الدفء الذي أخذ يتسلل إليها،
كأنها كانت تتجول في صقيع الشتاء،
ثم فجأة اقتربت من مدفأة تنشر حرارة لطيفة في كل الجسد.
بدأ جسدها يرخو شيئاً فشيئاً،
فيما عيناه اللتان تطلّان عليها
تلمعان بعمق غير مألوف.
استفاقت إيف متأخرة من حالة الخدر تلك.
‘هل هذه قوة إيلا…؟‘
هل يمكن أنه كشف أمري؟
تسمرت تنظر إليه بتوتر.
لكن عينيه الزرقاوين لم توضحا ما يجول في خاطره،
كانتا معقدتين، يصعب سبر أغوارهما.
فيما خيّم الصمت على القاعة،
أغمض باليريان عينيه ببطء ثم فتحهما.
وأخيرًا قال:
“إيف إستيلّا ليست ساحرة.”
للحظة، خيم الصمت المطبق.
ثم انفجرت القاعة بالهمهمات والدهشة.
وارتفعت الأصوات أكثر من أي وقت مضى.
“وكيف تأكدت من ذلك؟“
سألت أوفيليا غيلين، فأرخى فاليريان قبضته عن ذراع إيف ببطء، ثم أجاب:
“لو كانت ساحرة فعلاً، لما استطاعت احتمال قوة الشمس التي مررتها إلى جسدها، ولماتت فورًا في مكانها.”
“الموت فورًا…؟!”
همس النبلاء بدهشة،
وقد أدركوا للتو مدى جبروت قوة إيلا،
وارتسم الخوف على وجوههم.
أما إيف، فرفعت نظرها إليه في ذهول:
‘لو كنتُ ساحرة، لمُتّ؟‘
لكنها بالفعل ساحرة.
تلك حقيقة لا شك فيها.
إذن، لم يتبقَ سوى احتمال واحد:
‘الرجل الواقف أمامي… يكذب.’
وكان هناك شخص آخر أدرك كذبه أيضاً.
أطلق زافيير نحوه نظرة حادة.
شعر باليريان بتلك النظرة، فأكد كلامه بقوة أكبر:
“وإن كان في حديثي ذرة كذب، فسأتخلى عن لقبي كفارس.”
نبرة يقين، تليق بمن يحمل قوة إيلا.
فلم يجد النبلاء سوى التصديق التام.
لكن زافيير لم يتأثر.
بل استعاد في ذهنه واقعة سابقة، حين مزّق شارة الفروسية بنفسه، بسبب خطبته المزيّفة من الآنسة إيف إستيلّا.
تحول نظر زافيير إلى إيف.
فشعرت إيف بقشعريرة تسري في جسدها.
‘هل كشفني؟‘
هي تعلم تمامًا من خلال أحداث القصة الأصلية
كيف يتعامل زافيير مع من يشكّل تهديدًا للإمبراطورية.
صحيح أن باليريان كان دوماً يظهر كمهووس بالواجب، لكن في الحقيقة زافيير لم يكن أقل شراسة منه في الولاء للدولة.
‘إن تأكد أنني ساحرة…فلن يتردد في قتلي.’
اهتزّت رموشها، ثم أغمضت عينيها بقوة.
أما باليريان، فقد قبض يده في صمت، يراقب توترها بعينين مشدودتين.
زافيير بدوره ضيّق شفتيه قبل أن يقول بنبرة هادئة:
“آنسة إيف إستيلّا، لا بد أنكِ تلقيتِ صدمة نفسية مما حصل. عودي إلى منزلكي وخذي قسطًا من الراحة.”
‘…هل لم ينتبه؟‘
نبرة زافيير التي بدت كالمعتاد طمأنتها قليلاً، ففتحت عينيها ببطء.
لكن ما إن التقت بنظرات زافيير وباليريان نحوها، حتى أدركت الحقيقة:
‘لقد انتهى أمري.’
كلاهما، زافيير وباليريان،
أدركا هويتها الحقيقية.
__________
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 71"