“عليّ أن أعرف أولًا ما نوع الأعذار التي اختلقتها، حتى أقرر إن كنت سأتظاهر بالموافقة أم لا.”
“آه… كم أنت مزعجة حقًا.”
تنهد نواه بعمق وهو ينهض بكسل.
“قلتُ إن باليريان اكتشف حقيقتك، لكنه قرر التغاضي عنها.”
“…ماذا؟“
اتسعت عينا إيف بدهشة.
“وما الذي أخبرتهم به عن حقيقتي؟“
“ما عساي أن أقول؟ قلت إنك ساحرة.”
قال ذلك وكأنه أمر بديهي، وهو ينظر إليها دون مبالاة.
بقيت إيف صامتة وقد عجزت عن الرد. لم يخطر ببالها أنه سيصرّح بالأمر بهذا الشكل المباشر.
‘إذًا، لهذا بدا متأثرًا إلى هذا الحد؟‘ (متأثر بسبب تعامل اهلها وفاهمين غلط)
حاولت أن تتمالك عقلها للحظة، لتستوعب ما يجري بعقلانية. ثم ما لبثت أن تصورت ردّ فعل والديها بعد هذا الاعتراف، فشعرت بأن الأمور تتجه إلى مسار سيئ.
“نواه، ألم تتعرّف على والديك بعد كل هذا؟“
“لمَ؟ هل ثمة مشكلة؟“
“بالطبع هناك مشك—”
وقبل أن تكمل، ظهرت عائلة الكونت بابتسامة مشرقة وهم يتقدّمون نحوهما.
“كم هو رائع أن نلتقي بكما هنا!”
سأل نواه:
“هل من أمرٍ ما؟“
أومأ الكونت برأسه مؤكدًا، بينما أطلقت إيف تنهيدة طويلة، وقد خمّنت ما سيُقال تاليًا.
“الآن بعد أن انضم إلينا إيلا، ستنجح ثورتنا بالتأكيد!”
قال الكونت ذلك بعينين تلمعان بالحماس الخالص.
عندها فقط أدرك نواه حجم الكارثة، وبدت على وجهه ملامح الندم الفوري.
أما إيف، فقد رمقته بنظرة حادة جانبية تقول بوضوح:
‘أنت من أوقعنا في هذا… فتصرّف لوحدك!’
قرأ نواه تلك النظرة جيدًا، فأسند جسده إلى الأرجوحة وكأنه استسلم لقدره.
في تلك الأثناء، عاد باليريان إلى قصر الدوق وتوجه مباشرة إلى الحديقة. لم يكن هناك للتنزه أو الاسترخاء.
“يوري.”
بمجرد أن لمحها، اقترب منها فورًا.
“آه! ريان!”
ابتسمت يوري بسعادة حين رأته، وكأنها لم تستطع إخفاء فرحتها بزيارته غير المتوقعة.
لكن مزاجها انقلب رأسًا على عقب عندما نطق بجملته التالية.
“أريدك أن تعودي إلى المملكة المُقدسة.”
“ماذا؟!”
“نعم، لا أظن أن بقاءك هنا فكرة صائبة. لا بد أن رئيسة الكهنة أخبرتك بذلك أيضًا.”
رغم معرفته برفضها لفكرة العودة، فإن باليريان لم يكن يملك خيارًا آخر.
كان عليه، بأي وسيلة، أن يعيدها إلى موطنها.
‘ما دامت بقيت هنا، فستكون خطراً على إيف.’
فهو يدرك تمامًا أنها تحمل مشاعر سلبية تجاه إيف، ولم يكن غافلاً عن سببها، كما لم يكن ساذجًا كي لا يلاحظ مشاعرها المتزايدة تجاهه مؤخرًا.
“إن رفضتِ العودة، فلن يكون بوسعي مساعدتك بعد الآن.”
نظر إليها بنظرة جامدة، ثم أشار إلى الفرسان المحيطين بها.
“سيدتي القديسة، نرجو منك مرافقتنا بهدوء إلى المملكة.”
“هل تقول هذا… بجدية؟“
نظرت يوري حولها بذهول، غير مصدّقة لما تسمعه. ومع غياب أي ردّ يطمئنها، بدأت ملامحها تفقد لونها تدريجيًا.
“لا… لن أعود!”
صاحت بصوت مضطرب، وقد شعرت بإهانة كبيرة.
‘ما هذا؟ هل يُعاملونني كأنني مجرمة تُساق بالقوة؟!’
لكن قبل أن يتمكن الفرسان ذوو الدروع الزرقاء من اصطحابها، اقتحم المشهد مجموعة أخرى يرتدون دروعًا ذهبية فاخرة.
“نحن هنا بناءً على أمر من جلالة الإمبراطور، لنصطحب القديسة.”
نظر فرسان لودفيغ نحو باليريان بحذر.
تغيرت ملامحه فجأة إلى الغضب.
فقال ببرود قاتل:
“الإبقاء على شخصٍ تعامل مع الشياطين داخل القصر الإمبراطوري أمر بالغ الخطورة.”
ازداد وجه يوري شحوبًا، وهمّت بالاعتراض، لكن فارسًا من المجموعة الملكية سبقها بالكلام:
“هذا أمرٌ من الإمبراطور.”
ردّه كان حاسمًا. لكن باليريان لم يتراجع، وقال بتهكّم:
“يبدو أن عين الإمبراطور التي لطالما رأى بها الحق قد أصابها الوهن بسبب دائه الطويل.”
ثار الفارس الملكي لهذا التعليق:
“هل تنوي التمرّد؟“
لكن برغم لهجته المتحدية، بدا واضحًا في عينيه بعض التردد. فحتى أقوى الفرسان الإمبراطوريين لم يجرؤوا على مجابهة دوق لودفيغ أو نجله.
وفي تلك اللحظة، انطلقت من الخلف نبرة هادئة وباردة:
“باليريان، دع الفرسان يأخذون القديسة.”
شدّ ملامحه فور سماعه صوت والده المألوف. أما الدوق، فمرر بصره على الفرسان بهدوء.
“أبي.”
استدار باليريان لوالده، لكن والده ضيّق ما بين حاجبيه، وكأنه يقرأ ما وراء تصرفاته.
‘تصرّفك هذا سيجعلنا محطّ أنظار القصر… وهذا لن يصبّ في صالحك ولا في صالح إيف.’
لقد كان الدوق في حيرة منذ أن بدأ يشك في كذب إيف، وتساءل إن كان عليه أن يُزيل سوء الفهم العالق في ذهن ابنه.
لكنه، وبعد طول تفكير، قرر أنه ليس الوقت المناسب.
‘يكفي أن يُقال إنها شيطانة حتى يُرفض وجودها. فكيف لو عرفوا أنها مجرد ساحرة؟!’
حينها سيحاول باليريان الدفاع عنها بكل قوة… وسيدّعي بأن السحرة مظلومون.
لكن ذلك يعني قلب تاريخ الإمبراطورية رأسًا على عقب.
فجرائم السحرة مسجلة في كتب التاريخ بدقة. وما لم يظهر دليل يبرئهم جميعًا، فإن تحرك باليريان لن يُغتفر.
‘إيف إستيلّا لا تزال في العاصمة…’
وقد بلغ إلى مسامعه ما فعلته في حفلة الماركيزة كاثرين. رغم أنه لا يعلم بالتفصيل ما تخطط له، إلا أنه شعر بأن ما تقوم به ليس عبثيًا.
فقال بلهجة هادئة تخفي صراعاته الداخلية:
“دعهم يأخذون القديسة… ويا باليريان،“
ثم وجه إليه نظرة مباشرة وهو يمرّ من جانبه:
“ما تخشاه لن يحدث.”
* * *
حلّ صباح يوم الحفل الإمبراطوري دون أن يشعر أحد بمرور الأيام.
وفي اللحظة التي همّت فيها إيف بالخروج من القصر بعد أن أنهت استعداداتها للحفل، اقترب منها الكونت وزوجته على عجل وأمسكا بها.
“إيف، لم يفت الأوان بعد! في مثل هذا اليوم، يمكنك أن تستخدمي سحرك ضد الإمبراطور…”
لكن والدها لم يتمّ جملته، وتلعثم.
فرفعت إيف حاجبيها وقالت ببرود:
“أتقترح أن أقتل الإمبراطور؟“
ارتبكت الكونتيسة وردّت بتوتر:
“كـ…كيف يمكنك قول شيء مرعب كهذا؟“
زفرت إيف تنهيدة طويلة ونظرت إليهما بنظرة باهتة.
“إذن، ما الذي تطلبانه مني؟“
“نحن… كلامك صحيح.”
أومأ الكونت موافقًا، فيما شعرت إيف بأن طاقتها استُنزفت منذ الصباح.
‘يريدون التمرد وهم بهذا الضعف؟‘
كان واضحًا أن كل ما يعوّلون عليه هو سحرها لا أكثر.
هي تفهم أنهم يفعلون ذلك حفاظًا على نمط حياتهم المريح، لكن إن كانوا حقًا يريدون سلامها، لكان من الأفضل لهم أن يبتعدوا تمامًا عن هذا الأمر.
حين التفتت إلى الوراء، وجدت نواه يضع يده على جبينه وكأنه يشهد على مأساة مألوفة.
“أرجوكما… كفاكما هذا.”
قالها نواه وهو يقترب منهما متثاقلاً، ثم حاول تهدئة الكونت وزوجته.
‘إنها فرصتي!’
فانتهزت إيف اللحظة وغادرت بسرعة.
وما إن خرجت تمامًا من القصر، حتى وقعت عيناها على عربة ضخمة مطلية بالأسود، تعلوها صورة صقر أزرق.
“هذه…”
كان شعار عائلة دوق لودفيغ.
وأمام العربة وقف رجل أكثر ألفة من الشعار نفسه.
كان باليريان، وقد ارتدى بذلة رسمية سوداء مزينة بخيوط زرقاء على الأكمام، وكأنه هو الآخر جاء للمشاركة في الحفل.
‘يبدو مذهلًا.’
كان ينبغي عليها أن تعاتبه على مجيئه إلى قصر الكونت دون سابق إنذار، لكنها لم تستطع سوى التحديق فيه وقد أسَرها مظهره.
أما هو، فعندما رآها بكامل زينتها متجهة إلى الحفل، تلبدت ملامحه.
“كنتِ تنوين الذهاب فعلًا إذًا.”
نبرته كانت باردة كنظراته.
كأن بحره الأزرق المعتاد قد تحوّل فجأة إلى جليد لا ذوبان له.
“إيف.”
بمجرد أن ناداها، عادت إلى رشدها وفكّرت:
‘هذا يعني أن يوري ستكشف أمري اليوم، وفاليريان سيكون هناك…’
ربما، في هذا اليوم…
سيكتشف باليريان أنها ليست شيطانة، بل مجرد ساحرة.
“إن كانت يوري ستفضح أمري، وكنتُ غائبة عن الحفلة، فقد ينقلب الأمر إلى الأسوأ. لذلك أريد أن أكون هناك لأمنع ما قد يحدث.”
قالت إيف بهدوء، بينما أطلق باليريان تنهيدة ثقيلة، ثم مدّ يده ليساعدها على الصعود إلى العربة.
رغم أنها قادرة على الصعود وحدها، فإنها أمسكت يده تلقائيًا، كما اعتادت.
‘نحن لسنا في موقف يسمح بهذه اللحظات الهادئة.’
فكّرت إيف في نفسها، ثم جلست في الداخل وهي تشعر بغرابة الموقف.
دخل باليريان خلفها، ونظر إليها بعينين تنطقان بعزم واضح.
“… حسنًا.”
تحرّكت العربة ببطء.
“بما أنكِ قررتِ ذلك…”
ومض في عينيه الزرقاوين وميض حاد.
“…فلن يكون أمامي سوى أن أتبعك.”
أثار كلامه الغامض دهشتها، فأمالت رأسها باستغراب.
‘يتبعني؟ إلى أين؟‘
هي فقط قررت حضور الحفل، لا أكثر.
ما الذي جعله يتحدث وكأنها قررت شيئًا مصيريًّا؟
“ماذا تعني بأنك ستتبعني؟“
في العادة، كانت لتتجاهل مثل هذا التصريح،
لكن هناك شيء ما في حديثه جعل القلق يدبّ في قلبها، فسألته.
عندها، قال بنبرة جادة:
“ألستِ تنوين قتل يوري في الحفل؟“
“……؟!”
سُمّرت في مكانها من المفاجأة.
نسيت للحظة حتى أن تُنكر، من شدّة ذهولها.
‘أنا؟ أقتل يوري؟‘
هي ليست شيطانة… ولا تملك في قلبها تلك القسوة لتقتل إنسانة ببساطة.
‘آه…’
لكنها سرعان ما تذكرت… أن باليريان يعتقد أنها شيطانة.
فأغلقت فمها بإحكام، كي لا يفلت منها تنهيدة تعكس خيبة أملها.
‘ومع ذلك… يقول إنه سيتبعني؟‘
هل فقد صوابه؟
نظرت إليه مدهوشة، وقطّبت حاجبيها.
من الواضح أن شيئًا ما قد حدث له أثناء عودته من غابة التنانين حاملاً الإكسير.
ربما تلقّى ضربة غادرة من تنين، أو وقع تحت تأثير تعويذة وهمٍ ما.
‘وإلا… فلا تفسير منطقي لما يحدث الآن.’
فقدت إيف القدرة على الكلام، وبلعت ريقها الجاف، ثم حوّلت نظرها إلى النافذة بصمت.
شعرت وكأنها تواجه جدارًا هائلًا لا يمكن تجاوزه.
———-
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 69"