‘لم يعد أمامي سوى المواجهة المباشرة.’
على أية حال، كانت قد أتمّت استعداداتها لحضور الحفلة الراقصة، تحسبًا لمثل هذا الموقف من البداية.
لكن عقلها كان مضطربًا.
كيف وصلت علاقتها بيوري إلى هذا الحد المؤسف؟
لم تستطع التركيز على الأعمال الورقية أمامها، فأغمضت عينيها بإحكام.
كانت تأمل أن تهدأ أفكارها قليلًا، لكن المحيطين بها لم يتركوها وشأنها.
‘لحظة… هناك من يقترب.’
فتحت إيف عينيها على اتساعهما عند سماعها كلام كبير الخدم.
ونطق كبير الخدم باسم الزائر بوضوح شديد.
“سعادة الدوق الصغير باليريان لودفيغ قد حضر.”
“من دون سابق إخطار…؟“
عضّت إيف شفتها.
ففي كل مرة كان يزور فيها القصر، نادرًا ما كان يحمل أخبارًا سارة.
لكنها لم تستطع طرده ببساطة…
‘لن يعود من تلقاء نفسه.’
كانت تعرف الآن جيدًا كم هو عنيد، لذا لم يكن أمامها خيار سوى النهوض من مقعدها.
‘ما كنت لأرغب برؤيته الآن…’
ومهما كانت الظروف، فهي في نهاية المطاف الشخص الذي خدعه، لذلك فإن لقائه لا بد أن يثير في نفسها شعورًا بالذنب.
‘هل من الممكن أنه أتى لينهي أمري بعد فوات الأوان؟‘
ارتجف جسد إيف وهي تسترجع في ذهنها صورة السيف المقدس المتلألئ، ثم فتحت باب غرفة الاستقبال بحذر ودخلت.
“باليريان…”
“إيف.”
ما إن وقعت عيناه عليها، حتى تغيرت ملامحه بالكامل.
كانت نظرته وكأنه رأى شبحًا.
توقفت إيف في مكانها، مترددة، وقد كانت على وشك التقدّم إليه.
فهو رجل عاش حياته كلها مؤمنًا بواجبه المقدّس في القضاء على الشياطين.
ولا يمكن لرجل كهذا أن يبدل قناعاته بين ليلة وضحاها ليقبل بها كما هي. لم يكن من الممكن العودة إلى ما كانا عليه من قبل.
كانت إيف مستعدة لأن يُقابلها بالرفض، أيا كان ما سيقوله أو يفعله، فهي لن تسمح لنفسها بأن تنكسر.
لكن حين فتح شفتيه أخيرًا، لم تكن كلماته كما توقعت على الإطلاق.
“…لماذا لم تهربي؟“
حدّقت به بدهشة.
“ماذا؟“
كان سؤاله غريبًا وغير منطقي. لو ظن أنها هربت، فلماذا أتى إلى هنا أصلاً؟
لكن عندما رأت نظراته الجادة، أجابت بصوت خافت:
“ألم أقل من قبل… إنني لن أهرب.”
“إذن لماذا هربتِ في ذلك الوقت؟ ما الفرق بين حينها والآن؟“
سأَلها بوجه يزداد ارتباكًا.
كان يشير إلى الوقت الذي اختفت فيه في قرية نادين، وسؤاله منطقي من حيث الظاهر.
“في ذلك الوقت… كنتَ تنوي قتلي.”
توقف لوهلة، ثم لفظ كلماته بصعوبة وكأنها تخنقه.
“…إذاً، هربتِ لأنك ظننتِ أنني سأقتلك؟“
“نعم.”
لم تنكر. لم تكن لديها أعذار أخرى. ولم تعد تملك طاقة للكذب.
تلقى باليريان تلك الإجابة وكأنها صاعقة، وعضّ على شفته بقوة.
هل يعني ذلك أنها غادرت العاصمة بسببه هو؟
تحوّل بريق عينيه الزرقاوين إلى سواد عميق يشبه قاع البحر.
وكان يعضّ شفته بقوة لدرجة أن الدم بدأ يترقرق عليها.
‘لا بد أن ذلك مؤلم.’
أشفقت عليه إيف، وهمّت بمدّ يدها نحوه، ثم تراجعت بسرعة.
من يعتبرها شيطانًا، كيف له أن يصدّق مشاعر القلق الصادقة منها؟
‘إن لم يعتقد أنني أتظاهر، فهذا وحده أمر جيد.’
على أية حال، كان عليها أن تستمر في التظاهر بأنها شيطانة. لكنها تساءلت لوهلة:
‘إلى متى سأبقى على هذه الحال؟‘
إلى أن تكشف يوري عن حقيقتها؟ لا تعلم، ولا تملك إجابة الآن.
لكن من المؤكد أن إبقاء الحقيقة طي الكتمان إلى الأبد سيكون أمرًا قاسيًا عليهما معًا.
ساد بينهما الصمت، لكن من كسره أولًا كان باليريان، ومع ذلك لم تكن كلماته موجهة إليها بقدر ما كانت أقرب إلى حوار مع نفسه.
“…لو كنتِ فعلاً شيطانة عظيمة، لكنتِ استغللتِ لحظة غفلتي وقتلتِني، لا أن تختاري الهرب.”
نظر إليها بعينين مضطربتين يعكس فيهما حيرته العميقة.
سمعت إيف كلماته بوضوح، لكنها تظاهرت بعدم الفهم وأدارت وجهها وكأنها لم تنتبه.
ورغم ذلك، فقد كانت في داخلها في حالة ذعر شديد.
‘ما هذا؟! لقد كان يشكّ بي على أنني شيطانة عظمى؟!’
الأمور تزداد سوءًا وتعقيدًا مع كل لحظة.
في الحقيقة، بما أنني لست الشيطان الأعظم، فلا يمكنني إيذاء باليريان لا جسديًّا ولا نفسيًّا.
ومع ذلك، لا أستطيع أن أُقرّ له بالحقيقة، كما لا يمكنني أن أوافقه على شكوكه، مهما بدت منطقية.
“إذًا… ما الذي أتى بك؟“
سألته وهي تجلس على الأريكة المقابلة له.
كانت تريد أن تعرف غرضه بسرعة، ثم تُنهي الحديث وتُصرفه.
أطلق باليريان تنهيدة خفيفة ثم أجاب:
“ستحضر يوري الحفل الإمبراطوري.”
“…نعم، أعلم.”
كانت قد سمعت الخبر بالفعل، ومنذ ذلك الحين وهي تعاني من صداع لا يتوقف.
تنهدت إيف، متذمرة في سرّها.
وأن يُفترض بها أن تحضر الحفل تلقائيًّا لم يكن أمرًا سارًّا على الإطلاق.
‘أيعني أنني سأضطر لتمثيل هذا الدور مجددًا؟‘
لكنها فكرت بأن تجاوز هذه العقبة قد يمنحها فرصة للعيش بهدوء لبعض الوقت.
كانت عازمة على إنهاء هذه الفوضى، وهي تفكر فقط في الوصول إلى ذلك اليوم.
“ومن أخبرك؟“
ربما بدا له غريبًا أنها عرفت بالأمر مسبقًا، فتغيرت نظرته وضيّق عينيه بشكّ.
بل بدا عليه أنه يعرف جيدًا من المقصود.
“زافيير، والأميرة غيلين.”
أجابت بصراحة، فلم يكن هناك ما يستدعي الكتمان.
“زافيير…”
أغلق باليريان فمه، لكنه غرق في التفكير ونظرته بقيت معلقة بطرف الطاولة.
لم يكن قد رأى من قبل زافيير مهتمًا بهذا الشكل بأحد.
وقبل أن يستغرق في غيرته المزعجة، وصله خبر آخر بأن أوفيليا غيلين بعثت رسالة إلى إيف.
نظر إليها حينها بنظرة مضطربة.
‘أوفيليا غيلين…’
رغم أنه لم يكن مهتمًا كثيرًا بالمجتمع الراقي، إلا أنه يعرف جيدًا مدى صعوبة طبعها وغرورها.
هل يعني هذا أن العلاقة بين إيف وغيلين تطورت لتصل إلى حد تبادل الأخبار الشخصية؟
لم يكن من السهل تصديق أن إيف، المنعزلة بطبعها، قد كوّنت صداقة مع غيلين.
‘أي حيلة استخدمتها معها يا ترى؟‘
لطالما عُرف عن الشياطين بقدرتهم على سحر الناس والتلاعب بمشاعرهم، فهل استخدمت إيف ذلك؟
‘لا، لا يمكن…’
أغمض باليريان عينيه بإحكام، ثم فتحهما مجددًا ونظر إليها.
رآها بشعرها الفضي الطويل، وعينيها الحمراوين المتألقتين وهي ترمش ببراءة.
لم تكن تشبه الشياطين من أي ناحية… بل كانت لا تزال بالنسبة له تلك الخطيبة الطفولية المحبوبة.
نظرت إليه مستغربة ملامحه المليئة بالقلق.
“هل على وجهي شيء؟“
شعرت بالحرج، فرفعت يدها لتحك خدها.
“على الأرجح، تخطط يوري لفضح هويتك في الحفل.”
قال باليريان بعد أن حدق فيها طويلاً.
ارتجفت إيف، فلم تكن تتوقع أنه توصّل إلى هذا الحد من الاستنتاج.
نظرته أصبحت أكثر حدة:
“إيف، ما الذي تنوين فعله؟“
“…….”
لم تُجب. كانت تعلم أنه لو عرف أنها ستحضر، فسيحاول منعها حتمًا.
“لا يزال الوقت مبكرًا. تعالي معي، فلنهرب الآن.”
قالها، فتفاجأت إيف.
لم تكن تريد أن ترى صدقه بهذا الشكل، كان الأمر يرهقها أكثر.
‘بهذا الشكل، لن أستطيع الاستمرار بالكذب…’
كانت تشعر بتأنيب ضمير عميق.
لم تستطع الرد، فظلت تنظر بعيدًا.
“نعم… بعد أن ينتهي كل هذا، سأخبره بالحقيقة.”
عزمت في داخلها على أن تبوح له بكل شيء حالما تعود يوري إلى المملكة المُقدسة بسلام.
‘حتى ذلك الحين فقط… سامحني على هذا الوهم.’
نظرت إليه بعينين يملؤهما الأسف.
وهو، حين التقت عيناهما، بذل جهدًا كبيرًا كي لا يشك في صدق مشاعرها.
عند مغادرة باليريان لقصر العائلة، خرج الكونت وزوجته لوداعه.
راقبتهم إيف بذهول.
‘منذ متى يفعلون هذا؟‘
لم يكونوا عادة يهتمون بحضوره أو خروجه، بل كانوا يكتفون بشرب الشاي أو التنزه في الحديقة معه.
كان والداها دائمًا مثالًا على اللامبالاة.
لذا، تصرفهما هذا أربكها أكثر من أي شيء آخر.
“عد بحذر يا باليريان.”
“أجل. أشكركم على اهتمامكم. أتمنى لكما يومًا هادئًا.”
رد بلطف، لكن نظرته لهما لم تكن مطمئنة كما بدا كلامه.
ظنت إيف أنه تفاجأ من تصرف والديها غير المعتاد، لكنها لاحظت أن نظره توجه إليها.
وعندما التقت نظراتهما، أدركت أنه كان يشعر بالقلق… بل بالذعر.
لم تفهم السبب في البداية، لكن حين استدار ليغادر، فهمت.
“آه…”
راقبته وهو يخطو خطوات مترددة نحو الخروج، فشدّت شفتيها.
‘يبدو أنه قلق لأنني شيطانة.’
على الأرجح، كان قلقه موجّهًا للكونت وزوجته، الذين لا يعرفون أن ابنتهم قد استُبدلت، ولا يزالون يظنون أنها ابنتهم الحقيقية.
رغم أن كل ذلك مجرد وهم يعيشه باليريان وحده.
“أنا حقًّا آسفة تجاه باليريان…”
“صدقتِ، لو علمنا أن الأمر سيؤول لهذا، لكنا أحسنّا معاملته.”
في تلك اللحظة، سُمعت أصوات من خلفها.
كانت والدتها ووالدها يتحدثان بصوت يشوبه الشعور بالذنب.
حدّقت فيهما باستغراب، قبل أن تتذكر حديثها مع نواه صباحًا.
‘ماذا قال لهما بالضبط؟!’
هل يُعقل أن والديها، اللذان اعتادا اللامبالاة، يشعران بالأسف تجاه باليريان؟
أمسكت بأحد الخدم وسألته عن مكان نواه، ليُقال لها إنه كعادته مستلقٍ على الأرجوحة في الحديقة، والكتاب يغطي وجهه كأنه قناع نوم.
‘إنه نسخة طبق الأصل من والديّ في حبّ الراحة والكسل.’
نوح، الذي يعمل في جمع الضرائب لحساب الإمبراطورية، لم يكن يؤدي أي عمل إلا في موسم الضرائب.
والآن، اتّضح لها السبب الحقيقي وراء اختياره لهذا المنصب.
“نواه إستيلا“
نادت عليه دون تردد، لتوقظه من غفوته.
فتح عينيه بتكاسل وعبوس، فبادرت بسؤالها:
“ماذا قلت لأبي وأمي؟“
“قلت ما يلزم.”
نظر إليها بفتور، كأنه يتساءل إن كان الأمر يستحق أن يُوقظ لأجله، ثم غطى وجهه بالكتاب مجددًا ليعود إلى النوم.
فما كان من إيف إلا أن أخذت الكتاب ورمته بعيدًا.
———-
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 68"