ظل باليريان يتأمل كلماتها طويلاً، قبل أن يرفع عينيه إليها بنظرة يملؤها الاضطراب.
أدركت إيف على الفور ما راود ذهنه من شك، فاستجمعت شجاعتها وقالت مجددًا، بنبرة واضحة حازمة:
“أنا… لست شيطانة.”
نطقت الكلمات ببطء، وأكدت على كل حرفٍ فيها كي تصل رسالتها كما يجب.
اتسعت حدقتا عينيه للحظة، ثم عادتا إلى طبيعتهما، وأجابها بوجه بدا هادئًا على غير العادة:
“إيف… حتى لو كنتِ شيطانة، فلن يُغير ذلك شيئًا بالنسبة لي.”
بدت إجابته وكأنه كان يتوقع إنكارها، بل ربما شعر بالراحة لسماعها تقول ذلك.
لكن تلك الراحة الغريبة أربكت إيف.
‘هل… يشعر بالطمأنينة لأنه يعتقد أنني شيطانة؟ ما هذا الموقف العجيب؟‘
وفجأة، تذكّرت أمراً كانت قد غفلته تمامًا.
‘لحظة، كيف له أن يظن أنني شيطانة؟ أليس هذا في حد ذاته أمرًا مهينًا؟‘
فكيف يمكنه أن يخلط بينها وبين أولئك الكائنات المجبولة على الجشع والدموية؟ مجرد المقارنة بينهم مهين بحد ذاته.
أي شخصٍ آخر لو اتهمها بذلك، لكانت لكمته دون تفكير.
لكن الغريب أنها لم تشعر بالغضب.
بل كل ما خطر ببالها هو:
كم من الوقت قضى في عذاب التفكير حتى غارت السواد تحت عينيه؟
فأحست بالشفقة، ثم هزّت رأسها ساخطًة على نفسها:
‘لا شك أنني واقعة في حبه حتى النخاع.’
رغم ذلك، لم تكن مشاعرها تجاهه خالية تمامًا من الغضب.
سألته بنبرة تتسم بالشك:
“هل حقًا تعني ما قلت؟ أنك لا تهتم حتى لو كنت شيطانة؟“
تأملها باليريان لحظة، وكأنه يحاول فك شفرة السؤال، ثم تنهد كمن أدرك عبث المحاولة وقال ببساطة:
“نعم، لا يهم.”
كان وجهه حين قال ذلك جادًا، كمن استعد لمصير محتوم، فتفاجأت إيف.
“لا تنظر إليّ بتلك النظرة!”
راودها شعور بأنها أمام شخص مستعد للتضحية بكل شيء من أجلها، حتى لو كانت تحتال عليه. بدا لها مثل شخص مخدوع سلّم ماله كله لمحتالة وهو يعلم حقيقتها.
شعرت بالدوار.
“وإن طلبت منك أن تموت، فستموت؟“
“أجل.”
“جنون…”
قالتها إيف بصوت خافت من غير أن تدري.
لم تعد تعرف كيف تتعامل مع هذا الأحمق.
“إذن… خُنّي بدلًا من ذلك.”
قالت كلماتها بحزم. وفي لمح البصر، تجمد وجهه، وبات شاحبًا.
تنهدت وهي تراقب ارتباكه.
“قلت إنك تموت إن طلبت منك ذلك، أليس كذلك؟ فلمَ لا تستطيع خيانتي؟“
أجاب بصوت متهدج:
“أن أُخونك… هذا يعني أنني أقتلك، أليس كذلك؟“
حسنًا… نعم. هو كذلك.
أطبقت شفتيها دون أن تنبس ببنت شفة.
لم تكن قد فكّرت حتى تلك اللحظة في عمق ما قاله لها حين عرض أن يهرب معها رغم أنها بحسب ظنه شيطانة.
شعرت أن صدرها يضيق أكثر فأكثر.
‘أي أحمق يراهن بحياته على الحب؟‘
ثم نظرت إليه.
‘ها هو الأحمق أمامي.’
عادت بذاكرتها إلى كل ما فعلته لتجبره على فسخ الخطوبة، وكيف كانت مصممة على دفعه بعيدًا لحمايته، فقط لأنها أرادت الحفاظ على حياتها.
والآن، بعد أن رأت ملامح الألم على وجهه، شعرت بوخزة مؤلمة في قلبها.
‘كم نحن مختلفان…’
لو كانت الأمور بالعكس، لو كانت هي في موقعه، وهو من كان شيطانًا…
‘لما استطعت قتله أيضًا.’
نعم، هذا تشابه بينهما. لكنها رغم ذلك لم تكن لتفكر في الهرب معه.
بل كانت ستنغلق على نفسها، وتدفعه بعيدًا دون تفسير.
وهنا أدركت الحقيقة:
‘أنا وهو… لا نحب بنفس الطريقة.’
فصمتت وقد اختلطت في صدرها المشاعر.
ثم خطر لها سؤال مفاجئ:
‘هل أُخبره أنني في الحقيقة لست شيطانة، بل مجرد ساحرة؟‘
لكنها لم تستطع النطق به.
لأن هناك شيئًا مهمًا لا يمكنها تجاهله.
سحر السلالة لا يُورّث إلا بين أبناء الدم الواحد. ولو علم الناس أنها ساحرة، فقد يمتد الشك لعائلتها.
‘ربما من الأفضل أن أواصل التظاهر بأنني شيطانة.’
فهي وإن شعرت بالذنب تجاه باليريان، فإن الأمر يتعلّق بحياة عائلتها.
تنهدت وهي تتخذ قرارها.
‘ما دمتَ قد وقعت في هذا الوهم، فدعني أُكمله قليلاً.’
رفعت عينيها إليه وقالت بلا مبالاة:
“مؤسف، لكنني لا أنوي الرحيل. أنا مرتاحة هنا.”
فطالما لم تعرف بعد ما تنوي يوري فعله، فمن الأفضل أن تبقى لتراقب وتتصرف في الوقت المناسب.
وإن كان باليريان يعتقد أنها شيطانة…
‘فلن يُقدم على الوشاية بي.’
كانت واثقة من ذلك.
لكن رغم قرارها، اجتاحها الشعور بالذنب من جديد.
‘إلا أن حياة عائلتي على المحك.’
تمسّكت بذلك الشعور لتقنع نفسها بأن كذبها مبرَّر، وكان ذلك ما سهّل عليها أن تُلقي بالكلمات الكاذبة التي يفرضها الموقف دون تردّد.
وبعد صمتٍ، سألها باليريان:
“هل كان الكونت إستيلّا وزوجته يعلمان؟“
أجابت مبتسمة، وكأنها تمثل بمهارة:
“أشك في ذلك. من ذا الذي سيخطر بباله أن ابنتهما الحقيقية استُبدلت بشيطانة؟“
ثم تراءى في خيالها وجه الشيطانة ليليث، فزادت من إتقان تمثيلها، لتقارب شكلها وسلوكها أكثر.
‘أكاد أبدو شيطانة حقيقية…’
تفاجأت إيف من نفسها حين شعرت بأن أداءها كان واقعيًّا لدرجة أذهلتها.
ويبدو أن ذلك لم يكن مجرّد وهم من طرفها، فـ باليريان بدا كمن صُعق بوميض برق، فجمد في مكانه، وارتعشت أهدابه وهو يرمش ببطء.
قال بصوت مبحوح:
“…منذ متى حَللتِ مكانها؟“
ردّت عليه إيف، متعمّدة المراوغة:
“قبل أن ألقاك بفترة طويلة.”
تعمدت ألا تذكر وقتًا محددًا، لأن ذلك قد يكشف ثغرات تجعل كذبها ينفضح.
ارتجفت شفتاه، لكنه لم ينبس ببنت شفة. بدا عليه أنه عاجز حتى عن سؤالها“وأين ذهبت إيف الحقيقية؟“
نظرة وجهه وحدها كانت كافية لإشعارها بالذنب.
‘آه… أشعر بالذنب حقًا.’
كان واضحًا كم هو ممزق في داخله، ومع ذلك لم يملك حتى الجرأة على طرح السؤال. مشهده ذاك كان مؤلمًا بحق.
ورغم كل ذلك، لم تبح إيف بالحقيقة.
‘لا بد أن أخبره قبل أن تسبِقني يوري…’
لكن مع كل كذبة تتراكم، بدأ القلق ينهشها.
إن انكشف الأمر لاحقًا، فكيف ستصلح كل هذا الخراب؟
* * *
في فجر ذلك اليوم…
حين عادت إيف إلى المنزل، هرع الكونت والكونتيسة إليها من شدة لهفتهما، وكأنها عادت من الموت.
“إيف!”
كانت قد أوصتهما من قبل، قبل ذهابها إلى قصر الماركيزة كاثرين، يجب أن يغادرا العاصمة فورًا… لكنهما لا يزالان هنا!
“ما زلتما في هذا المكان…”
تنهدت بمرارة، وقد توقعت ذلك مسبقًا، لكن تأكيده أمام عينيها أضفى على الموقف شعورًا بالخذلان.
‘كان قرارًا صائبًا ألا أقول الحقيقة لباليريان.’
غير أن رؤيتها لشخص مألوف أربكها.
“وأنت؟ لماذا لم تهرب معهم؟“
كان نواه لا يزال في المنزل.
قال مستنكرًا وقد أطلق زفيرًا غاضبًا من أنفه:
“هل تظنين أنني سأهرب وحدي لأُنقذ جلدي؟“
أجابت إيف دون تردد:
“نعم.”
“هل تظنينني بهذا الجبن؟“
ردّت بهدوء:
“بل أسميه حسن تدبير.”
نظر إليها نظرة مريبة وقد عقد حاجبيه:
“تعنين أنني لو كنت على وشك الهلاك، فستهربين تاركةً إياي؟“
“طبعًا.”
أجابت وكأنها تقول أمرًا بديهيًا، ما جعل وجه نواه يتقلص من الصدمة والخيانة.
“لماذا تتصرفين هكذا؟“
هزّت كتفيها بلا مبالاة.
إن اضطر نواه لمواجهة خطر حتمي، فهي بالطبع ستبذل جهدها لإنقاذه… لكن إن لم يكن هناك مفر…
‘عندها لا بد من الهرب، ولو وحدي.’
ثم نظرت إليه بجدية:
“إن حدث الأسوأ… لا تكن غبيًا.”
وفي أعماقها، كانت تدرك أن الأسوأ يعني انكشاف حقيقتها. ولو حدث ذلك، فهي تتمنى من نواه أن يأخذ العائلة ويهربوا بعيدًا… لأقصى حد ممكن.
قال متذمرًا:
“تتصرفين وكأنك وحدك العاقلة هنا.”
تجاهلت تعليقه، ثم التفتت إلى والديها وقالت بثقة:
“بإمكانكما الآن فكّ الأمتعة.”
صُدم الزوجان من هذا التغيير المفاجئ.
“ما الذي يحدث؟! أولًا تطلبين منا أن نحزم الأمتعة، والآن تطلبين منا أن نُعيد كل شيء! اشرحي لنا!”
همّت أن تتكلم، ثم تراجعت.
لو أخبرتهما بالحقيقة، فأغلب الظن أنهما سيغشى عليهما في الحال.
‘ما الذي يمكنني قوله؟‘
الوضع مربك لأبعد حد، ولا يمكنها أن تقول ببساطة إنها تظاهرت بكونها شيطانة.
فكّرت قليلًا، ثم قالت:
“باليريان راودته بعض الشكوك… لكنني أقنعته بأنه لا داعي لها.”
شهق والدها وقد علا صوته:
“ش–شكوك؟! شكوك بشأن ماذا؟!”
قالت وهي تبتسم بثقة:
“لا شيء مهم. لا تقلقوا، كل شيء تحت السيطرة.”
ثم لوّحت بإبهامها في إشارة للطمأنة، وأسرعت إلى غرفتها. كانت واثقة من أنهما سينسيان كل شيء في اليوم التالي، فهما ليسا ممن يفرطون في التفكير.
لكن عند باب غرفتها…
– طَق.
“مهلاً لحظة.”
كان نواه. أدخل يده في فتحة الباب ليمنعها من إغلاقه.
وكم كانت تكره مواجهته الآن، فهو أذكى من والديها، ولديه قدرة على قراءة ما بين السطور.
“هناك شيء غريب. نحتاج إلى حديث صريح.”
“لا أريد.”
“هاه، تتجنبين الحديث لأنك تخفين شيئًا، أليس كذلك؟“
“أنا فقط متعبة!”
كانت هذه آخر من تتمنى أن يثير الشك الآن.
“حتى لو أخفيتِ الأمر عن والديك، كان عليك أن تصارحيني. باليريان اكتشف أنك لستِ بشرية، فكيف نجوت من ذلك؟ هناك فجوات كثيرة لم توضحيها.”
“اخفض صوتك!”
خشيت أن يسمع الخدم حديثهما وينقلونه إلى والديها.
في النهاية، لم تجد مفرًّا من إدخال نواه إلى الغرفة.
قال وهو يرمقها بتوتر:
“كيف تخلّصتِ من شكوكه؟ لا تنسي، باليريان ليس شخصًا عاديًّا… إنه أحد ورثاء إيلا!”
أمام إلحاحه، لم تجد مفرًّا من الاعتراف.
‘حسنًا، من الأفضل أن أخبره.’
لو أرادت مواصلة خداع باليريان، فلا بد من حليف يدعمها من الداخل.
“في الحقيقة… باليريان كان يظن أنني شيطانة.”
“ماذا؟!”
تابعت بهدوء، رغم رد فعله العنيف:
“وقد قررت أن أُقرّ له بذلك.”
بدأت ملامح الصدمة تغمر وجه نواه شيئًا فشيئًا.
———-
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 66"