“مع ذلك، لا أستطيع أن أصف لكم مدى امتناني لأن السيدة الماركيزة كاثرين دعتني إلى هنا.”
قالت إيف بابتسامة مشرقة. كانت نادرًا ما تبتسم، لكن حين أشرقت ملامحها مثل زهرة متفتحة، خطفت أنظار الحاضرين وكأنهم قد سُحروا بها.
حينها أدرك الجميع بوضوح أن الآنسة إستيلّا، التي اعتبروها دومًا جميلة متعالية وغامضة، تزداد جمالاً حين تبتسم.
قالت إيف في نفسها مبتسمة:
‘الناس بطبعهم ضعفاء أمام الجمال.’
ولأنها تعرف ذلك جيدًا، فقد أحسنت استغلال جمالها في اللحظة المناسبة.
لكن الآنسة غيلين و الامير زافيير كانا يراقبانها بنظرات مدهوشة، وكأن تصرفاتها أدهشتهما.
ربما لأن من يفوقها في الجمال لا يتأثر بسهولة بحيل من هذا النوع.
‘لا بأس بذلك.’
ما يهم الآن هو كسب تأييد العامة، لا نيل رضا غيلين أو زافيير.
‘رغم ذلك، كسبُ ودّ الآنسة غيلين سيكون مفيدًا.’
لكن، ما نوع النساء اللاتي تُعجب بهن الآنسة غيلين يا ترى؟
وبينما كانت إيف تفكر في ذلك، بدأ النبلاء يشاركونها في لعبتها، وانهالوا بالنقد على القديسة.
“لطالما شعرت بعدم الارتياح لظهور قديسة من العدم فجأة، ثم تحاول إذلال نبلاء الإمبراطورية.”
أغلب من تحدثوا كانوا نبلاء يضمرون عداءً تجاه المملكة المُقدسة.
رغم أن المملكة المقدسة تدّعي أنها تحارب الشياطين باسم العدالة، إلا أن كثيرًا من نبلاء الإمبراطورية لم يكن لديهم أي ودّ تجاهها.
وكان هذا النفور أكثر وضوحًا بين النبلاء العسكريين، الذين اعتادوا الدفاع عن حدود الإمبراطورية على مدار أجيال. فهؤلاء لم يستسيغوا دعم الأسرة الإمبراطورية الأعمى للمملكة المقدسة، متجاهلين جهودهم وتضحياتهم
رغم ادعاء الإمبراطورية الحياد والنزاهة، فإنها كانت تفضل دعم أولئك الذين يقاتلون الشياطين من الخارج (المملكة المُقدسة)، بدلًا من دعم النبلاء الذين يواجهون البرابرة في الخفاء. وهذا أمر كان يعلمه الجميع.
وتفاقم هذا التوجه أكثر منذ حادثة استدعاء الشياطين قبل مئة عام، والتي كادت تؤدي بالإمبراطورية إلى الهلاك.
كان النبلاء العسكريون مقتنعين بأن هذا الدعم المفرط سيعود يومًا ما على الإمبراطورية كسهام مسمومة.
وكان ظهور القديسة الجديدة بمثابة صدمة لهؤلاء النبلاء، الذين كانوا يتحسبون من تنامي نفوذ المملكة المُقدسة.
عارضوا بشدة إقامة حفل الظهور الرسمي للقديسة في قلب العاصمة، لكن الإمبراطور بنفسه وجه الدعوة، فتم تجاهل معارضتهم تمامًا.
لكن بفضل الآنسة إستيلّا، وجد هؤلاء النبلاء الآن ذريعة علنية لانتقاد القديسة.
فاستغلوا الفرصة دون تردد، وأخذوا يوجهون النقد لها.
‘بهذا، أكون قد التحمت بجسد واحد مع هؤلاء النبلاء العسكريين.’
حتى وإن ادّعت يوري أنها ساحرة، فهؤلاء النبلاء سيدافعون بكل قوة عني ويكذبونها.
وهذا هو السبب الحقيقي وراء حضور إيف هذا الحفل.
‘والآن، بات انفصالي عن باليريان مبررًا أمام الجميع.’
كانت إيف تقوم بدور المزعِجة والمربِكة للقديسة بذكاء وفعالية، تعيقها وتُسبب لها المشاكل باستمرار.
‘لم أطلب منها الاعتذار، لأني كنت سأفعل مثلها لو كنت مكانها.’
في البداية، لو لم تمسسها يوري، لما حدث شيء. لكن بما أن ما حدث قد حدث، كان لا بد لإيف أن تبحث عن وسيلة للنجاة.
يبدو أن أوفيليا غيلين أدركت ما كانت تفعله، فقد بدت نظراتها لها غريبة، وربما حملت ابتسامة خفية.
لكن فجأة، ساد الصمت القاعة كأن ماءً باردًا قد صُبّ فيها. رفعت إيف حاجبها مستغربة.
‘ما الذي يحدث؟‘
عادة، عندما يصمت المكان فجأة هكذا، تكون كارثة وشيكة.
لاحظت إيف أن أنظار النبلاء تجمعت في جهة واحدة، فتتبعت نظراتهم.
“… باليريان.”
همست باسمه بدهشة حين رأته.
تحت الأضواء، انعكست أشعة الضوء على خصلات شعره الذهبي، ولكن عينيه الزرقاوين المظللتين بنظرة قاتمة كانت موجهة إليها.
رغم وسامته المتألقة التي لم تتغير، بدا أنه قد أنهكه شيء ما، فكان أكثر نحولًا من آخر مرة رأته فيها.
بدأ النبلاء يتهامسون حول حالته:
“ما الذي حلّ بالدوق الصغير؟ يبدو وجهه شاحبًا.”
“بالفعل… يبدو أنه ليس في مزاج جيد.”
“ربما تأثر نفسيًا بما حدث مع القديسة.”
وسأل أحدهم:
“لكنه نادرًا ما يحضر مثل هذه المناسبات، فما الذي جاء به إلى هنا؟“
وكان هذا السؤال تحديدًا ما جال في ذهن إيف.
لم يكن ظهوره متوقعًا، ولا في الوقت المناسب. فهي الآن تبذل جهدًا كبيرًا لتوجيه الرأي العام لصالحها.
‘إن نطق بكلمة واحدة في غير محلها الآن…’
كل ما بنته قد ينهار دفعة واحدة.
وإذا كان هذا كل ما سيحدث، فهو لا يزال مقبولًا. الأسوأ أن تنقلب الموازين كأمواج عاتية وتُغرقها تمامًا، دون فرصة للنجاة.
‘خصوصًا أنني قلت الكثير من السوء عن يوري أمامهم.’
إن سمع باليريان ما قيل، فكيف سيتصرف؟ الجواب كان واضحًا.
‘سيلومني، بلا شك.’
كلما اقترب منها، ازداد توتر إيف وتصلب جسدها.
بدا جليًا أنه جاء خصيصًا للقائها.
الموقف كان يزداد سوءًا. فحين تذكرت ما دار بينهما في لقائهما الأخير، راودها شعور أنها لا تريد إلا الفرار من هذا المكان.
‘لا يكون جاء ليُعدمَني علنًا؟!’
آهٍ يا إيف إستيلّا…
حياتكِ قصيرة، لكنها لم تخلُ من الدراما…
تذكّرت إيف وصيتها التي خبّأتها داخل درج مكتبها، وأغمضت عينيها بشدّة. لكنها حين فتحت عينيها، وجدت باليريان واقفًا أمامها دون أن يحرك ساكنًا.
كان يكتفي بالنظر إليها بهدوء، بعينين تترقّبان بصمت.
قالت بتردّد، وهي تفتح عينيها قليلاً محاولة كسر التوتر، مع نظرة سريعة إلى من حولها:
“ما الأمر؟…”
لكن باليريان لم يرد، واكتفى بأن أمسك بذراعها.
قال بصوت منخفض:
“إيف، تعالي لنتحدث على انفراد.”
تردّدت قليلاً، ثم قالت:
“حـ… حسنًا، فقط دع يدي أولاً وتكلّم.”
تدخّل زافيير عندها، معترضًا:
“باليريان، ليس من اللائق أن تجرّ آنسة قسرًا بهذه الطريقة.”
نظر باليريان إليه نظرة طويلة، ثم ابتسم بسخرية. كانت ابتسامة لا تحمل أي ودّ، حتى لمن يراها عابرًا.
قالت إيف في داخلها، وقد شحبت:
‘أوه لا، سيشتعل شجار بينهم!’
كانت آخر ما تريده أن تكون وسط معركة كهذه، فأرسلت نظرة مستغيثة إلى زافيير:
‘أرجوك، لا تُعقّد الأمور أكثر!’
فهم زافيير الإشارة، وأومأ بصمت.
قال بهدوء مخاطبًا الحضور:
“في هذا الوضع، ومع أنظار الناس من حولنا، من الصعب على آنسة مثلها أن تعبّر عن رأيها بحرية. آنسة إستيلا، إذا كنتِ لا ترغبين، قوليها بصراحة. لا بأس في الرفض.”
في تلك اللحظة، بدا وكأن شيئًا انكسر.
نظرت إيف إلى باليريان، فرأت عروق رقبته منتفخة، كأنما يصارع غضبًا داخليًا.
لم تكن تعرف إن كان الصوت الذي سمعته هو أنفاسه الثقيلة، أم مجرد خيالاتها المتوترة.
هزّت رأسها سريعًا، وقالت:
“لـ… لا، ليس الأمر كذلك.”
لكن زافيير واصل بإصرار:
“رأيت نظرتكِ قبل قليل، كنتِ تطلبين النجدة. لا بأس أن تعبّري عن الحقيقة. حتى لو كنتِ ترفضين، يكفي أن تقوليها بشجاعة.”
انفجر باليريان بنظرة حادة، وصاح:
“كفى هراءً، يا زافيير.”
ضاقت عينا زافيير، لكنه لم يتحرك.
قال باليريان بصوت بارد:
“رأيتك تُطلق كلماتك الوقحة هذه، ومع ذلك تظن أنني سأترك إيف بين يديك؟“
ثم أضاف، وهو يحدّق فيه:
“اطمئن، لن أؤذي إيف، على عكسك.”
هل هذا يعني أنه لن يتردد في إيذاء زافيير إن استدعى الأمر؟
بدأت الأمور تفلت من السيطرة. شعرت إيف بالدوار، وهي تراقب هذا التوتر المتصاعد.
‘ما الذي يحدث لهم؟!’
أمسكت بذراع باليريان فجأة، وسحبته معها خارج القاعة.
سمعت زافيير يناديها بقلق:
“آنسة!”
لكنها تجاهلت نداءه، فقد رأت أن بقاء باليريان في الحفل لن يجلب سوى المصائب.
“ما الذي أصاب زافيير؟! لم يكن يتدخّل بهذا الشكل من قبل…”
لقد سكب الزيت على النار، رغم أنه لم يكن من طبيعته التدخل.
حين وصلت معه إلى حديقة قصر الماركيزة كاثرين، وأدركت أنه لا أحد يراهما، رفعت رأسها ونظرت إليه.
“ماذا حدث؟ لماذا أتيت؟“
كان الحفل قد امتد حتى وقتٍ متأخر، والحديقة كانت مظلمة، لا يكشف تفاصيل الوجوه سوى مصباح صغير.
لكنه لم يرد.
‘ما به؟‘
استدعاها بنفسه ليقول شيئًا، والآن يقف صامتًا. هذا الصمت كان أكثر توترًا من أي كلام.
أعادت في ذهنها آخر لقاء بينهما… حينها سألها إن كانت إنسانة بالفعل. لا بد أن لديه سببًا قويًا حينها، ولا يبدو أن شكوكه كانت فارغة.
‘هل يعني هذا… أنه سيقتلني هنا؟‘
شحب وجهها.
فعلها مع الشيطان المقنّع بأرون دون تردّد، فهل جاء بها إلى هنا ليُنهي الأمر بعيدًا عن الأنظار؟
استعادت صورة السيف المقدّس يخترق صدر ذلك الشيطان، مشعًا بضوء يُشبه المعجزة… مشهد لم يكن دمويًا بل أشبه بالرؤية السماوية.
‘ربما نَجَوت من الإعدام العلني لأنني لست شيطانة بل مجرد ساحرة؟‘
لكنه لا يقول شيئًا… وأفكارها تتراكض في رأسها بلا توقّف.
رغم كل شيء، كان هناك بصيص أمل صغير:
أنه ربما، فقط ربما، لا يعرف حقيقتها بعد.
لكن حين التقت بعينيه، ورأت ذلك الألم فيهما، أدركت أن ذلك الأمل قد تحطّم.
‘إذًا، يعرف.’
حين التقت إيف بنظرته المتألمة، شعرت وكأن بصيص الأمل الصغير الذي تشبثت به قد تحطّم دفعة واحدة، كما لو أنها سمعت صوت انكساره داخلهـا.
‘إذًا، هو يعلم كل شيء بالفعل…’
نظراته المترددة، وصمته المتألم، لم يتركا مجالاً للشك. لقد كشف حقيقتها.
ورغم ذلك، تساءلت في نفسها ساخرة:
هل عليّ أن أكون ممتنّة لأنه لم يقتلني فورًا، احترامًا لكوني خطيبته السابقة؟
‘لم يَفُت الأوان بعد؟‘
هل يقصد أن أُسلِّم نفسي للكنيسة وأخضع للمحاكمة المقدسة؟
ضحكت بسخرية وقالت:
“تقول إن الوقت لم يَفُت؟ لا، لقد فات الأوان.”
“إيف…”
قاطعته بمرارة:
“ألا يملك إيلا الحق في تنفيذ الإعدام الفوري؟ يمكنك أن تنهي الأمر هنا.”
كأنها تستسلم لمصيرها.
في الإمبراطورية، السحرة والشياطين لا يُعامَلون كبشر، بل ككائنات يجب إبادتها.
وهي، بإلقاء هذه الكلمات، شعرت وكأنها تسقط أعمق فأعمق في الهاوية. لا أمل، ولا نجاة.
بدأ الخوف يتسلّل إليها… على عائلتها، وعلى مصيرهم إن ماتت.
‘هل أطلب منه أن يتركني حيّة؟‘
لكنها سرعان ما طردت هذه الفكرة.
فهي لم تقترف ذنبًا كالشيطان، فقط وُلدت بسحر في عالم لا يتسامح مع السحرة.
‘لو متّ، سيلحقوننط أهلي إلى الموت.’
كانت تعرف جيدًا أنهم سيفعلون ذلك، حتى إن توسّلت إليهم ألا يفعلوا. صورتهم وهم يُصرّون على القفز معها نحو الهاوية كانت واضحة في ذهنها.
تنهدت بعمق.
‘لقد فات الأوان فعلاً.’
لا يمكن إعادة الزمن، ولا جمع الماء المسكوب. أغمضت عينيها، مستعدة لسماع الحكم.
عندها فقط، رأته ينظر إليها بعينين زرقاوين تموّجتا كالبحر.
ثم قال، بصوت يحمل كل التردد وكل القرار:
“اهربي معي يا إيف، فلنغادر معًا.”
______
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 64"