بمجرد أن خرجت أرييل من المكتب، رمقها باليريان بنظرة حادة، ثم حدّق مباشرة في والده.
كانت هذه المواجهة امتدادًا لما حدث قبل زيارة أرييل.
رغم أن صوت تنهد خافت سُمع من مكان ما، فإن الأب وابنه لم يبديا أي اهتمام.
قال باليريان، بنبرة حاسمة:
“لماذا منعتها؟ أريد أن أعرف السبب الحقيقي، من فضلك.”
ألقى الدوق نظرة نحو راين بيدرو.
كانت إشارة واضحة:
“اخرج.”
وبأمر الطرد ذاك، انفرجت أسارير راين بيدرو، الذي كان وجهه قد شحب منذ البداية.
لقد نجا أخيرًا من معركة بين عمالقة قد يسحق فيها كحشرة.
وكأنه كاد يهتف “يحيا!”، لكنه كتم فرحته وغادر المكتب بسرعة.
عبس الدوق لبرهة، ودلّك ما بين حاجبيه، قبل أن يُطلق تنهيدة طويلة، وهو يتأمل كلمات باليريان بعناية.
“…السبب الحقيقي.”
وردت الكلمة على لسانه، بصوت منخفض كمن يعيدها في رأسه.
عندها، ازدادت قناعة باليريان.
لا بد أن هناك شيئًا يخفيه…
لم يسبق لوالده أن تردد إلى هذا الحد في قول الحقيقة.
لذا، لم ينتظر أكثر.
“أرجوك، أخبرني.”
ربما يكون لهذا علاقة بما كانت إيف تخفيه عنه طوال هذا الوقت.
فمجرد تلك الفكرة جعلت قلبه ينقبض أكثر من أي وقت مضى.
كان بحاجة ماسة إلى معرفة الحقيقة، وإلى تبديد هذه الحيرة الخانقة.
كان يشعر وكأن هناك سرًا عظيمًا مخفيًّا في قلبها.
تطلع إليه الدوق بنظرات أكثر جدية من أي وقت مضى، وقال:
“هل أنت مستعد لتحمّل الحقيقة؟“
“…نعم.”
تردد ياليريان للحظة، لكنه أجاب بعدها بثقة.
مرّت نظرة باردة من والده عليه قبل أن يتابع:
“وهل أنت مستعد ألا تندم بعدها؟“
“لن أندم.”
أجاب من دون أي تردد.
حينها، زفر الدوق زفيرًا خافتًا، وبدأ بالكلام:
“إيف إستيلّا… ليست إنسانة عادية.”
تجمدت ملامح باليريان على الفور.
“…وإن لم تكن إنسانة عادية، فذلك يعني—”
لم تكن إنسانة عادية، أي أنها ليست من جنس البشر.
كائن من عرق آخر.
جميع الأجناس غير البشرية، باستثناء البشر، قد انقرضت أو غادرت عالم البشر بعدما دمرتها الشياطين التي تسللت بينهم.
حتى السحرة، أُبيدوا قبل مئة عام.
فلم يتبقَّ سوى الكائنات السحرية… أو الشياطين.
ومن بين هؤلاء، وحدها الشياطين كانت قادرة على التخفي بهيئة بشرية.
“لا تقل لي أنها…”
“هذا كل ما يمكنني قوله.”
“هل لديك دليل؟“
نظر باليريان إلى والده بريبة واضحة، فسارع الدوق بالإجابة وكأنه كان يتوقع هذا السؤال:
“في حفلة ميلاد الإمبراطور، أطلقت دون وعي طاقة إيلا، أليس كذلك؟“
شعر باليريان بالارتباك. لم يفهم ما علاقة ذلك بالموضوع.
في الحقيقة، لم يكن يتذكر ما حدث بدقة في تلك اللحظة.
ففي اللحظة التي رأى فيها إيف تُقبّل زافيير، فقد صوابه تمامًا.
كل ما فكر به وقتها هو قتل زافيير، لا أكثر.
لكن على عكسه، كان الدوق يراقب الموقف ببرود تام، وعاد الآن يسترجع تلك اللحظات، معقدًا حاجبيه:
“الجميع تأثر بتلك الطاقة وقتها، إلا شخصًا واحدًا… لم يتغيّر فيه شيء.”
“…وتقصد أن ذلك الشخص كان إيف؟“
ارتجفت شفتا باليريان. في أعماقه، كان يعلم ذلك.
كان يعرف أنها ليست فتاة عادية.
عندما اختُطفت إلى غابة الوحوش…
ورأى بأم عينه آثار الدمار، ظن أنها ماتت.
لكنها عادت ووقفت أمامه… كما لو أنها شمس لا تغرب.
“إنه أداة سحرية. استطعت الهرب من الشيطان بصعوبة بفضلها.”
لكن كلما تذكر الأمر، بدا له غريبًا أن مجرد أداة سحرية تمكّن شخصًا من الإفلات من شيطان رفيع المستوى.
غير أنه في ذلك الحين كان مهووسًا بفكرة أنها ما زالت حية، فلم يحاول التحقق أكثر. أقنع نفسه أن قدرتها الجسدية المتفوقة على الناس العاديين هي التي ساعدتها على الهرب، وترك الأمر عند هذا الحد.
لكن في الأيام الأخيرة، وتحديدًا في حفل التنكّر، أحسّ بطاقة سحرية غريبة صادرة عن الشيطان.
وسبق له أن أحس بالطاقة ذاتها مرة أخرى من قب في غابة الوحوش.
كان يظن أن الشيطان أظهر هيئته الحقيقية من تلقاء نفسه، لكن اتضح أن ذلك لم يكن باختياره، بل بفعل مؤثر خارجي.
“… يبدو أنك بدأت تَشُكّ في شيء ما، أليس كذلك؟“
تمتم الدوق وهو يراقب تعابير وجه باليريان.
كان مشهد إيف وهي لا تتأثر بقوة إيلا قد أثار في ذهنه احتمالًا:
ربما لا يزال هناك نسل من السحرة على قيد الحياة في هذا العالم.
وكانت هذه المعلومة من أسرار عائلة لودفيغ التي لا يعلم بها سواهم.
من كان ليظن أن نسل السحرة ما زالوا موجودين؟
ذلك الاحتمال بدا أكثر واقعية عندما غادرت إيف إستيلّا فورًا إلى قرية نادين بعد انتهاء مراسم البلوغ.
ومع ذلك، لم يُقدِم الدوق على تسليمها للمحكمة المقدسة.
لم يكن من المنطق معاقبة فتاة لم ترتكب أي ذنب.
لا بد أنها اكتشفت حقيقتها في مراسم البلوغ.
وحين رأى إيف تحاول جاهدًة فسخ خطبتها، خوفًا من انكشاف حقيقتها، تذكّر أن زوجته الراحلة ميلين كانت لتحثه على الرحمة لو كانت هنا.
حتى هو، الذي شهد نشأتها منذ الصغر، لم يكن قادرًا على إنزال العقوبة بها بنفسه.
في تلك اللحظة، كان باليريان قد خرج مسرعًا من المكتب، واندفع مباشرة نحو الإسطبل.
ركب حصانه الحربي، وتوجّه بسرعة إلى غابة الوحوش.
في الليلة الماضية، أخبر ولي العهد إيف بأخبار عن مكان آرون.
لم يُعثر عليه في قرية نادين، لكنهم وجدوا هيكلًا عظميًّا على الجبل يُرجّح أنه لرجل في العشرينيات من عمره.
الملابس المحيطة بالموقع أكّدت عائلة روما أنها تعود لآرون. وعندما سمعت إيف هذا الخبر، ظلت ملامحها حزينة طوال الوقت.
‘آرون…’
رغم أنها لم تعرفه إلا لشهرين فقط، إلا أنه كان شابًا طيبًا وبسيطًا. فكرة موته بتلك الطريقة البائسة كانت مؤلمة للغاية.
‘لو أنني لم أذهب إلى قرية نادين…’
ربما لما مات. وكان هذا الشعور بالذنب ينهشها من الداخل.
ومنذ تلك الليلة، لم تستطع النوم، وظلت مستيقظة حتى الصباح، جالسة في مكتبة القصر.
لكنها لم تكن المكتبة العامة، بل الغرفة السرية التي تحتوي على الكتب المحظورة.
بعد أن أعادت الكتاب السحري الذي انتهت من قراءته، أمسكت بآخر وجلسَت تقرأ.
لا سبيل للنجاة إلا بالقوة… علي أن أزداد قوة قبل أن يُؤذيني أحد.
عادةً ما كانت تغرق في الكتب بسرعة، لكن هذه المرة لم تستطع التركيز أبدًا، فتنهدت تنهيدة ثقيلة.
‘لا أصدق أن آرون مات…’
ما زالت في حالة صدمة يصعب الخروج منها. ومع ذلك، تمسكت بالكتاب بعناد، مدفوعة برغبتها في حماية نفسها ومن تحب.
لكنّ خادمتها الخاصة روز جاءت بخبر عاجل أجبرها على إغلاق الكتاب.
“باليريان هنا ويطلب مقابلتك.”
في هذه الساعة المتأخرة؟ أيعقل أنه أتى الآن؟
نظرت إلى الساعة، وكان الجميع تقريبًا قد خلد للنوم. عادةً ما كان باليريان يرسل من يخبرها قبل زيارته، لكن…
في الآونة الأخيرة، لم يُرسل أحدًا مسبقًا.
باتت زياراته المفاجئة تتكرر. حاولت أن تخمّن سبب زيارته هذه المرة… لكنها سرعان ما تخلّت عن التخمين.
لا بد أن الأمر يتعلق بـ يوري.
بعد الحادثة الأخيرة، انتشرت شائعات سيئة عنها حتى بات من المستحيل عليها الظهور في المجتمع مجددًا.
من المؤكد أن باليريان، الذي كان إلى جانبها، تألم لرؤيتها بهذا الوضع.
ربما جاء الآن ليطلب منها التدخل وتهدئة تلك الشائعات.
بمجرد أن فكرت بذلك، شعرت بالضيق والانزعاج.
ولِمَ يطلب مني ذلك؟
ليست هي من تخصّها المسألة، بل يوري المعنيّة بالأمر، أو باليريان الذي يحرسها.
“حقًا، فارس مخلص حتى النهاية.”
“ماذا قلتِ؟“
توقفت إيف فجأة، وقد ارتبكت عندما سمعت صوته المألوف.
كان باليريان قد وصل إلى جانبها دون أن تشعر.
“متى وصلت إلى هنا؟“
“منذ قليل.”
“على الأقل أصدر صوتًا حين تقترب…”
تمتمت بتوتر، محرجة من نفسها.
هل… هل سمعني وأنا أتهكم عليه؟
“فارس مخلص” — في ظاهرها جملة بريئة، لكنها قالتها بنبرة ساخرة، وكان من السهل فهم معناها الحقيقي.
يبدو أنه… سمعني.
بدت ملامح وجهه وقد تصلبت تمامًا، كأنما تحجّر. كانت تلك الصرامة في ملامحه مفاجئة لها، ولم تستطع منع نفسها من التحديق فيه.
“هل هناك… شيء ما؟“
سألتها بوجه متماسك، بينما ظلّ هو ينظر إليها بصمت.
وجهه شاحب…
ربما لم ينم الليلة، فقد كانت الهالات السوداء واضحة تحت عينيه.
والمشكلة أنه بدا وسيمًا حتى بهذا الشكل.
مع تلك الظلال التي طغت على وجهه المضيء كالشمس، كان يفيض بهالة غامضة وكأن فيه جاذبية مدمّرة.
لكن مهما يكن، لا بد أن الأمر متعلق بـ يوري.
ثم راودها إحساس غريب. كانت قد توهمت للحظة، بسبب موقفه السابق، أنه ما زال يحمل لها بعض المشاعر.
باليريان لم يفعل شيئًا سوى واجبه كعضو في عائلة إيلا…
خدعت نفسها، أو بالأحرى، بالغت في تفسير موقفه.
لم تحتمل الصمت أكثر، فبادرت بالكلام:
“إن كان هناك شيء، فقل ما جئت من أجله مباشرة.”
لم يكن هناك داعٍ لأخذه إلى غرفة الضيوف. فطالما الأمر يخص يوري، ستتخلص منه سريعًا وترسله في طريقه.
“……”
لكن نظرات باليريان ثبتت على عينيها.
كانت تحمل مشاعر ثقيلة وعميقة، مما جعل إيف ترتجف للحظة.
شعرت بأن هناك أمرًا غير طبيعي.
فشعرت فجأة بنبضات قلبها تتسارع.
ثم، ابتسم ابتسامة قصيرة، لكنها كانت ابتسامة مريرة، وكأنها تفيض بالأسى.
عندها، فهمت إيف أن أمرًا جللًا قد وقع.
“… هل ما ستقوله سيأخذ وقتًا؟“
“قليلًا.”
“إذًا من الأفضل أن ننتقل لغرفة الضيوف.”
عندما أومأ بالموافقة، تنهدت باستسلام، وتبعته.
وفي الطريق، ازداد الظلام في وجهه حتى بدا كمن يسير نحو حتفه.
حتى المحكوم بالإعدام لا تبدو عليه هذه الكآبة…
كان الجو حوله ثقيلًا، كأن العاصفة على وشك أن تندلع.
راقبته إيف من طرف عينها، ثم بلعت ريقها بصعوبة.
دخل الاثنان إلى غرفة الضيوف، وقدّمت روز لهما الشاي بهدوء، ثم انسحبت.
“ما الأمر؟ إن كان لديك ما تقوله، فقل دون مماطلة.”
قالت إيف بنبرة لا تخلو من ضيق. لم تكن في مزاج يسمح لها بتبادل الأحاديث الودية.
رغم ما حدث بينهما من توتر، إلا أنها لم تره يومًا بهذا المزاج الكئيب.
“حقًا… ما الذي يجري معك؟“
نظرت إليه بقلق حقيقي، ليجيبها أخيرًا بعد طول صمت:
“إيف.”
“نـ–نعم…؟“
“رجاءً، كوني صادقة معي.”
كان صوته مختنقًا، كأن شيئًا ثقيلًا يسكنه. فوجئت بتلك النبرة، فتجمد وجهها.
تحركت شفتاه ببطء، بصوت منخفض، وجسده يرتجف خفيفًا:
“… الشخص الذي أمامي الآن، أنتِ… هل أنتِ حقًا بشرية؟“
ارتجف قلب إيف وسقط إلى أعماقها دفعة واحدة.
_______
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 61"