تم تأجيل حفل التنكّر الذي كان من المقرر أن يُختتم به مهرجان الصيف، إلى أجل غير مسمّى.
فقد تسبب ظهور مفاجئ لأحد الشياطين في العاصمة بحدوث صدمة كبيرة في جميع أرجاء الإمبراطورية.
بل إنّ الخبر لم يكن عن شيطان عادي، بل عن شيطان رفيع المستوى تمكّن من التسلل إلى قلب العاصمة نفسها، ما أحدث بلبلة كبرى بين الناس.
راحت إيف تتابع مجريات الأحداث وهي تبتسم بمرارة.
‘هل يجب أن أقول إن من حسن الحظ أننا تجاوزنا الأزمة؟ أم…؟‘
في تلك الأثناء، كانت الشائعات التي تطعن في صدق القديسة تنتشر كالنار في الهشيم داخل المجتمع الأرستقراطي، بل وصل الأمر إلى حد التشكيك في كونها قديسة حقيقية، خاصة بعد أن فشلت في تمييز الشيطان من بين الناس.
منذ ذلك الحين، لم ترسل إيف أي رسالة إلى يوري.
‘اتهامي بأني أداةٌ للشيطان ليس شيئًا بسيطًا يمكن تجاوزه.’
كان الأمر على المحك، وقد يؤدي إلى هلاكها. والأسوأ أن يوري، التي كانت تعلم بحقيقة أنها ساحرة، اختارت أن تترك الشائعات تنتشر دون أن تحرّك ساكنة. مما يعني أن كل شيء بينهما قد انتهى فعلاً.
“وماذا عن الدعوات؟“
سألت إيف كبير الخدم، الذي بدأ يفرز كومة من الدعوات المرتفعة أمامه واحدة تلو الأخرى.
وبعد أن أُلغيت الحفلة التنكرية إلى أجل غير مسمّى، شرع النبلاء في إقامة حفلات صغيرة هنا وهناك، سعيًا منهم للإبقاء على أجواء مهرجان الصيف مشتعلة.
وكما توقعت إيف، انهالت على قصر عائلة الكونت إستيلا دعوات لا تُحصى لحضور هذه الحفلات.
فالجميع كانوا يتطلعون لدعوتها، باعتبارها البطلة في تلك الحادثة الأخيرة.
فمجرد حضورها يضمن جذب الأنظار.
وحين يلفت الحفل الأنظار، فهذا يعني المزيد من النفوذ لصاحبه داخل المجتمع الأرستقراطي.
قال كبير الخدم وهو يعدد الدعوات:
“لدينا دعوات من الفيكونت أستري، والكونت لويس، وكذلك من الماركيزة كاثرين.”
“مهلاً… حفل عائلة الماركيزة كاثرين هو الأنسب.”
لم تكن إيف من النوع الذي يستمتع بالاختلاط أو حضور الحفلات، لكن هذه المرة كانت مختلفة.
فقد سارعت إلى كتابة رسالة تؤكد فيها حضورها حفل الماركيزة كاثرين، وسلّمتها لكبير الخدم.
“أرسلها إلى قصر كاثرين.”
“كما تأمرين، سيدتي.”
في العادة، لا يُرسل تأكيد رسمي بالحضور ما لم يكن هناك أمر خاص، وكانت إيف تعلم ذلك جيدًا، لكنها أرسلت الرسالة على كل حال.
‘لأنهم لا بد أن يعلموا أنني سأحضر، ليحظى حفلهم باهتمام أكبر.’
هذه المرة، كانت بحاجة إلى حفلة يحضرها الكثير من الناس، خصوصًا أصحاب النفوذ داخل العاصمة.
* * *
في اليوم التالي.
دخل باليريان بسرعة إلى مكتب الدوق لودفيغ في قصر العائلة.
“لماذا تصرّفت هكذا؟“
فقد وصل إلى علمه أن إيف كانت قد جاءت إلى القصر قبل يومين، لكن والده لم يسمح لها بالدخول.
وبما أن هذا الخبر تم التكتّم عليه بشدة، فقد وصله متأخرًا.
تقلّصت ملامح باليريان بحدة، فنظر إليه والده الدوق بهدوء وقال:
“ما بينكما قد انتهى. والتمسك بما انتهى لا طائل منه.”
“وهل الحنين إلى أمٍّ راحلة يُعتبر عبثًا أيضًا؟“
ما إن أنهى كلامه، حتى اشتعلت عينا الدوق بلون أزرق بارد متقد كاللهب.
“هل تجرؤ على إهانة والدتك؟“
“بل أنا فقط أعيد لك كلماتك.”
قال باليريان ببرود. أما راين بيدرو مساعد الدوق، فوقف حائرًا بين الأب وابنه، لا يدري ما يفعل.
‘لم أتوقّع أن يتصرّف السيّد الشاب هكذا!’
كان من المألوف رؤية الدوق يتصرّف بجفاء، لكن أن يُظهر باليريان الذي يُلقّب بشمس هذا القصر قسوة مماثلة، فذلك ما لم يتصوّره أحد.
أحس بخيبة أمل وكأن معتقدًا راسخًا لديه قد تهاوى.
لطالما ظن أن السيّد الشاب يشبه والدته الراحلة، طيب القلب ودافئ الروح…
لكن كما يقولون: «الدم لا يُكذب.»
هذا ما شعر به تمامًا. وقد تجمّدت ملامحه من وقع الصدمة.
“في هذه الحالة، ربما من الأفضل سؤال طرفٍ ثالث.”
“فكرة راقت لي أيضًا.”
وما إن التقت نظرات الأب والابن بـ راين بيدرو، حتى تمنّى لو تنشق الأرض وتبتلعه.
“برأيك، من المخطئ؟“
سأله الدوق مباشرة. فتقاطع راين ذراعيه أمام صدره وكأنه يحمي نفسه وقال:
“أفضّل التزام الصمت.”
“في مثل هذا الوقت الحرج؟ أهذا نوع جديد من المزاح؟“
“كفّ عن هذا الهراء.”
توجّهت أعينهم الزرقاء الحادة إليه كما لو كانت تخترقه.
“……!”
تدفّق العرق البارد من جبين راين حتى تبللت ثيابه، ومع ذلك لم يجرؤ على مسحه، بل بقي متجمّدًا في مكانه كتمثال.
وفي تلك اللحظة، أنقذه طارق الباب كمن جاءه المخلّص.
“ادخل.”
قال الدوق بصوت هادئ. فدخلت الزائرة، وما إن رآها حتى رفع حاجبه بارتياح.
“يا لها من مفاجأة… رئيسة الكهنة أرييل! مضى وقت طويل.”
وكأنه كان يتوقع قدومها.
ضاقت عينا باليريان بحدة. ما
الذي تفعله أرييل هنا؟
“أوه، مضى وقت طويل يا دوق. آه، وها هو باليريان هنا أيضًا.”
قالت مبتسمة وهي تتوجه بنظرها نحوه.
“سمعت أنك قتلت شيطانًا رفيعًا بضربة واحدة. مذهل بحق.”
“يا رئيسة الكهنة، نحن لسنا في المملكة المُقدسة الآن.”
قال باليريان ببرود. ليُشير ضمناً إلى أن العلاقة بينهما الآن ليست علاقة رئيسة الكهنة وفارس، بل قسيسة ووريث الدوق.
بل وكان يعاتبها على نبرتها التي بدت وكأنها تُقيّم أحد مرؤوسيها من الأعلى.
“……أعتذر إن أزعجك كلامي.”
ارتجفت ابتسامتها للحظة، لكنها سرعان ما تمالكت نفسها ببراعة، وخفّضت عينيها معتذرة وكأنها نادمة بحق.
ثم رمقت باليريان بطرف عينها.
كان من المفترض في مثل هذا الموقف أن يبتسم بود ويقول: “لا بأس“، لكن لم يظهر عليه أي ميل لفعل ذلك.
“……؟“
كان باليريان يحدّق في أرييل بنظرة باردة لا تختلف عن تلك التي رمقها به والده الدوق.
وما إن التقت نظراتهما، حتى ارتسمت على وجهه ابتسامة هادئة أقرب إلى الرسم، وقال:
“من الأفضل لكِ أن تكوني حذرة من الآن فصاعدًا.”
“أ–أجل… بالطبع…”
أُربكت أرييل من الموقف، ولم تفهم تمامًا ما الذي يجري. لم يكن هذا التصرف المعتاد من باليريان.
‘لا يكون… هل يظن أن المملكة المُقدسة متورطة فيما فعلته يوري؟‘
كانت حادثة الشيطان التي ارتبطت باسم القديسة قد وصلت بسرعة إلى المملكة المُقدسة.
وفور أن أدركت أرييل خطورة الوضع، هرعت إلى العاصمة الإمبراطورية.
وهناك، واجهت القديسة وسألتها بصراحة:
“هل حقًا لم يكن لكِ يد في انتشار تلك الشائعات؟“
فأجابت يوري بإصرار:
“أبدًا! لم أفعل شيئًا!”
“أرجوكِ، قولي لي الحقيقة على الأقل. حتى أتمكن من إيجاد مخرج لهذه الأزمة.”
ترددت يوري، ثم نطقت بصوت خافت:
“بصراحة… ربما قلت ذات مرة أنني أشعر بالصداع أو بطاقة غريبة كلما اقتربت من إيف إستيلّا… لكن أليس هذا وحده غير كافٍ لاعتباره تأييدًا لتلك الشائعات؟“
عندها، فرحت أرييل في سرّها أنها تمالكت نفسها ولم تشتمها في تلك اللحظة.
‘يا لغبائها… لا تفكّر بعواقب ما تقول إطلاقًا.’
لكن رغم ذلك، كانت يوري تتنفس بغضب وكأنها هي المظلومة، وهو ما أثار استياء أرييل.
لم تستطع إخفاء خيبة أملها، وتمتمت في داخلها:
‘كان من الخطأ إرسال القديسة إلى العاصمة.’
لقد أرسلوها إلى هناك لتكون رمزًا للعلاقة المتينة بين المملكة المُقدسة والإمبراطورية، لكن تصرفها الطائش قلب الأمر رأسًا على عقب.
‘وفي النهاية، تسببت في كارثة لا لزوم لها.’
لكن ما حيّر أرييل أكثر هو ردّة فعل باليريان.
‘رد فعله غريب… لماذا يبدو منزعجًا إلى هذا الحد من كل ما حدث بين القديسة وإيف إستيلّا؟‘
ما علاقته هو بهذا كله؟ ما أهمية أن تتعرض خطيبته السابقة لسوء الفهم؟
إنها لم تكن سوى امرأة خانته، وتحوّلت في أعين الناس إلى أداة للشيطان… فهل يهمه أمرها حقًا؟
راحت أرييل تفكّر بسرعة، ثم توصلت إلى استنتاج واحد:
‘لا شك أنه ما زال يحمل شيئًا من المشاعر نحو إيف.’
عندها فقط بدأ تصرّفه الغريب يبدو منطقيًا.
حاولت أرييل أن تسيطر على تعابير وجهها، وكتمت انزعاجها.
‘مستحيل ألّا يكون واقعًا في حب القديسة، بل في حب امرأة أخرى؟!’
‘هذا ليس وقت ظهور مثل هذه المشاعر.’
في تلك اللحظة، قال الدوق بصوته الرزين:
“والآن، ما سبب زيارتكِ لنا؟“
بدت علامات التوتر على أرييل، لكنها تمالكت نفسها وأجابت:
“الشائعات التي تدور حول القديسة قد خرجت عن السيطرة… ولهذا جئت أطلب دعم عائلة لودفيغ، بصفتي ممثلة المملكة المُقدسة.”
“دعم؟“
رمقها الدوق بنظرة تدعوها للمتابعة.
“عائلة لودفيغ تملك من المكانة ما يكفي لإخماد هذه الشائعات…”
فقاطعها قائلاً:
“لكن اسمحي لي أن أطرح سؤالًا أولًا.”
“تفضل؟“
نظرت إليه بتساؤل، فأجاب ببطء:
“هل اعتذرتِ لمن كانت محور الشائعات؟“
“تقصد… إيف إستيلّا؟“
“إن لم تكوني تعرفين من أقصد، فلا داعي لمواصلة الحديث. سيكون ذلك مضيعة للوقت.”
ثم التفت إلى باليريان وقال دون مواربة:
“رافقها إلى الخارج.”
فأومأ له الابن، واقترب من أرييل قائلاً بهدوء:
“أرجو منكِ المغادرة الآن، سيدتي القسيسة.”
“باليريان…!”
نظرت إليه أرييل وكأنها تلقت خيانة من شخص كانت تثق به، لكنه لم يظهر أيّ تردد أو تعاطف.
لم يكن أمامها خيار سوى مغادرة المكتب خالية الوفاض.
“ه–هل انتهى اللقاء؟“
سألت يوري التي كانت تنتظر بقلق في الرواق، وما إن رأت تعبير وجه أرييل، حتى احمرّ وجهها جزعًا.
“آه… سيدتي القديسة.”
حاولت أرييل أن تحافظ على ابتسامتها وقالت بصعوبة:
“يبدو أنكِ ستضطرين لتقديم اعتذار إلى إيف إستيلّا.”
“ماذا؟!”
قفزت يوري من مكانها مصدومة.
بمَ ستعتذر؟ وأيّ ذنب اقترفت؟
لاحظت أرييل بوضوح تعبير الظلم الذي ارتسم على وجه يوري، فقالت بنبرة حازمة:
“مهما بلغت كراهيتكِ للآنسة إستيلّا، لا ينبغي لكِ أن تتّهميها بالارتباط بالشيطان. لقد كان ذلك على وشك أن يدمّر سمعتك بالكامل.”
“فهمت… حاضر…”
أجابت يوري بفتور واضح، وشفاهها ترتجف من الغيظ، بينما حدّقت بعينيها اللامعتين المليئتين بالاستياء.
‘هل يُعقل أن أعاقَب بهذا الشكل لمجرد أنني لم أتمكن من تمييز شيطان؟!’
لم تستطع كتمان شعورها بالظلم.
‘أنتم لا تعرفون من تكون إيف إستيلّا أصلًا!’
لو عرفوا حقيقتها، لما عاملوا يوري وكأنها فتاة تثير الفوضى بالشائعات.
——-
المئوية الـ60
7 محرم 1447هـ
3/يوليو/2025
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 60"