“ما هذا…؟“
حدّق الكونت في قطرات الماء المتساقطة على ثيابه بذهول واضح. ربما شعر بتدفق سحرٍ ما، لأنه ما لبث أن وجّه نظراته مباشرة إلى إيف.
وحين تلاقت عيناهما، تمتمت إيف بنبرة توحي بالحيرة:
“يا إلهي، يبدو أن ملابسك بدأت تبتل شيئًا فشيئًا.”
ثم تقدّمت نحوه بمنديل في يدها، لتجفف له ما بلّله الماء.
ومع هذا التحرك، بدأت الأنظار تتجه إليهما. رمقت إيف ثيابه المبتلّة بنظرة فاحصة ضيّقت فيها عينيها.
‘أمسكت بك!’
كما توقعت، السبب في غياب آرون كان لأنه غيّر هيئته، وتنكّر بشخص آخر.
‘كنت واثقة من ذلك.’
فلو كان حقًا شيطانًا، فلا بد أنه انتهز غيابها هي وباليريان، واستغل الفرصة للتحرك.
ما كان ليبتعد في لحظة فارقة تتأزم فيها العلاقة بين القديسة والساحرة. لذا، توقعت أنه لا بد موجود في مكان قريب.
في الأصل، لم تكن غاية إيف من حضور الحفل كشف الفاعل خلف الشائعة.
‘فحتى لو أمسكت به، سيخرج شخص آخر ليلفق لي نفس التهمة.’
فما إن يُوصم أحدهم بأنه عبد للشيطان أو ساحر، حتى يصبح من الصعب محو تلك الوصمة.
لذا، كان الأفضل أن تُجهز على أصل المشكلة منذ بدايتها.
‘لكن أين آرون الحقيقي؟‘
شعرت بالخوف حين تأكدت من صحة ظنونها، لكن لم يكن لديها وقت لتُظهر ذلك.
ابتسمت بهدوء وسألت الكونت:
“هل أنت بخير؟“
ولم يجبها.
الشيطان الذي تنكر في هيئة الكونت باتريك اكتفى بالتحديق فيها بجمود، وكأن المفاجأة أصابته بالجمود.
لكن، حين لاحظ نظرات من حوله، حاول استجماع رباطة جأشه، وابتسم بافتعال وقال:
“أشكرك على اهتمامك. في الواقع، لدي ما أود قوله للآنسة إستيلا، هل يمكنني أخذ بعض الوقت منكِ؟“
نظرت إليه إيف بثبات، وعلى شفتيها ارتسمت ابتسامة صغيرة. كانت نظرة من ترى بوضوح خيوط الخداع.
“لكن يبدو أن حالك لا تسمح بذلك الآن، أليس كذلك؟“
وقبل أن ينتهي من فهم مقصدها، شعر الشيطان بغليان غريب يتفجر داخله، لتبدأ ملامحه بالتشوه والاسوداد.
“يا إلهي… كونت باتريك، ما الذي يحدث لوجهك؟“
قالت إيف وهي تشير إلى وجهه بإصبعها.
في تلك اللحظة، اندفع باليريان بسرعة نحوها، ووقف حاميًا لها.
ارتبكت إيف، فقد سبق الجميع واقترب منها أولًا، حتى قبل يوري.
ثم بدأت الصرخات تتعالى من كل اتجاه:
“آآآآااه!!”
“شيطان!!”
“الكونت باتريك كان شيطانًا؟!”
وفي لحظات، عمت الفوضى المكان.
كان الشيطان مصدومًا من انكشاف أمره، ومع ذلك، بدأ ينقل أنظاره بين الجموع ليحدد من فضحه.
نظره وقع على إيف، التي كانت تسحب طاقته شيئًا فشيئًا من خلال نقاء سحرها.
“أنتِ! لا يُعقل…”
ابتسمت إيف بخفة، ثم أدارت رأسها بتمثيل بارع وكأنها مذعورة مثل الباقين. بعدها نظرت باتجاه يوري.
كانت يوري في حالة صدمة تامة، تحدق في المشهد دون أن ترمش، غير قادرة على استيعاب ما يحدث.
أما مظهر الشيطان الحقيقي، فقد كان قبيحًا ومقززًا، كما وصفته الكتب تمامًا.
حين وجد الشيطان غوشيون نفسه محاصرًا كشف عن أنيابه السوداء في تعبير تهديدي.
‘بما أن الأمور وصلت إلى هذا الحد…’
رمق الجميع بعينين حمراوين متوحشتين، وبدت نواياه الدموية جلية.
لكنه لم يتمكن من تنفيذ أي شيء.
“إلى هنا وكفى.”
صوت حازم صدح في القاعة، ومعه لمع سيف مقدس مُشع بنور سماوي.
كان ذلك هو السيف “آرتشيبولد“، في يد باليريان، الذي وقف يحدق في الشيطان بنظرة باردة.
سطع السيف بضوء حاد، وكأنه يوشك أن يبتر عنقه في أي لحظة.
“غغغغغ…”
زمجر غوشيون في غضب، حينها، تقدمت إيف نحوه بهدوء.
أمسك باليريان بذراعها فجأة.
“إيف، توقفي!”
لكنها لم تستجب. واصلت السير نحوه بثبات.
كانت الفرصة قد حانت. انشغال الناس بالذعر أتاح لها ما أرادت.
اقتربت أكثر، ثم حرّكت شفتيها دون صوت قائلة:
“إن أردت النجاة، تشبث بيوري.”
اهتزت نظرة الشيطان وهو يقرأ كلماتها.
رغم أن الشياطين كائنات مملوءة بالشهوات، فإن أكبر رغبة تسيطر عليهم هي البقاء والخلود.
ولهذا السبب يقتلون البشر؛ فهم يسرقون أرواحهم ودماءهم ليُطيلوا أعمارهم.
تردد الشيطان، لكنه ظل صامتًا لا يتحرك. عندها أمسكت إيف بذراع باليريان وهمست:
“هل يمكنك قتله بسرعة؟“
قالتها بتعبير مرعوب، مما جعل باليريان يرمقها للحظة، ثم اقترب من الشيطان خطوة واسعة.
رغم أنها خطوة واحدة، إلا أن المسافة بينهما تقلصت فجأة.
شعر غوشيون بقوة خصمه، فدفع طاقته الشيطانية فجأة ليغيّر مظهره.
تحوّل إلى هيئة آرون.
ثم صرخ بيأس:
“يوري! أرجوك، أنقذيني!”
‘نعم هكذا!’
هتفت إيف لنفسها بانتصار. كانت يوري تحدق بصدمة.
“آ–آرون؟!”
“لا أذكر أي شيء فعلته! فقط… فعلت كل ما فعلته من أجلك يا يوري!”
الشيطان كان يدرك تمامًا أن يوري هي طوق النجاة الوحيد المتبقي له.
شعرت إيف بالارتياح، فقد بدأت الخطة تسير كما توقعت.
‘إذًا، لا شك أن الشائعات كلها من صنع هذا الشيطان.’
نفاق الشياطين ظهر جليًا في هذا المشهد.
شعرت إيف بهواء بارد يخترق صدرها.
‘حين ذهبت للبحث عن باليريان في ذلك الجبل… لا بد أنه استغل الفرصة وتقمّص آرون هناك.’
لقد مضى أكثر من شهر على اختفاء آرون الحقيقي.
فرص نجاته باتت ضعيفة جدًا.
‘لم أكن أعلم أن الشياطين بهذه القسوة والوحشية.’
وحين واجهت هذه الحقيقة لأول مرة، بدأت يدها ترتجف.
وربما فسر باليريان ذلك الارتجاف على طريقته، فزادت نظراته قتامة، وتجلّى فيها الغضب.
“آرون…”
ما زالت يوري في ذهول، لم تستوعب بعد ما يدور أمامها.
تنهدت إيف بصمت وهي تراقبها.
‘كان عليكِ التظاهر بعدم المعرفة على الأقل.’
ورغم أن ما حدث يصبّ في مصلحتها، فإنها لم تكن قادرة على الفرح به كاملًا.
الشيطان، الذي ظل يتشبث بيوري، غيّر رأيه فجأة وحاول الهجوم.
لكن محاولته لم تدم طويلًا، إذ سقط قتيلاً بسيف باليريان المقدس.
* * *
انقلبت أرجاء بيت الدوق غيلين الذي تولّى تنظيم الحفلة التنكرية الخاصة بمهرجان الصيف رأسًا على عقب. إذ أمر الإمبراطور بإجراء تحقيق شامل، مشيرًا إلى احتمال تسلل الشياطين بين الحضور.
توجّهت إيف إلى قصر الدوق لودفيغ رغبةً في لقاء باليريان لأمرٍ بالغ الأهمية. لكنها فوجئت بأبواب القصر موصدة تمامًا، لا تفتح لها.
“…إنه أمر من الدوق نفسه، إذًا.”
أدركت إيف أن سبب إغلاق الأبواب لم يكن باليريان، بل قرار اتخذه الدوق لودفيغ شخصيًا. وهكذا أصبحت الرسالة واضحة:
عائلة الدوق لودفيغ لا ترغب في أي علاقة أو تواصل مع عائلة الكونت إستيلا.
شعرت إيف بشيء من المرارة وهي تتأمل ما مضى من زمن، لكنها لم تستغرب؛ فمن الطبيعي أن يتصرف الدوق هكذا. فأي والدٍ يقبل بأن يفتح بابه لمن خان ابنه؟
وبكل هدوء، أغلقت إيف قلبها كما أُغلقت الأبواب، وعادت إلى طريقها.
في وقت لاحق، كانت ضيفة على زافيير، الذي لم يخفِ سخريته من زيارتها المفاجئة وغير المعلَنة.
“يبدو أن حالتك الصحية جيدة، وهذا أمر يبعث على الارتياح.”
“وجلالتك لا تبدو بخير… هل تشغل نفسك كثيرًا هذه الأيام؟“
“ليس بالأمر الجديد عليّ.”
قالها زافيير وهو يعقد ساقيه بأناقة، وقد اتخذ ملامح الجدية. ثم أضاف:
“من تزعّم نشر تلك الشائعات عنكِ كان الكونت باتريك.”
“…أنت سريع الاطلاع فعلًا.”
تمتمت إيف بدهشة وهي تحدق فيه.
“حدوث أمر كهذا في العاصمة يستوجب التحقيق بطبيعة الحال.”
في الحقيقة، علم زافيير بتلك الشائعات قبل أيام فقط، حين سمعها من ابنة عمّه أوفيليا غيلين. ومنذ تلك اللحظة، لم تفارق الفكرة ذهنه، حتى إنه استدعاها إلى القصر.
“من فعلها كان الكونت باتريك.”
وبوصفها إحدى ركائز المجتمع الراقي، تمكنت أوفيليا غيلين من معرفة الفاعل على الفور.
لكن زافيير لم يذكر أنها من أخبرته بذلك، بل تصرّف وكأنه توصّل إلى الحقيقة من خلال تحقيق رسمي. حتى هو لم يكن يعرف تمامًا لماذا أخفى هذا الأمر.
ربما لأن نظرة أوفيليا له حينها لم تفارقه… كانت تنظر إليه وكأنها ترى أمامها رجلاً أحمق
صحيح أن طبيعة أوفيليا المتغطرسة اعتادت الترفّع على الآخرين، لكن أن تنظر إلى زافيير بتلك الطريقة الصريحة، فذلك كان جديدًا عليه.
قالت إيف فجأة، وقد بدا عليها الحذر:
“هل يمكنني أن أطلب منك معروفًا آخر؟“
“ما هو؟“
“هناك رجل يُدعى آرون رومان، وُلد في قرية نادين.”
“آه… تقصدين الرجل الذي رافقكِ إلى العاصمة مؤخرًا؟“
“نعم.”
تنهّدت إيف إعجابًا دون أن تدري. لم يخفَ شيء عن الأمير، كما يليق بمن هو في موقعه. لكن تعبيرها تغيّر سريعًا، وتحدثت بجديّة:
“شيطان تَنَكّرَ بهيئة آرون وصعد إلى العاصمة.”
“أيعني ذلك أنه لاحقكِ من قرية نادين حتى هنا؟“
“هذا صحيح. لهذا أريد العثور على آرون الحقيقي.”
“…هاه.”
أطلق زافيير تنهيدة بدت وكأنها تأسُّف، ثم قال بهدوء:
“أنصحكِ ألّا تعلقي آمالًا كبيرة.”
تردد قليلًا، ثم أردف:
“لقد عُثر على الكونت باتريك الحقيقي ميتًا.”
“…إذًا، فرصة العثور على آرون ضعيفة للغاية.”
عضّت إيف على شفتيها وهي تشعر بانقباض قلبها. مرةً أخرى، أدركت بمرارة كم أن الشياطين أجناس متوحشة ووحشية.
أمام هذا الغضب الذي ارتسم على وجهها، غيّر زافيير موقفه الداخلي.
فحين بلغه حديث الشائعات من أوفيليا، لم يُخفِ أنه شكّ للحظة:
‘إيف إستيلا… أداةٌ للشياطين.’
فما الذي قد يدفعها لفسخ خطوبتها والهرب من باليريان؟ هذا السبب كان أكثر منطقية. فالشخص الوحيد الذي قد يخشى إلّا هو شخص له علاقة مباشرة بالشيطان أو يَدين له بشيء.
لذلك، ترك الشائعات تنتشر عمدًا، دون أن يتدخّل لإيقافها. كان يراقب ما ستفعله إيف، علّه يجد دليلاً يؤكد ظنونه.
لكن الآن، وهو يراها بعينيه، لم يجد في تصرفاتها شيئًا يدلّ على أنها على صلة بالشيطان.
ولو كانت كذلك، فهل كانت لتأتي بنفسها إلى القصر وتطلب لقاءه؟ وكل هذا من أجل شخص يُدعى آرون رومان؟
عندما سمع أنها حضرت إلى القصر، ظن أنها جاءت لتطلب معاقبة أولئك الذين نشروا الشائعات عنها.
لكنها لم تذكر ذلك أبدًا.
كل ما طلبته كان المساعدة في العثور على آرون رومان، الذي كان ضحية الشيطان.
حتى يوري، التي قيل إنها كانت صديقة آرون، لم تطلب شيئًا من هذا القبيل.
“…سأبذل قصارى جهدي للبحث عنه. فهذا يصبّ في مصلحة أمن الإمبراطورية.”
“أشكرك على ذلك.”
حين ابتسمت له، أدار زافيير نظره على الفور، متجنبًا النظر في وجهها، وركز على فنجان الشاي أمامه.
في داخله، ارتجّ سطح الشاي في صمت، مخلّفًا تموجات صغيرة.
————
ترجمه: سـنو
واتباد :
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 59"