شعرت إيف بالامتنان لأنها لم تكن تمسك بفنجان الشاي في تلك اللحظة.
لو كانت تحمله، لانتهى به الحال متدحرجًا على الطاولة في مشهد لا يسرّ الناظر.
“أنا… أداةٌ للشيطان؟“
قالت إيف بصوت مرتجف، فحدّقت الآنسة أوفيليا بها بصمت، ثم ارتشفت من فنجانها بهدوء قبل أن تتكلم.
“نعم. صحيح أن أغلب النبلاء لا يعرفون بعد، لكنه إشاعة تنتشر بين كبارهم، ولن يمر وقت طويل قبل أن تصل إلى الجميع.”
عندها فهمت إيف المعنى الحقيقي لمقولة “أصبح رأسي أبيضًا من الصدمة“.
شعرت بأن الأرض تدور بها، وكانت على وشك أن تفرغ سيلًا من الأسئلة التي تزاحمت في ذهنها، لكنها تماسكت وبدأت بالكلام ببطء.
“…ومن الذي ينشر مثل هذه الشائعة؟“
“من يعلم؟ على الأرجح من بين من هم مثلي، أو أحد المتورطين بشكل مباشر.”
وضعت أوفيليا فنجانها كما لو أن الحديث قد انتهى.
“لقد أديت دوري، لذا سأغادر الآن.”
“دور؟ تعنين أن أحدهم كلّفك بذلك؟“
رغم أن الشائعات التي تدور في الوسط الاجتماعي أرهقتها، فإن إيف لم تفوّت النبرة الغامضة التي اتسم بها حديث أوفيليا.
“هل كان وليّ العهد؟“
توصلت إيف إلى الإجابة بسرعة. لم يكن من أشخاص كثيرين مَن يملك القدرة على تحريك أوفيليا غيلين بنفسها.
“ذكية، كما توقعت.”
لم تنفِ أوفيليا الأمر. اندهشت إيف حين أدركت أن ولي العهد هو من يدعمها في الخفاء.
‘هل من الممكن أن يكون هو أيضًا وراء المقال في الصحيفة؟‘
لكن الأمر لا يتوافق مع شخصية زافيير. لم يكن من النوع الذي يهوى التحكم في الإعلام.
مع أن الإمبراطورية أصبحت تُدار بشكل مركزي، حيث تتركّز السلطة في يد الحكومة أو الحاكم وحده، فإن زافيير كان يفضّل أن تظل الصحافة حرة وغير خاضعة لهذا التحكم.
‘هل يعقل أن يكون قد ساعدني بدافع الوفاء، كما قال نواه؟‘
ومع ذلك، لم يكن ليقدم يد العون بهذه الطريقة.
استخدام أوفيليا غيلين لإيصال المعلومة أقرب لأسلوبه.
“هل قرأتِ الصحيفة الإمبراطورية الأخيرة؟“
سألتها إيف، فأومأت أوفيليا كمن يعتبر السؤال بديهيًا. وحين بدا أنها تذكرت محتواها، ابتسمت بخفة.
“آه، يبدو أن هناك من يُعجب بآنسة إستيلّا كثيرًا. هل تعرفين من يكون؟“
“ألم يكن ذلك من فعل سموّه؟“
ردّت إيف، لكن أوفيليا ضحكت كما لو أنها سمعت أمرًا مسليًا.
“الشخص الذي يكره هذا العنوان أكثر من أي أحد هو زافيير، أؤكد لكِ ذلك.”
“إلى هذه الدرجة؟…”
كانت تعلم أن زافيير لا يحب السيطرة على الصحافة، لكنها لم تتخيل أنه يكرهها بهذا القدر.
‘إذًا، فهو ليس الفاعل.’
فمن يكون إذن؟
شعرت إيف بالارتباك بعد أن أزالت أحد أقوى الاحتمالات من قائمتها. لكنها أدركت أن هذا ليس هو الأهم.
الخطر الحقيقي يكمن في انتشار إشاعة تصفها بأنها أداة للشيطان. وإن استمرت الأمور بهذا الشكل، فسينتهي بها الحال في محكمة التفتيش عاجلًا أو آجلًا.
عند الرغبة في التخلص من عدو سياسي، فإن أنجح طريقة هي اتهامه بعبادة الشيطان أو السحر، ومن ثم تسليمه لمحكمة دينية.
لكن هذا الأسلوب لم يكن شائعًا، لأن استخدامه محفوف بالمخاطر. فإن ثبتت براءة المتهم، فالعقوبة تنتقل إلى من اتّهمه زورًا، وقد تؤدي إلى إعدامه.
وكانت هناك أمثلة كثيرة على ذلك.
‘الوضع ليس جيدًا أبدًا.’
حتى أوفيليا، التي عادة ما تتجنب التدخل في شؤون الآخرين، علّقت هذه المرة.
‘إذًا يجب أن أبدأ بالبحث عن مصدر الشائعة، لكن… الأشخاص الذين يحملون لي الضغينة كُثُر.’
عددهم لا يُحصى. يكفي أن تُحصي أولئك المهووسين بباليريان، وستجد أن عددهم يتجاوز المئات.
رأت أوفيليا الابتسامة المستسلمة على وجه إيف، ففتحت مروحتها وغطّت بها وجهها.
“إن كنتِ ترين نفسك مظلومة، فليس أمامكِ سوى أن تتحركي لحماية نفسك.”
وهنا فهمت إيف ما قصدته.
“أيعني هذا أن عليّ حضور حفلة التنكر؟“
كان على إيف أن تكتشف منبع تلك الشائعة خلال حفلة التنكر التي تُقام في اليومين الأخيرين من مهرجان الصيف.
بعد مغادرة أوفيليا وبقاء إيف وحدها في غرفة الضيافة، أمسكت بفنجان الشاي وتفكرت في الأمر.
‘أن أجد من أطلق تلك الشائعة؟‘
نعم، في العادة، أول ما يخطر في مثل هذا الموقف هو البحث عن ناشر الشائعة وتبرئة النفس. لكن تفكير إيف كان مختلفًا قليلًا.
–طَرق، طَرق.
قطعت طرقات خفيفة على الباب أفكارها. ارتجفت قليلاً، ثم أجابت:
“من هناك؟“
“هناك زائر يرغب برؤيتك، يا آنسة.”
في الحقيقة، لم تكن في مزاج يسمح لها بلقاء أحد.
وكانت على وشك رفض اللقاء حين توقفت فجأة.
“لا، انتظري…”
غيرت رأيها.
‘ربما تكون يوري.’
وإن كان كذلك، فقد يمكنها طلب المساعدة منها. إذ لم يكن هناك من يتمتع بحرية حركة سياسية وسط طبقة النبلاء أكثر من القديسة.
“يُدعى آرون رومان. ويقول إنه كان على معرفة بك في قرية نادين…”
“آرون؟“
كان ذلك مفاجئًا. لم تتوقع أن يترك تدريبه في قصر دوق لودفيخ ويأتي إلى هنا. ترددت لحظة، ثم أومأت بالموافقة.
‘يجب أن أسأله عن أخبار يوري.’
فقد كانت تشعر بالقلق من عدم تلقي أي رد على رسائلها إليها. صحيح أن يوري قد يكون مشغولًا بحضور الحفلات ومراسم ظهوره في المجتمع، لكن احتمال وجود أمر آخر لم يكن مستبعدًا.
‘هناك شيء مريب…’
كان لديها شعور قوي بأن أمورًا كثيرة تدور من حولها دون أن تدري.
لا، لم يكن شعورًا فقط… بل كانت تحدث بالفعل.
أرادت إيف أن تكتشف مصدرها بنفسها.
“إيف! لم أرك منذ مدة! كيف حالك؟“
دخل آرون قصر الكونت وهو يرتدي ملابس أنيقة، بدا وكأنه واحد من أبناء العاصمة فعلًا، رغم أن مظهره لا يزال يحمل لمسة قروية. كادت إيف أن تضحك من دون وعي حين رأته.
“ألا ترين أن هذه الملابس تليق بي؟“
اعتدل آرون في جلسته ورفع كتفيه بخفة، وبدت على وجهه ملامح المرح والمشاكسة.
أومأت له إيف بابتسامة وسألته عن أحواله خلال الفترة الماضية.
“آه، وكيف حال يوري؟“
جاء سؤالها التالي عفويًّا، وهي تتوقّ لمعرفة أخبار صديقتها.
هزّ آرون رأسه إيجابًا.
“تبدو وكأنها وجدت نفسها في الحفلات. كانت تستمتع بها كثيرًا.”
“هذا مطمئن… كنت قلقة عليها لأنها بدت متوترة جدًا، لكن يبدو أن كل شيء سار على ما يرام.”
قالت إيف ذلك بينما رفعت فنجانها كما لو كانت ترتشف الشاي، غير أنها كانت في الواقع تراقب تعابير آرون. بدا وجهه مترددًا ومبهمًا قليلًا.
“أمم… هل ما زلتِ منقطعةً عن التواصل معها؟“
“نعم، لم أتلقَ أي رد من يوري حتى الآن.”
أجابت إيف بصراحة.
كان واضحًا أن آرون يريد قول شيء.
“كنت أظنّ ذلك…”
ردّ بصوت منخفض وقد علت وجهه مسحة من الحرج.
“في الحقيقة، أظن أن يوري غاضبة منك بعض الشيء.”
“غاضبة… مني؟“
“لقد أرسلتِ رسالة إلى السيد إيلا، أليس كذلك؟ يوري وجدتها.”
“آه…”
تنهدت إيف ببطء، وكأنها بدأت تدرك سبب التوتر. كانت تتخيّل ما الذي قد تكون يوري فهمته خطأ. ورغم أنها لم تضع اسم المرسِل على الرسالة، يبدو أن يوري عرفت أنها منها، وذلك ما أثار استغرابها.
‘ربما لم يكن عليّ إرسالها منذ البداية…’
شعرت بالندم للحظة، لكن الضرر قد وقع. وإن كان هناك سوء فهم، فالأفضل مواجهته وتوضيحه بنفسها.
“في البداية كنت أخشى أن تحاول يوري الانتقام منك، لكنها بدت وكأنها نسيت كل شيء بعد الحفل.”
قال آرون محاولًا التخفيف من وقع الأمر، وابتسم براحة.
حدّقت فيه إيف بصمت. وعندما لم تردّ عليه، رفع حاجبه باستغراب وسأل:
“ما بك؟“
“لا شيء… فقط، شكرًا لأنك قلقت عليّ. بالمناسبة، كيف تجري التدريبات مع باليريان؟“
“آه، باليريان؟ حسنًا… بما أنه أفضل مقاتلي الإمبراطورية، فالوضع كما تتوقعين.”
ضحك آرون وأخذ يسهب في الحديث عن التدريب. وبينما كانت إيف تصغي له باهتمام، خفّضت بصرها، وعيناها المتوهجتان بلون الياقوتي بدا عليهما بريق حاد.
‘هناك شيء مريب في آرون…’
كانت تعرف جيدًا كم كان آرون مولعًا بباليريان، إلى درجة قريبة من الهوس، ولا يكاد يهتم بشيء سواه. لكن الآن، رغم أنه يتدرّب معه ويعيش بقربه، لم يذكره إلا بعد أن سألته هي؟ بل بدأ حديثه عنها وعن يوري مباشرة؟ هذا غريب.
‘في القرية، كان دائمًا ملازمًا ليوري، لذلك لم ألحظ الأمر…’
والأغرب من ذلك أنه رغم شدة إعجابه بياليريان، كان يفضّل ملازمة يوري طوال الوقت. ظنت في البداية أنه وقع في حبها، لكن عندما رأته يتعاون معها بسهولة في خططها لإثارة غيرة الآخرين، تأكدت أنه لا يحمل لها مشاعر حقيقية.
كان من غير المعتاد أن يأتي آرون بهذه الطريقة لمجرد لقاء صديقة قديمة.
رغم أنها شعرت أن شكوكها قد تكون مبالغًا فيها، إلا أن الشخص الجالس أمامها لم يعد يبدو لها وكأنه آرون الحقيقي.
لكنها لم تُظهر شيئًا من ذلك، وبدلًا من ذلك سألت بلطف:
“بالمناسبة، آرون، هل أهديت باليريان ذلك التمثال الخشبي الذي نحتَّه له؟“
“هاه؟ أي تمثال؟“
نظر إليها بدهشة، فمالت إيف برأسها باستغراب وقالت:
“ألم تقل إنك ستعطيه تمثالًا منحوتًا بيدك إذا قابلته شخصيًّا؟“
“آه، صحيح! نسيت تمامًا…”
ضحك وهو يحك رأسه بخجل، فضحكت إيف بدورها وقالت:
“ذاكرتك سيئة كعادتك.”
ضحكت، لكنها في داخلها شعرت ببرودة مفاجئة.
‘لا يمكن…’
تذكّرت عندما غادر آرون إلى الجبال بحجة لقاء باليريان، ثم وُجد لاحقًا نائمًا في أحد الأزقة. وقتها شعرت أن هناك شيئًا غير طبيعي. وإن كان قد استُبدل هناك… ثم—
‘أين هو آرون الحقيقي؟‘
لكن لمجرد هذه التفاصيل، لا يمكن الجزم بأن الذي أمامها ليس آرون.
كانت تحتسي الشاي بصمت، شاردة في أفكارها، حين التقط آرون نظراتها الطويلة نحوه، فبدا عليه بعض الريبة. عندها، قالت فجأة:
“آرون، هل يمكنك مرافقتي إلى الحفلة القادمة؟“
كانت قد قررت بالفعل الذهاب إلى الحفل كما نصحتها الآنسة غيلين، لكنها الآن عدّلت نواياها.
“حفلة؟“
“نعم، وصلتني دعوة لحضور حفلة تنكرية، وأظن أن بإمكاني الاستمتاع بها دون حرج.”
“لم أكن أعلم أنك تحبين الحفلات.”
قال آرون وهو ينظر إليها بدهشة، وعيناه تلمعان بالشك. لم يفُت ذلك على إيف، فاكتفت بابتسامة خفيفة عبرت شفتيها للحظة.
“هناك شائعات سيئة تُقال عني مؤخرًا… وسأحضر لأردّ الصاع صاعين. لا أطيق أن يُؤذيني أحد دون أن أردّ.”
———-
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 56"