كان اليوم الخامس من مهرجان الصيف الذي يستمر أسبوعًا.
وبينما كانت إيف منهمكة في مراجعة الأوراق داخل مكتبها، خطرت في بالها فجأة صورة يوري.
‘الآن بعد أن فكّرت في الأمر… لم أتلقّ أي رسالة من يوري.’
قبل انطلاق المهرجان، كانت الرسائل بينهما تتبادل بانتظام، لكن منذ بدء المهرجان، انقطعت كليًا.
كانت إيف قد بادرت بإرسال رسالة تسأل فيها عن حالها، لكنها لم تتلقّ أي رد.
‘لا بأس، لا بدّ أنها مشغولة بحفلات الاستقبال.’
لا أخبار…يعني أن الأمور بخير.
وبما أنه لم يردها أي خبر عن إصابة يوري أو تعرّضها لأذى، شعرت إيف بالارتياح.
‘هل يمكن أن يكون باليريان يحرسها بإحكام؟‘
إن كان يلازمها عن كثب، فلا شك أن ذلك شكّل عائقًا كبيرًا أمام اقتراب الشياطين منها.
لذا فإن هدوء الأوضاع بهذا الشكل يبدو منطقيًا.
فكّرت حينها في الرسالة التي أرسلتها إلى باليريان.
‘نواه قال إنه تدخّل غير ضروري وافتعل ضجة… لكن—’
والآن وقد مرت الأيام دون أن تُصاب يوري بأذى، بدأت تظن أنها أحسنت التصرف.
بالطبع، من غير المرجح أن يكون باليريان بجانب يوري فقط بسبب تلك الرسالة. لا بد أنه اتخذ القرار بنفسه لحراستها.
‘بعد خمسة أيام معًا… لا بد أنهما أصبحا مقربين إلى حد ما.’
وحين بدأت أفكارها تزدحم، ارتشفت القهوة لتهدئة نفسها.
رغم أن باليريان يكرهها إلى هذه الدرجة، إلا أنها ما زالت تتمسك به، وتلك الحقيقة وحدها جعلتها تشعر بأنها غبية.
تنهدت إيف بينما كانت تهمّ بالخروج من مكتبها متوجهة إلى مكتب والدها، لكنها توقّفت فجأة.
من نافذة الممر، رأت والدَيها في الحديقة، يتحادثان بودّ وهما يحتسيان الشاي بابتسامة ودفء.
كان مشهدًا جميلاً من منظور الأبناء… لكنه أشعل في صدر إيف نارًا لا توصف.
‘الابنة التي عادت بعد غياب طويل لم تستقبلوها إلا بسيل من الأعمال المتراكمة!’
كانت قد ظنّت أنها ستنال بعض الراحة بعد مدة طويلة، لكن كالعادة، خاب أملها.
كوْمة الأعمال المؤجلة كانت في انتظارها، وكأنها على موعد معها.
لقد عادت المهام القاتلة، وبشكل أشد من السابق، حتى شعرت بالدوار.
‘أريد العودة! أريد العودة فورًا!’
رغبة عارمة اجتاحت كيانها للعودة إلى قرية نادين، حيث ينتظرها حقلها الصغير الحبيب.
فجأة غيرت وجهتها، وعادت أدراجها بخطى غاضبة تنقّلت في أرجاء الممر.
وسرعان ما وصلت إلى الحديقة.
“أبي!”
صاحت حين لمحت والدها يضحك برفقة أمها في الحديقة.
“ما الأمر، إيف؟“
سألها بنظرات متفاجئة، فتوقفت لحظة لتلتقط أنفاسها وتتمالك نفسها.
اصبري… من يصبر يُرزق.
“…أما عن المسألة التي طلبتُ منك متابعتها؟“
“همم؟“
رفعت يدها إلى جبينها وكأنها تحاول كبح انفعالها. وعندما التقت عيناهما، أدرك أخيرًا مقصدها.
“آه، تلك المسألة! نعم، كلّفت من يحقق في الأمر!”
“ومن الذي قام برشوة الصحيفة؟“
“الحقيقة… تبين أنه شخص لا نستطيع الوصول إليه بقدراتنا وحدنا.”
هل حقًا لا يمكن لقوة الكونت إستيلا أن تكتشفه؟
اتّسَمَ وجه الكونت بالجدية.
“وماذا عن الخدم التابعين لنا؟“
رغم أن أراضي ملكية إستيلا لم تكن واسعة، إلا أنهم يملكون عددًا لا بأس به من التابعين والخدم.
لطالما استغربت هذا في الماضي، لكنها لم تتعمق، معتبرة أن السبب يعود إلى عراقة الأسرة.
‘وفي النهاية… أولئك التابعون جميعًا كانوا من نسل سحرة.’
كان هناك عدد لا بأس به من الخدم الذين تعود أصولهم إلى سحرة سابقين، لكن لا أحد منهم يمتلك قدرة سحرية فعلية.
“إن كنا لا نستطيع الحصول على المعلومة بأنفسنا…”
“فلا بد أن ثمة قوى عُليا تضغط من فوق. قوى لا تخطر على البال.”
قال الكونت، وبدا عليه بعض الحيرة.
لكن إيف لم تُبدِ انزعاجًا كبيرًا، فقد توقعت شيئًا من هذا القبيل.
‘في الإمبراطورية، لا يوجد الكثير ممن يملكون نفوذًا كافيًا لفرض سيطرتهم على صحيفة الإمبراطورية.’
وهنا برز تساؤل كبير في ذهنها:
لماذا يهتم شخص يتمتع بقوةٍ هائلة بما يُقال عن سمعتها إلى هذا الحد؟ هذا أمر مريب.
‘هل يمكن أن يكون… باليريان؟‘
لا. بل على العكس، هو من يتمنى أن تُمزّق سمعتها شر تمزيق.
بل ربما يكون أكثر من ينزعج من هذا النوع من المقالات.
راحت تمسح في ذهنها قائمة معارفها باحثة عن خيط واحد، ثم خطرت لها فكرة:
‘هل يمكن أن يكون زافيير؟‘
كوليّ للعهد، فهو يملك بالتأكيد السلطة الكافية لفعل ذلك.
لكن… لماذا يهتم زافيير برأي الآخرين فيها؟
هل ثمة علاقة ما بينهما؟ مستحيل. لا سبب واضح لذلك.
‘هل من الممكن… أن يكون زافيير يُكنّ لي مشاعر؟‘
راودها هذا الخاطر فجأة، لكنها تذكّرت رد فعله البارد حين أخبرته بنيّتها العودة إلى قرية نادين.
لم يبدُ عليه أي حزن أو تردد.
‘لا… لا يحبني إطلاقًا.’
وحين دخلت القصر، لمحت نواه يتجول بلا هدف كالعادة، فأمسكت به واقتادته بالقوة إلى مكتبها.
“هيه! ما بكِ؟!”
صرخ نواه وهو يحاول التملص، لكن دون جدوى أمام قوة إيف.
“هل لديك فكرة عمّن يقف وراء هذا المقال؟“
كانت الصحيفة ما تزال تتصدرها عناوين مفرطة في الإشادة بإيف إستيلا. في البداية بدا الأمر سخيفًا، لكنه الآن أصبح محرجًا ومزعجًا.
‘يجب أن أجد هذا المجنون في أقرب وقت.’
كانت تنوي إيجاده فورًا وطلب إزالة اسمها من المقالات.
أو ربما… هذا العنوان من تدبير شخص يكرهها بشدة؟
ربما كانت هذه طريقته لتشويه صورتها علنًا.
كلما فكرت في هذا، زادت رغبتها في معرفة الحقيقة.
“كيف لي أن أعرف؟!”
صرخ نواه غاضبًا من سحبها المفاجئ له. فحدّقت فيه بنظرات حادة.
“هل تعتقد أنه قد يكون زافيير؟“
نواه الذي كان يعمل كمحصّل ضرائب لدى القصر، وكان يلتقي وليّ العهد كثيرًا، قد يملك إجابة.
بدت عليه علامات التفكير، بعدما أدرك ما تعنيه بسؤالها…
‘زافيير لو هيليوس…’
كانت إيف تسأل عن طبيعة هذا الرجل.
“إذا كنتِ تقصدين زافيير… لا أظن أنه هو.”
وكما هو متوقع، لم يكن الجواب مفيدًا على الإطلاق.
“إذن من عساه يكون…؟“
تنهدت إيف بعمق ولوّحت بيدها في ضيق.
“على كل حال، يمكنك الخروج الآن.”
“تجرّينني كأنني أمتعة، ثم تطردينني وكأن شيئًا لم يكن… ما هذه الفوضى؟“
تمتم نواه متذمرًا وهو يفتح الباب مطيعًا لأمرها. وفور فتحه، فوجئ برئيس الخدم واقفًا هناك. ويبدو أنه كان على وشك طرق الباب، إذ سحب يده في شيء من الحرج.
“سيدتي، هناك من يطلب لقاءك.”
“ضيف؟“
ردّ عليها الخادم قائلًا:
“إنها الآنسة أوفيليا غيلين، وريثه الدوق غيلين.”
“آه، صحيح. لقد أخبروني أنها ستزورني هذا العصر.”
هزّت إيف رأسها متذكرة. فقد وصلت إليها رسالة من دوقية غيلين فور بدء مهرجان الصيف، تُعلِمها بأن أوفيليا ستزور القصر قريبًا.
“أوفيليا غيلين… أليست الابنة الكبرى لعائلة الدوق؟“
بدت الدهشة على وجه نواه أيضًا عندما سمع الاسم، وسرعان ما التفت إلى إيف في صدمة.
“لا تقولي إنك تسببت في كارثة معها أو شيء من هذا القبيل؟“
“وأين لي بالوقت لارتكاب الكوارث وأنا غارقة في العمل هنا؟“
تجاهلت إيف تعليقه السخيف واقتربت من الخادم.
“وأين هي الآن؟“
“في صالون الاستقبال، بانتظارك.”
أي أنها قد وصلت بالفعل وتنتظرها هناك.
خرجت إيف على الفور من المكتب وسارت بسرعة نحو الصالون.
‘ترى ما الذي جاء بها؟‘
لم يكن بينهما أي معرفة سابقة، ولا يوجد ما يربطهما سوى شخص واحد: ولي العهد.
وكانت أوفيليا غيلين، ابنة عم ولي العهد، وهي من الشخصيات المشهورة التي تعرفها إيف جيدًا.
‘ربما يكون هذا لصالحنا.’
ربما تكون هذه فرصة للسؤال عن الصحيفة. فإن كانت أوفيليا على علاقة وثيقة بزافيير، فربما تكون قد سمعت شيئًا عنه.
طرقت الباب بلطف ودخلت. وما إن وقع بصرها على أوفيليا الجالسة بأناقة، حتى رمشت بدهشة.
‘إنها نسخة طبق الأصل من زافيير!’
لو قيل لها إنهما شقيقان، لما شكّت للحظة.
صحيح أن لون شعرها كان فضيًا، على عكس شعر زافيير الأسود، إلا أن عينيها الخضراوين اللامعتين كربيع دائم، والأجواء الأنيقة التي تحيط بها، كلها كانت توحي بأنهما من دمٍ واحد.
“تشرفت بلقائكِ. اسمي إيف إستيلّا.”
“وأنا أوفيليا غيلين. سررت بلقائكِ.”
بادلتا بعضهما تحية رسمية بسيطة، أقل مما يُتوقع من أول لقاء بين آنستين من النبلاء، لكن لم يعلّق أحد على ذلك.
‘لم أشعر بأي شيء كهذا وأنا مع زافيير من قبل…’
وجود أوفيليا بثّ في المكان نوعًا من التوتر الهادئ. ربما لهذا كانت المرشحة الأقوى لخلافة منصب ربّ الدوقية.
الكاريزما الرزينة التي أحاطت بها بدت طبيعية تمامًا.
“هل نالت نكهة الشاي رضاكِ؟“
نظرت إيف إلى فنجان الشاي.
كانت تفكر بأن زافيير وأوفيليا… ليس فقط يجمعهما الدم، بل حتى أذواقهما تتطابق، خصوصًا في حب الشاي.
“…كانت النكهة جيدة بالفعل.”
الذوق المتطلب تجاه الشاي كان السمة الأبرز التي تجعل من الاثنين يبدوان كأشقاء حقيقيين. وربما لهذا بدت أوفيليا مندهشة قليلًا.
“من أين حصلتِ على هذا الشاي؟“
“من أوراق الشاي التي زرعتها بنفسي حين كنت في قرية نادين. يسعدني أنها أعجبتكِ. قبل أن تغادري، سأعطيكِ ما تبقّى منها.”
في الحقيقة، لم يكن هناك من يشرب الشاي في هذا القصر سواها. وقد أحضرت تلك الأوراق معها فقط لأنها لم تشأ إهدار ما زرعته في حديقتها الصغيرة.
‘كنت أعلم أنها ستعجبها.’
ابتسمت إيف بخفية. فقد رعتها بعناية، مستخدمة السحر للتحكم في الرطوبة، فلا عجب أن طعمها كان راقيًا.
“…شكرًا لك. لكن، أما تشربين الشاي؟“
“لا، في الواقع لا أحب الشاي كثيرًا.”
أجابت إيف بصراحة. لم ترغب في التظاهر بمجاملة لا تناسبها. ويبدو أن صدقها راق لأوفيليا، إذ بدت ابتسامة خفيفة على وجهها للمرة الأولى.
وبينما كانت تنظر إليها، أخذت تفكر:
“سمعت أن الآنسة إستيلّا لا تغادر القصر أبدًا، لكن…”
بدأت تشعر أن السبب لم يكن خوفًا من نظرات الناس كما يُشاع.
“هل أنتِ على علم بالشائعات المتداولة عنكِ في المجتمع؟“
سألتها أوفيليا فجأة وبشكل مباشر.
“نعم، سمعتُ ببعضها.”
“يهمّني أن أعرف ما الذي سمعتِه بالضبط.”
قطّبت إيف جبينها بانزعاج.
أن تطلب منها أن تذكر بلسانها ما يُشاع عنها؟ يا له من طلب فجّ.
“أنني شيطانة لا مثيل لها، أوازن بين ولي العهد ودوق لودفيغ الصغير لاختيار أحدهما.”
“ليست شائعة باطلة تمامًا، لكن يبدو أنكِ لم تسمعي بعد بالشائعة الأخطر. ربما لأنها لا تُقال في العلن.”
قالت أوفيليا ذلك بصوت منخفض.
شعرت إيف بشيء من القلق يتسلل إلى قلبها.
“يُقال إنكِ لم ترتبطي بلودفيغ حبًا، بل لأنكِ أداة في يد الشياطين.”
———
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
قناتي تيليجرام للروايات :
@snowpunny
التعليقات لهذا الفصل " 55"