كانت أوفيليا الابنة الكبرى لعائلة الدوق غيلين محط أنظار الجميع منذ أول ظهور لها في حفلة تقديم الفتيات في المجتمع الراقي.
وكانت الآراء تكاد تُجمع على أنه لو لم يكن الدوق الصغير لودفيغ قد خُطِب إلى آنسة إستيلا، لكانت الآنسة أوفيليا غيلين قد أصبحت خطيبته.
لكن هذا الرأي سرعان ما تلاشى تمامًا بعد أن تم إعلان أوفيليا وريثة لعائلة غيلين.
وفي تلك اللحظة، ارتفع صوت الخادم عالياً داخل قاعة الحفل:
“القديسة يوري، والدوق الصغير باليريان لودفيغ يدخلان!”
فاتجهت أنظار الجميع في القاعة نحو القديسة ومرافقيها.
أما الآنسة غيلين، فرفعت مروحتها مرة أخرى لتخفي بها شفتيها بينما كانت تراقبهم عن كثب.
“آه… وسامة الدوق الصغير لودفيغ ما تزال كما عهدناها!”
لم يُخفِ أحد من الحاضرين إعجابه، إذ تركزت جميع النظرات على باليريان.
كان مشهدًا مغايرًا تمامًا لما كان عليه الوضع قبل قليل حين كان الجميع يتهامسون فضولًا عن القديسة.
حتى أوفيليا، التي كانت من بين أولئك الذين تساءلوا عن شخصية القديسة، لم تستطع أن تُبعد بصرها عن الدوق الصغير، وكأن سحرًا قد خلب لبّها.
لقد كانت وسامته حقًا خارقة، كأنها تسحر من يراه من النظرة الأولى.
وبينما استغرق الجميع في مديح وسامة الدوق، لم يلحظوا وجود القديسة سوى بعد لحظات، ثم بدأوا يتهامسون بصوت خافت:
“شكلها غريب… كأنها من عالم آخر… لكنها جميلة بطريقة مميزة.”
“تلك العينان السوداوان… كلما أطلت النظر فيهما، شعرت كأني أغرق فيهما.”
رغم أن يوري شعرت بالحرج من كمّ الأنظار المتجهة نحوها، فإن ذلك الاهتمام لم يكن مزعجًا لها. بل على العكس، شعرت بشيء من السرور، حتى إنها اعتدلت في جلستها بفخر خفي.
شعرت وكأنها أصبحت نجمة شهيرة.
‘قد يستهدفك الشيطان…’
عندها، عادت إلى ذهنها كلمات إيف حين قالتها لها ذات مرة.
بالنسبة لها، التي نشأت في العصر الحديث، كانت فكرة وجود الشياطين ضربًا من الخيال والأساطير. ولهذا توجهت بالسؤال إلى آرون، الذي ضحك كما لو أنه سمع طرفة طريفة.
“الشيطان؟ ولماذا قد يظهر في مكان كهذا؟ لا تقلقي كثيرًا! ثم إن معكِ السيد إيلا!”
كلماته طمأنتها تمامًا.
‘ أجل، ما دامت مع ريان، فلا شيء يدعو للقلق…’
ومع ذلك، لم تستطع أن تطرد شعور القلق تمامًا. كانت تعلم أن الشخص الذي واجه الشياطين أكثر من أي أحد آخر في الإمبراطورية هو باليريان، ولو كانت تريد إجابة أكيدة، لكان من الأنسب أن تسأله. لكنها تجنبت ذلك عمدًا، خوفًا من أن يطلب منها عدم المشاركة في حفل الظهور الأول.
‘لا يمكنني تفويت فرصة المشاركة إلى جانب ريان!’
قبضت يوري على قبضتها بعزيمة متجددة، وفي عينيها ومضة إصرار.
فمنذ شهر كامل والكهنة لا يكفون عن إخبارها بأن هذه الحفلة هي أفضل فرصة للتقرب من باليريان. وكانوا يؤكدون لها مرارًا أنها لا يجب أن تفوّت هذه المناسبة.
“يشرفني أن ألتقي بكِ ايتها القديسة.”
بدأ النبلاء المتواجدون في الجوار يتقربون منها واحدًا تلو الآخر، كلٌّ يقدم نفسه بأدب وابتسامة:
“اسمي ماكسيمو فيليوس.”
“أنا سيلو ريتشارد، ابن أخت كونت هاينت…”
“أنا باتريك، كونت مقاطعة الجنوب.”
شعرت يوري بدوار من تدفق الأسماء والمقدمات التي انهالت عليها فجأة. فتقدم باليريان ووقف أمامها، مانعًا اقترابهم أكثر، وقال:
“القديسة أنهت للتو حفل تقديمها الرسمي، ولا تزال بحاجة لبعض الوقت لتتأقلم. لذا، إن كان لديكم ما تودون قوله، فالرجاء تأجيله لاحقًا.”
رغم أن صوته كان هادئًا، إلا أن نبرته حملت حزمًا واضحًا. تبادل النبلاء النظرات فيما بينهم، ثم بدأوا بالتراجع الواحد تلو الآخر.
“حسنًا… نلقاكِ لاحقًا إذًا، ايتها قديسة.”
احمرّ وجه يوري وهي تنظر إلى باليريان، الذي بقي ملازمًا لها دون أن يبتعد لحظة واحدة.
‘يا له من رجل رائع!’
ربما كانت تفكر كطفلة حالمة، لكنها تخيلت أنه لو وُجد أمير على حصان أبيض كما في القصص، لكان بالتأكيد يشبهه.
لطيف مع الضعفاء، ولا ينكسر أمام الأقوياء… إنه تمامًا الفارس الذي كانت تحلم به.
“ريان، ألا تشعر بالملل وأنت تبقى بجانبي هكذا طوال الوقت؟“
سألته يوري بوجه تعلوه مسحة من الحزن. لكنه هز رأسه نافيًا.
“لا داعي لهذا القلق. لم آتِ هنا للهو، بل لأرافقكِ وأحميكِ.”
وفي تلك اللحظة، تذكر باليريان الرسالة التي أرسلتها له إيف، والتي كانت تنص بوضوح على ألا يبتعد عن يوري في الحفل.
عضّ على شفتيه بغيظ.
هو نفسه لم يكن قادرًا على السيطرة على قوة إيلا لمجرد رؤيته لإيف تقف بجانب زافيير، ومع ذلك، ها هي الآن تطلب منه أن يبقى إلى جانب يوري طوال الحفل.
لم يستطع فهم إيف، بل لم يشأ أن يفهمها.
“شكرًا لك. لولاك، لما عرفت كيف أتصرف.”
ابتسمت له يوري بامتنان صادق.
* * *
في تلك الليلة، عادت يوري إلى غرفتها مرهقة بعد الحفل، وألقت بجسدها على السرير. رغم مرور الوقت، لم تستطع النوم بسهولة، فأخذت تتقلب كثيرًا حتى فتحت عينيها.
كان ذلك الصداع مجددًا… رأسها ينبض بالألم.
“أه…”
لكنها لم ترغب بإزعاج باليريان في هذا الوقت المتأخر لتطلب منه كبح قوة إيلا باستخدام طاقته.
‘ربما بعض الهواء البارد قد يساعد…’
لهذا قررت الخروج إلى حديقة قصر الدوق، علّها تشعر بتحسن.
“هاه…”
استنشقت الهواء المحمّل برائحة الأعشاب حتى أعماق رئتيها، فبدأت تشعر ببعض الانتعاش. وفجأة، سمعت صوت خطوات خلفها، فتجمدت في مكانها.
‘ايتها الغبية!’
كيف لم تدرك مدى خطورة التجول وحدها في هذا الوقت المتأخر من الليل؟ لم تكن تفكر إلا في إيقاف ذلك الصداع.
بدأ عقلها يعمل بسرعة.
‘هل ألتفت؟ أم أهرب؟‘
إن هربت، ربما تثير حفيظة من يقترب. وإن التفتت، فقد تُعرّض نفسها للأذى إذا رآها وجهًا لوجه.
راحت لقطات من أفلام الرعب تمر في ذاكرتها.
بدأت يداها ترتجفان.
“يوري، هل أنتِ بخير؟“
ثم جاءها صوت مألوف من خلفها. فتراخى جسدها على الفور.
“هاه… آرون.”
كان فتى في عمرها تقريبًا، بشعر بلون البندق، ينظر إليها باستغراب.
ملامحه الطيبة والبريئة لم تحمل أي نية سيئة.
“ما الذي تفعلينه في هذا الوقت؟“
سألها، فأجابت بوجه عابس وقد شعرت بالإحراج:
“أنا من يجب أن يسأل! ماذا تفعل أنت هنا في هذه الساعة؟“
“آه، أردت فقط إيصال هذه الورقة إلى السيد إيلا.”
كان يحمل ورقة صغيرة في يده. نظرت إليها يوري بفتور وقالت:
“ورقة؟ خرجتَ إلى الحديقة في هذا الوقت المتأخر بسبب ورقة تافهة؟“
“إنها رسالة.”
“رسالة؟“
بدأ الاهتمام يظهر في عينيها وهي تنظر إلى الورقة.
فقال آرون وقد شعر بنظراتها:
“إنها رسالة من إيف إلى السيد إيلا.”
“ماذا؟! وماذا كُتب فيها؟“
“آه… لا أعتقد أنه من اللائق أن أريك رسالة تخص غيرك.”
رفع كتفيه معتذرًا، وكان محقًا. لكنها لم تستطع كبح فضولها… لا، بل شعرت أنه عليها أن تعرف.
‘إيف أرسلت رسالة إلى ريان؟‘
مجرد هذه الفكرة جعلت قلبها يخفق باضطراب.
ابتلعت ريقها وقالت:
“أعدك أني لن أخبر أحدًا… فقط دعني أراها للحظة.”
بدت توسلاتها صعبة الرفض، لكن آرون بدا أكثر حرجًا.
تنهد وقال:
“هاه… لا يمكنني فعل ذلك. إن فقدت ثقة السيد إيلا، فسأشعر أن حياتي انتهت.”
“أقسم أني لن أقول شيئًا لريان.”
“حقًا؟“
جددت يوري وعدها مجددًا لأرون بأن تحافظ على سرّيّة الأمر، محاولة طمأنته بعدما بدا عليه القلق.
وأخيرًا، وبعد أن نظر إلى الورقة بنظرة سريعة، تنهد بعمق ثم ناولها إياها.
“لأننا أصدقاء… فسأريك إياها بشكلٍ استثنائي.”
“…شكرًا لك.”
تناولت يوري الرسالة من يده، ثم أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تبسط الورقة المجعدة.
كان قلبها يخفق بقوة غير مألوفة، تمامًا كما حدث في المرة الأولى التي رأت فيها إيف تقف إلى جانب باليريان في الغرفة ذاتها.
‘ما هذا…’
كانت رسالة حب.
رسالة اعترفت فيها إيف بمشاعرها تجاه فاليريان.
“إن كنتَ لن تختَر يوري… فتعال إليّ، يا باليريان.”
حين وقعت عينا يوري على السطر الأخير من الرسالة، تجمّد وجهها تمامًا وتصلّب.
وفي أسفل الرسالة، كُتب بوضوح اسم المرسلة
إيف إستيلا.
نظر أرون إلى عيني يوري، اللتين اشتعلتا بالغضب، وارتسمت على شفتيه ابتسامة خفية، متملصة.
كانت يدها ترتجف بشدة وهي تقبض على الورقة.
‘قالت إن لا علاقة لها به.’
لكن كيف يمكن لشخص “لا علاقة له به” أن يكتب مثل هذه الرسالة؟
ارتجف جسد يوري وهي تشعر بخيانة جارحة لم تختبر مثلها من قبل. كل شيء بدا لها مزيّفًا ومثيرًا للاشمئزاز.
“هـ… هل أنتِ بخير؟ وجهكِ شاحب تمامًا.”
“أرون… هل قرأت الرسالة؟“
“نعم، وجدتها ملقاة في ساحة التدريب، كنت أنوي رميها، لكنني احتفظت بها تحسبًا لأي طارئ.”
لكن الحقيقة كانت شيئًا آخر تمامًا.
فقد راقب أرون إيلا حين تلقى الرسالة في ساحة التدريب، وشعر أن هناك شيئًا مريبًا، فاستغل لحظة غيابه وتسلّل إلى غرفته… وهناك سرق الرسالة.
‘يبدو أن تعديل محتوى الرسالة لم يذهب سدى…’
لقد نجح في سرقتها، ثم عدّل مضمونها ليبدو كما لو أن إيف ما زالت تكن مشاعر لباليريان، والآن كان يستمتع سِرًّا برؤية القديسة تنهار أمامه.
قَبضَت يوري على الورقة بقوة حتى كادت أن تمزّقها بين أصابعها.
“أرون… ما رأيك؟“
“أعتقد…” حكّ رأسه وكأنه يفكر، ثم تابع ببساطة.
“أن إيف ما زالت تحب باليريان.”
كان صريحًا كمن يقرّ بحقيقة لا تقبل الجدل. حتى من موقعه كطرف خارجي، كان هذا ما يظهر له.
ضحكت يوري بسخرية خافتة، وكأنها لا تصدق ما تسمعه.
“هاه… هه.”
قبل أيام فقط، كانت إيف تصرّ وتؤكد أن باليريان يكرهها، وأن لا شيء يربطها به.
والآن ترسل له رسالة حب؟ ما هذا اللعب السخيف؟
‘تستمتعين بهذا، أليس كذلك… يا إيف أوني؟‘
شُوّه وجه يوري بالغضب، وارتسمت عليه ملامح الحنق والاحتقار.
إيف إستيلا.
لن تمرّ خيانتها بلا عقاب. ستدفع ثمن خداعها غاليًا.
———
تتوقعون بتصير نهاية سعيدة ولالا؟
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
قناتي تيليجرام للروايات :
@snowpunny
التعليقات لهذا الفصل " 54"