مرّت عدّة أيام منذ أن وصلت إلى العاصمة. وظلّت إيف مقيمة في قصر الكونت إستيلا، مستمتعة بحياة الكسل والراحة، تلهو وتستلقي وتتقلب دون همّ.
‘من المؤسف أنني لم أعد أتذوق طَعم التراب، لكن لا شك أن اللعب والاسترخاء هما الأفضل على الإطلاق.’
لم تكن تعلم أن البطالة والكسل يمكن أن يكونا بهذا القدر من الحلاوة منذ زمن بعيد.
كانت إيف تنعم بحريةٍ كاملة، ملتحفة بأغطية ناعمة لم تحظَ بها في قرية نادين، مستمتعة بالراحة التي لم تكن تعرفها هناك.
لكن رغم كل ذلك، كانت تتنهّد بعمق كلما رأت والديها يعملان خارج النافذة، وتساءلت عمّا إن كانت أمور القصر تسير على ما يرام.
‘كم من المهام قد تراكمت هذه المرة…؟‘
عندها، طرق أحدهم باب الغرفة.
لم تُجِب إيف، متظاهرة بعدم وجودها، إذ شعرت بالكسل. لكن نواه الغاضب قرع الباب بعنف.
“هاي! أعلم أنك هنا يا إيف إستيلا!”
“لقد قلت إن لا أحد هُنا!”
وما إن ردّت إيف، حتى فُتح الباب بقوة. نظر نواه إليها باشمئزاز وهي ممددة على السرير بشعر غير ممشّط ومظهر غير مرتب.
“تعيشين في نعيم، كما أرى.”
“إن جئت لتتشاجر، فأرجوك ارحل.”
قالت ذلك دون أن تنظر إليه، فردّ ساخطًا وكأنّه يتحدث إلى فتاة مدللة.
“سمعت من كالفينو أنكِ عدتِ إلى العاصمة برفقة القديسة، وها أنا أراك حقًا!”
“أتيت من كالفينو؟! من وراء بحر القارة؟!”
دهشت إيف. فـ كالفينو تقع خلف أكبر بحر مركزي في الإمبراطورية، ويستغرق الوصول إليها عبر السفن ثلاثة أيام على الأقل.
وإذ لم تمرّ سوى بضعة أيام منذ عودتها إلى القصر، فقد تأكدت من أنه رجع فور سماعه الخبر.
أخرج نواه صحيفة من جيبه وناولها لها.
[عودة إيف إستيلا إلى العاصمة! موجة ترحيب تجتاح أرجاء الإمبراطورية…]
فركت إيف عينيها غير مصدّقة ما قرأته.
“هاه؟ ما هذا بحق خالق السماء؟“
لكن حتى بعد إعادة النظر، لم يتغير شيء في مضمون الجريدة. بدا الأمر كأنها جريدة حقيقية فعلًا.
“من أين حصلت على هذه الصحيفة؟“
“إنها الصحيفة الإمبراطورية الشهيرة.”
“غريب… كنت أتوقع أن أُنعَت بالشريرة الشهيرة أو الفاجرة مثلاً…”
أمالت رأسها باستغراب.
أول ما فعلته بعد عودتها إلى القصر كان إلغاء اشتراكها في الصحف.
فقد خشيت أن تعكر الصحف مزاجها، لذا أبعدتها عن ناظريها عمدًا.
أومأ نواه برأسه موافقًا.
“الجميع يعلم أن سمعتك لم تكن حسنة في الإمبراطورية.”
يا له من معروف أن يُذكّرها بذلك!
“لكن الغريب أن الصحف أصبحت ودّية جدًا. حتى إن الناس يظنون أن عائلتنا قامت برشوة الصحف.”
تابع نواه، فضحكت إيف ساخرة، غير مصدقة هذه الفرضية السخيفة.
“ومن أين لنا المال لرشوة الصحيفة الإمبراطورية وبقية الصحف؟“
حتى صحف العاصمة كانت تتفاخر بأن بيدها سمعة النبلاء، ما جعل أنوفهم شامخة لا تُطاق.
“بالضبط، لا يتحركون إلا أمام رأس مال ضخم.”
“لكن، بالنظر إلى هذه الصحيفة، من الطبيعي أن يظن الناس ذلك.”
حتى إيف نفسها شكّت إن كانت تقرأ جريدة حقيقية. ما عادت تثق بها. فليس من المنطقي أن تُضحّي الصحف بمصداقيتها للدفاع عنها وحدها.
لابد من وجود ضغوطٍ خارجية. لكن من يا ترى مارس هذا الضغط؟
وبينما كانت تفكر بقلق، عادت لتقرأ الصحيفة بتمعن.
[القديسة يوري تصل إلى العاصمة للمشاركة في أول حفل ظهور رسمي لها…]
تنهدت بمجرد أن قرأت العنوان الثاني.
‘إذًا ستشارك فعلًا في حفل الظهور الرسمي.’
بما أن الحفل بدعوة من الإمبراطور، فمن الصعب رفض الحضور. ومع ذلك، أن يصل هذا الخبر للصحافة فمعناه أنهم قدّموا الطُعم للشياطين ليهاجموها.
‘ألا يوجد في المملكة المقدسة من يمنع هذا؟!’
لم تستطع استيعاب الأمر. ما الذي تفعله الكنيسة أساسًا؟
وبينما كانت تغوص في هذا التفكير، أشارت إيف إلى نواه.
“بما أنك هنا، أحضِر لي ورقةً وقلمًا.”
“وهل أنا خادمك؟“
“هيا، بسرعة!”
تذمر نواه لكنه أحضر لها الورقة والقلم في النهاية.
‘ربما يكون فضولًا زائدًا لا داعي له.’
لكنها لم تستطع تجاهل صورة يوري وهي تُصاب بجراح خطيرة في الحفل. كتبت رسالة مختصرة ثم قرعت الجرس.
دخلت الخادمة روز.
“هل يمكنك إيصال هذه الرسالة إلى دوقية لودفيغ؟“
“…؟ نعم، بالتأكيد.”
رغم أن الرسالة موجهة إلى عائلة قطعت علاقتها بها، لم تُبدِ روز استغرابها وغادرت حاملة الرسالة.
“مهلًا، ألم تقطعي علاقتك مع باليريان؟“
نظر إليها نواه باستغراب، لكنها قابلته بنظرة باردة، وكأنها تقول “أليس هذا أمرًا بديهيًا؟“
“نعم، صحيح. لكن لدي أمر مهم يجب قوله.”
“أمر يستحق أن تتجاهلي علاقتكما المنقطعة؟!”
تساءل نواه بريبة، ثم ازدادت شكوكه كأنه بدأ يدرك أن ثمة أمرًا خطيرًا يحدث.
“ما هو؟ قولي لي.”
بدأ يُلحّ، ما جعل إيف تنزعج، فهي تعلم أنه لن يكفّ حتى تعترف بشيء.
‘منذ متى يهتم بي أصلًا؟‘
بعد بلوغها، أصبح نواه يهتم بها أكثر من ذي قبل، وهذا ما جعل إيف تشعر بغرابة.
“بسبب هذه الجريدة.”
ناولته الجريدة، فتفحّصها دون أن يجد فيها ما يُثير الاستغراب.
“ما الغريب في الأمر؟“
“خبر وصول القديسة إلى العاصمة وصل حتى إليك، في كالفينو ما وراء البحر. أليس هذا غريبًا؟“
“لكن القديسة حديث الجميع، طبيعي أن يُكتب عنها…”
اعترض في البداية، لكنه صمت بعد أن بدأ يدرك ما تقصده.
“صحيح… هذا ليس أمرًا يجب الترويج له. بل كان من الواجب إخفاؤه، حفاظًا على أمنها.”
“…هل تعنين أنه قد يحدث شيء في مهرجان الصيف؟“
يقام في كل من الصيف والشتاء حفل كبير في القصر الإمبراطوري. وهذه المرة، ستحضر يوري كمشاركة في أول ظهور رسمي لها خلال مهرجان الصيف.
“غالبًا، نعم. لهذا أرسلت الرسالة إلى باليريان.”
“لتطلبين منه حماية يوري؟“
“أجل.”
تغيرت ملامح نواه، وفهمت إيف فورًا ما الذي يدور في ذهنه.
“هل أنتِ القديسة الحقيقية؟ وإلا فلمَ تهتمين بحماية شخص يمكنه قتلك؟“
“وماذا عنك؟ لو علمت أن شخصًا ما سيتعرض للأذى، هل كنت ستقف مكتوف اليدين؟“
رغم اعتراضها، لم تفهم لمَ بدا عليه الرفض. لطالما كان أول من يتدخل في أمور الآخرين، لكنها الآن تراه ينظر إليها وكأنها غريبة الأطوار.
لو كان الأمر متعلقًا بأي شخص آخر، لكان نواه أول من يلومها على عدم التدخل رغم معرفتها بالخطر.
“…مهما يكن، هذه ليست مشكلتي.”
من وجهة نظره، فهذه فرصة لحماية إيف دون أن يتورط. كانت سلامة أخته أهم عنده من أي شيء آخر، حتى من حياة قديسة.
لكنه لم يستطع قول ذلك صراحة. خشي إن نطقها أن تجيبه بسخرية “منذ متى وأنت تهتم لأمري؟ هل طلعت الشمس من مغربها؟” وسيرغب وقتها أن تنشق الأرض وتبلعه.
ابتلع كلماته وراح يحدق في إيف بعينين متشككتين.
“لا يكون أنك تعلقتِ بها خلال العيش معها؟“
وكان حدسه في محله.
أطبقت إيف شفتيها وغيّرت الموضوع متظاهرة بعدم الفهم.
كانت تدرك أن ما فعلته مجرد تدخل أحمق لا لزوم له.
‘لا بد أن السبب في هذا هو طبع عائلة إستيلا…’
ألقت باللوم على طبع عائلتها المتوارث.
فعلى مرّ الأجيال، تعرضت عائلة إستيلا مرارًا للانهيار بسبب تقديم الضمانات أو التورط في قضايا الآخرين، بل وحتى الخيانة.
وفي كل جيل، كانت العاطفة المفرطة سببًا في كارثة كادت تُفني العائلة.
‘ومع ذلك…’
لم تشأ إيف أن تترك في قلبها شعورًا ثقيلًا بالندم أو عدم الراحة.
* * *
كان باليريان يتدرّب في ساحة المبارزة بقصر الدوق عندما نظر إلى آرون الممدّد أمامه، يلهث بأنفاس متقطّعة ومتسارعـة. وجهه كان محمرًّا يغمره العرق من شدّة الإرهاق.
“هاه… هاه…”
كان وجود آرون في قصر الدوق لسبب بسيط: أراد أن يتعلّم فنون السيف، ولم يتردّد باليريان في السماح له بالإقامة في القصر لتحقيق تلك الرغبة.
فرِح آرون كثيرًا بكرم الضيافة من عائلة إيلا، وأعرب عن امتنانه لذلك.
لكن نوايا باليريان لم تكن نقية كما يبدو.
منذ أن بدأ آرون الإقامة هناك، أصبح يركض أكثر من ثلاثين دورة حول ساحة التدريب الواسعة بحجة التدريب، ويُفرض عليه الخضوع لتمارين قاسية.
في الحقيقة، كان باليريان يُفرغ غضبه فيه، أقرب ما يكون إلى التنفيس عن مشاعر مكبوتة.
ورغم ذلك، لم يهدأ غضبه بعد. لأنه في الواقع، كان هناك ما يرغب بالقيام به أكثر من أي شيء آخر…
أن يذهب فورًا إلى قصر الكونت إستيلّا ليرى وجه إيف.
لم يرها منذ عدة أيام، وهذا جعله قلقًا ومتوترًا بشدة.
أرسل خادمه المخلص كاليب ليتفقد أحوالها ويطمئن عليها، لكن حتى مع ذلك، كان يشعر بأن لا شيء يوازي الاطمئنان بعينيه هو.
في تلك اللحظة، اقترب رئيس الخدم من باليريان وقال:
“سيدي الشاب، وصلت رسالة.”
فردّ باليريان بلهجة حازمة:
“إن لم تكن عاجلة، فدعها لوقت لاحق.”
فهو يكره أن يُقاطع أثناء تدريبه، وكان واضحًا أنه لا يريد أن يقطع تركيزه.
ورئيس الخدم، الذي يعرفه منذ صغره، تردد قليلًا وأطبق شفتيه في حرج.
فقال باليريان:
“وخاصة إن كانت رسالة من المملكة المُقدسة، فاحتفظ بها حتى المساء.”
لأن أي رسالة قادمة من هناك لن تكون سوى تقارير تتعلق بالقديسة، وهو أمر لم يكن مهتمًا به الآن، بل ويشعر نحوه بالضيق.
كان هذا أمرًا غريبًا… ففي الماضي لم يكن يعرف حتى معنى أن يشعر بالضيق من شيء، أما الآن، فمنذ مغادرة إيف، بات يرى كل ما عداها عبئًا مزعجًا.
قال رئيس الخدم:
“الرسالة من قصر الكونت إستيلّا.”
ما إن سمع باليريان ذلك، حتى رمى بالسيف من يده وتقدّم إليه مسرعًا.
“من إستيلّا؟“
“ن–نعم، سيدي.”
ردّ رئيس الخدم وهو يبتسم ابتسامة متردّدة، وكأنه أصبح يرى بوضوح ما يشعر به سيده الشاب.
أخذ باليريان الرسالة بسرعة، ومباشرة مزّق الظرف ليفتحها ويقرأ محتواها.
———
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
قناتي تيليجرام للروايات :
@snowpunny
التعليقات لهذا الفصل " 51"