“واو! أأنتِ إيف إستيلّا التي تتناقلها الألسن؟“
لكن ردّة فعل آرون كانت بعيدة كل البعد عما توقّعَته إيف، ما جعلها ترتبك أكثر ولم تحرّك سوى جفنها في ذهول.
“كنت أشعر أن مظهركِ ليس عاديًّا منذ البداية…!”
كان آرون يحدّق بها بعينين لامعتين، وكأنه التقى بشخصية شهيرة طالما سمع عنها، ونظرته لم تكن سوى إعجاب نقي وصادق. فحوّلت إيف نظرها إلى النافذة بشيء من الحرج.
رغم أن هذا النوع من الاهتمام كان يزعجها، إلا أن ما طمأنها هو أنه لا يكرهها، فتنهّدت لا إراديًا بارتياح.
عندها تكلّم أحدهم وكأنه قرأ ما يدور في خاطرها:
“غريب… كنت أظن أن آرون سيكون أول من يكره إيف.”
لم تكن هي من نطق بتلك الكلمات، بل كان…
‘باليريان.’
نظرت إيف نحوه مندهشة. بدا هادئًا في كلماته، لكن في عينيه ما يوحي بعدم الرضا.
‘ما به؟‘
قطّبت إيف جبينها. كان يتصرف كما لو أنه يتمنى أن يكرهها آرون فعلاً.
رمقته بنظرة حادّة.
‘هل هذه هي غايته من جَرّي إلى العاصمة؟ ليجعلني موضع انتقاد أمام الجميع؟‘
شعرت إيف بغصة من التحدّي تعلو داخلها.
‘أتظن أنني سأنكسر بكلام الناس؟ مستحيل.’
نفخت بخفة من أنفها بتعبير ساخر.
“الناس يلتقون ويفترقون، هذه طبيعة الحياة.
هل تظن أنني سأكره إيف لمجرد ذلك؟ نحن أصدقاء مقربون.”
قال آرون كلامه بابتسامة مشرقة لا تشوبها شائبة، وهو ينظر إلى إيف.
تأثرت إيف بكلماته، وحدّقت فيه بدهشة.
لم تتوقع أن شخصًا مثل آرون، المعروف بولائه الشديد لإيلا، قد يقول أمرًا كهذا.
وفجأة، سُمِع صوت طحن أسنان قاسٍ.
التفتت إيف في توجّس نحو مصدر الصوت، لكن وجه باليريان بدا هادئًا كأن شيئًا لم يكن.
‘هل تخيّلت الأمر؟‘
أمالت رأسها في حيرة. في حين أن باليريان كان يشعر بغليان داخلي وضيقٍ شديدٍ في صدره. بدا له آرون وكأنه ثعبان ماكر يحاول كسب ودّ إيف.
كان يتمنى لو كرهها علنًا، بل كلما أظهر كراهيته لها، كان ذلك أفضل. صحيح أن ذلك سيؤذيها، لكنه على الأقل لن يحتمل رؤيتهما يقتربان من بعضهما.
كانت مشاعره أقرب إلى غيرة فجة وأنانية.
‘لو علمت إيف بما يدور بداخلي…’
لربما اشمأزت منه.
في الماضي، كان يخاف من فقدان صورتِه أمامها، ولهذا كان يبدو لطيفًا مع الجميع. لكن الآن تغيّر كل شيء.
كلما تخيّلها تضحك وتحادث غيره من الرجال، كان الدم يصعد إلى رأسه والغضب يتأجج في صدره.
تمنّى لو يُبعد أولئك الرجال إلى الأبد.
ومنذ إعلان خطبتها من زافيير في الحفل، فقد السيطرة على نفسه.
ولم تكن تلك المشاعر خفية تمامًا، فقد شعر بها شخصان
يوري وآرون.
آرون لم يُعلّق، واكتفى بالتحديق فيه بنظرة ذات مغزى، قبل أن يبتسم كعادته ابتسامة خفيفة. أما يوري، فشدّت قبضتها بصمت.
‘ريان يشعر بالغيرة على إيف.’
طوال الوقت الذي كانت فيه مقربة من آرون في القرية، لم يُعرها باليريان اهتمامًا يُذكر. لكنها الآن ترى بعينها كيف تضايقه أي كلمة تصدر منها أو من آرون.
كان هذا يشعرها بالعجز.
وبعد وقت قصير، توقفت العربة في الغابة لإراحة الخيول.
غادر باليريان العربة ليتفقّد المكان تحسبًا لأي طارئ، في حين قرر آرون النزول قليلًا ليتمدد ويحرّك جسده الذي بدأ يتيبّس.
حينها سألت يوري ببساطة:
“إيف أوني، كيف تنوين الاستعداد لحفل الظهور الأول؟“
أربكها السؤال.
“حفل… الظهور الأول؟“
“نعم، أليس من المفترض أن نشارك فيه سويًا؟“
“لا… في الواقع، لا أريد الحضور.”
فما الذي ستجنيه من حضور تلك المناسبات؟ لا شك أنهم سيتخذونها مادة دسمة للقيل والقال.
“أوني، لا يمكنكِ العيش في الظل إلى الأبد. إذا جئتِ معي، فلن يتجرأ أحد على انتقادك.”
قالت يوري ذلك بنبرة قلقة، بينما كانت تحدق في وجه إيف.
لكن وجه إيف كان قد تغيّر وهو يستعيد مشهدًا من الرواية الأصلية.
‘الظهور الأول للقديسة.’
في تلك المناسبة بالذات، وقع حادثٌ كبير. بمجرد وصول يوري إلى العاصمة، حاول أحد الشياطين المتخفين بين النبلاء اغتيالها.
وقع ذلك عندما ابتعد عنها باليريان لوهلة، واغتنم العدو الفرصة ليهاجمها.
تذكّرت إيف تلك الأحداث بوضوح تام. فتمتمت بحذر:
“أعتقد أنه من الأفضل ألا تذهبي أنتِ أيضًا. الوضع قد يكون خطرًا…”
“خطر؟ مع وجود ريان بجانبي، لا أرى ما يدعو للقلق.”
هزّت يوري رأسها، فترددت إيف ثم قالت:
“لكن الخطر الحقيقي يكمن في غفلتنا عنه… الحوادث تحدث فجأة.”
“تقصدين أن شيطانًا قد يهاجمني؟“
“نعم، فمثل هذه الحفلات تعجّ بالناس، مما يجعلها المكان الأمثل للشياطين ليتخفّوا بين الحاضرين.”
تصلبت ملامح يوري. كلمات إيف كانت منطقية.
‘الشياطين مخيفة…’
ترددت يوري، لكنها تذكّرت أن هذه ستكون أول مرة تحضر فيها حفلاً رسميًا إلى جانب باليريان.
لم تكن مستعدة للتخلي عن هذه الفرصة.
نظرت من النافذة إليه.
وفي اللحظة التي فعلت فيها، أمسكت رأسها فجأة بألم حاد.
“آه!”
“يوري! هل أنت بخير؟!”
سارعت إيف إليها بقلق. طوال الشهر الذي قضوه في القرية، كانت يوري تعاني من صداع متكرر. قالت إنه بدأ منذ أن فقدت ذاكرتها.
وهذا ما جعل قلب إيف يزداد قلقًا عليها.
‘لا بد أن فقدان الذكريات يشعرها بالخوف.’
أما هي، فعلى الأقل كانت محاطة بعائلتها.
أما يوري… فلم يكن حولها أحد.
ولهذا كانت تلتمس لها العذر حين تتعلّق بـ باليريان.
‘ألا يهتم بها أهل الكنيسة؟‘
سألتها ذات مرة، فأجابت بأنهم يعاملونها بلطف. لكن الأمر بدا غريبًا لإيف.
‘لماذا لم يمنعوها من البقاء في قرية نادين؟‘
لو كانت الكنيسة تهتم حقًّا، لأعادوها إلى المملكة المقدسة على الفور.
لكن فكرة أن تُترك يوري لتقيم في القرية لفترة طويلة فقط لأن باليريان موجود معها…
‘كأن المملكة المُقدسة تتعمّد دفع يوري للاعتماد عليه.’
حين كانت إيف تقرأ الرواية، لم تشعر بأي غرابة في الأمر. كانت تقرأ القصة دومًا من وجهة نظر يوري فقط.
لكن الآن، وهي تراقب الوضع من الخارج، بدا لها كل شيء مريبًا.
ولما رأت يوري لا تزال تتألم من صداعها، أسرعت تنادي على باليريان:
“يوري تتألم!”
فما إن سمع صوتها، حتى دخل العربة مسرعًا، وأمسك بيد يوري، وبدأ ينقل إليها طاقة إيلا.
كانت تلك الطاقة ضرورية كلما أصابها الصداع.
“ما هذا المرض الغريب بحق خالق السماء…”
تمتمت إيف بصوت منخفض، مصدومة من شدّة الألم الذي بدا حقيقيًا أكثر بكثير مما وصفته الرواية.
لكن الشيء المطمئن الوحيد هو أن نوبات الصداع باتت أقل من ذي قبل.
* * *
عند عودتها إلى قصر إستيلّا، نظر إليها والداها كما لو رأوا شبحًا.
كانا يستمتعان بوقتهما في الحديقة، يحتسيان الشاي معًا.
وعندما رأت آثار جلستهما، علّقت إيف بابتسامة باهتة:
“يبدو أنكما تقضيان وقتًا طيبًا، وهذا أمر مفرح.”
لم يكد الوالدان يتبادلان نظرات الدهشة، حتى اندفعا نحوها، والقلق بادٍ على ملامحهما، وكأنهما يخشون أن تكون قد تعرضت لأذى.
“إ–إيف! أهذا حلم أم حقيقة؟“
“ما الذي جاء بك إلى هنا؟! هل أساء إليك أحد؟!”
بدا عليهما الحيرة، لا يعلمان إن كان عليهما أن يضحكا من الفرح أم يبكيا من القلق.
فابتسمت إيف ورفعت كتفيها مطمئنة:
“أنا بخير، لا تقلقا.”
ثم جلست بهدوء إلى الطاولة في الحديقة، كأنها عادت إلى بيتها بعد نزهة عادية.
“يقولون إنك جئتي مع القديسة… فهل هذا يعني أن الشائعات صحيحة؟“
سألها والدها بوجه شاحب يرتجف.
كان قلبه أضعف من قلب والدتها، ولهذا بدا وكأنه سينهار في اللحظة التي تُقرّ فيها بالأمر.
فقررت ألا تتابع الحديث في ذلك الموضوع، وغيّرته إلى موضوع آخر:
“القديسة يوري وعدتني بأنها لن تفشي سري.”
“و… هل تصدقينها؟“
“وماذا بوسعي سوى أن أصدق؟ ما الخيار الآخر؟“
تنهدت إيف بعمق وهي ترد على نظرات والدها المشككة.
ظل يحدّق فيها بصمت، وقد بدا هذا الصمت ثقيلًا ومُريبًا في نظرها.
ثم نطق أخيرًا:
“لكن، بما أنك تكلفتِ عناء العودة للعاصمة… أليس هذا يعني أنك قررتِ أن تنتقمي لنا أخيرًا؟!”
“وليس في قلبي ذرة من تلك النية!”
ردّت إيف بقوة، مستنكرة تمامًا ما قاله والدها، وكأنها توقعت منه ذلك مسبقًا.
كيف ما زال يُفكّر بهذه الطريقة؟!
‘ولهذا لم ننجُ من دور الشخصيات الثانوية في الرواية!’
كم من مرة رأت الشخصيات الجانبية تسقط لأنها استهانت بقوة الأبطال؟
وها هو والدها يكرر ذات الخطأ أمام عينيها، ما جعلها تشعر بالغضب والقهر.
‘عائلتي تُجسّد شخصيات الأشرار الثانويين…!’
وهذا ما أثار غضبها أكثر، لأنهم يؤدّون هذا الدور بإتقان تام.
لو كانوا أشرارًا من الطراز الأول أو زعماء نهائيين لكان الأمر أهون.
لكنهم مجرد بيادق حمقاء في خلفية الرواية.
وهكذا، لم يكن أمامها إلا أن تتنهّد مرارًا بغيظ مكبوت.
وصلنا مئوية الـ50
22-يونيو-2025
25ذو.ح،1446هـ
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
قناتي تيليجرام للروايات :
@snowpunny
التعليقات لهذا الفصل " 50"