دخلت إيف إلى الغرفة بسرعة ملحوظة بعد أن أنهت ترتيب ما تبقّى من العمل.
كانت يوري قد أصرت على تولّي مهمة غسل الصحون مدعية أنها تجيد ذلك، فاختفى بذلك ما كان على إيف فعله.
‘إنها ألطف بكثير مما توقعت…’
الصورة التي كانت تحتفظ بها إيف في ذهنها عن يوري ككائن يجب تجنبه بدأت تتغير تدريجيًا، وبدت لها الآن أكثر ودًّا.
لم يكن لديها أخت في حياتها السابقة ولا في حياتها الحالية، لكنها شعرت أن الأخت لو كانت لها لكانت أشبه بيوري.
أغلقت إيف باب غرفتها تلقائيًا، لكنها ما لبثت أن توقفت فجأة.
كان الوقت بعد العشاء، في عمق الليل.
الغرفة كانت مظلمة تمامًا، بلا أي ضوء. لم يكن بالإمكان رؤية شيء، لكنّها شعرت بوضوح أن هناك من يشاركها الغرفة.
‘من هناك؟‘
لم تُسمَع أي حركة، لكن إيف، وقد أغمضت عينيها وركّزت، استطاعت أن تستشعر طاقة هائلة. طاقة تفوق قدراتها بمراحل، قوة ساحقة لا يمكنها مجاراتها أبدًا.
تسللت قطرات العرق البارد من جبينها.
تذكّرت على الفور التعاويذ التي نسيتها للحظة، وأشعلت بحذر شمعة كانت على الطاولة الجانبية.
فأضاءت الغرفة في لحظة.
“…باليريان؟! ماذا تفعل في غرفتي؟“
تفاجأت إيف حين رأت باليريان هناك. كانت قد لاحظت اختفاءه بعد العشاء وشعرت بشيء من الريبة، لكنها لم تتوقع أن يكون هنا بالضبط.
‘إذًا تلك الطاقة كانت من باليريان؟‘
لم يسبق لها أن ركّزت بهذا الشكل لتتبع قوته السحرية مباشرة.
‘لا يمكن أن أنتصر عليه أبداً.’
كانت واثقة أن كشف هويتها الحقيقية سيعني نهايتها على يده.
نادته مرة أخرى، لكنها لم تتلقَ أي رد.
“…….”
سكن الصمت، وزاد قلقها. اقتربت منه بخطوات حذرة. بدا وكأنه يحدق في شيء.
اقتربت أكثر لتعرف ما كان ينظر إليه، فتحركت شفتيها بأنين منخفض.
“…آه…”
أمام عينيه، كانت هناك حقيبة سفرها التي جهزتها فجرًا، وخريطة.
الخريطة كانت مرسومة عليها مسارات هروبها، ومكان وصولها، وحتى التاريخ المحدد لذلك.
خَطفت إيف الخريطة بسرعة من بين يديه.
“ما الذي يجعلك تدخل غرفة غيرك هكذا، دون إذن؟“
سارعت بتوبيخه قبل أن يتمكن من قول شيء، لكنها لم تتلقَ منه ردًا، مما زاد شعورها بالقلق. تمنت لو نطق بكلمة واحدة.
“إيف.”
نطق باسمها أخيرًا. انعكس ضوء الشمعة الخافت في عينيه الزرقاوين. أشاحت بنظرها لا إراديًا.
وفجأة، دوى صوت فتح الباب.
لكن إيف، المنغمسة في الموقف أمامها، لم تنتبه لذلك الصوت.
“هل ظننتِ أنك ستفلحين بالهرب بهذه الطريقة؟“
قالها وهو يمسك بذراعها، وارتسمت على وجهه ابتسامة ساخرة، وكأنه يتهمها بالجبن.
أطبقت قبضتها بشدة، لكنه استمر يراقبها بهدوء، ثم قال:
“أنت تعلمين… مهما حاولتِ، عائلة لودفيغ ستجدك في النهاية.”
“…أعلم.”
لم يكن هناك شيء تعجز عنه عائلة لودفيغ متى أرادت. وكانت إيف تدرك أنه حاول على طريقته أن يصبر عليها.
“ألن تفكّري في منحي قليلًا من الرحمة؟“
“إن كانت تلك الرحمة تعني غضّ الطرف عن هذا الأمر، فـلا.”
انحنى طرفا عينيه بابتسامة صغيرة، لكنّ زرقة عينيه كانت باردة كحدّ السكين.
“حتى لو كلّفني ذلك حياتي، لا يمكنني السماح لكِ بذلك.”
“……”
شعرت إيف وكأن الهواء انقطع عن رئتيها.
وفي تلك اللحظة، شعرت بحركة خلف ظهرها، فاستدارت سريعًا.
كان الباب قد فُتح دون أن تنتبه.
‘ألم أُغلقه قبل قليل…؟‘
لكنها لم تجد وقتًا للتفكير في الباب، إذ كانت منشغلة بما يجري أمامها.
نظرت إلى باليريان مجددًا، وقالت، وهي تعض شفتيها:
“لن أضطر لفعل ذلك بعد الآن.”
“…….؟“
بدت الدهشة في عينيه. فقالت له بثبات:
“لم يعد هناك داعٍ لذلك.”
على الأقل في الوقت الحالي.
كانت يوري قد وعدت بأنها لن تفضح الحقيقة، وقالت إنها ستبقى إلى جانبها لتمنحها الشعور بالثقة. ذلك كان السبب الشكلي فقط.
‘لكن يبدو أن لديها نوايا أخرى.’
وكان لا بد لإيف أن تكتشف ما هي. لكنها لم تكتشف بجانب يوري سوى حقيقة واحدة:
[إنها تحب باليريان.]
كانت نظراتها نحوه مليئة بالعاطفة، كنظرة فتاة مغرمة من النظرة الأولى.
‘إذًا، ربما تبقى فقط بدافع الغيرة.’
خفضت إيف بصرها.
إن كانت يوري تحب باليريان، فلتأخذه وترحل به عن حياتها… فقط لا تؤذها بهذه الطريقة.
“يا لك من أحمق… وتفعل أشياء لا طائل منها، يا باليريان.”
قالتها إيف بضعف. فاختفت ابتسامته.
كانت كلماتها صحيحة، لكنه شعر بالضيق حين سمعها منها مباشرة.
شدد من قبضته على ذراعها.
“صحيح، هذا ما أجيده أكثر من أي شيء آخر.”
نظرت إليه، وقد استقبل سخريتها بسخرية مماثلة. وشعرت فجأة بأنها تغرق في دوامة من الحيرة.
‘كيف وصلنا إلى هذه الحال؟‘
كل شيء بدا وكأنه انقلب رأسًا على عقب…
* * *
في تلك الأثناء، خرجت يوري على عجل من المنزل، ثم اختبأت خلف شجرة كبيرة بجانبه، تحاول التقاط أنفاسها.
كان قلبها يخفق بعنف لا يمكن السيطرة عليه.
وعلى عكس تسارع نبضات قلبها، كان عقلها يزداد برودة واتزانًا.
‘ما رأيته للتو… هل كان حلمًا؟‘
لم تستطع تصديق ما حدث للتو. بدا وكأنها علقت في كابوس غريب وغير واقعي.
“آه…!”
قرصت يوري خدّها محاولة أن توقظ نفسها، لكنها لم تجد إلا تأكيدًا إضافيًا أن ما جرى كان حقيقيًا.
“هل حقًا دخل ريان إلى غرفة إيف إستيلا؟“
لطالما ظنت أن إيف هي من تتشبث بـ باليريان، أما أن يحدث العكس… فلم يخطر لها على بال قط.
وحين عادت إلى ذاكرتها صورة باليريان وهو يمسك بذراع إيف، أمسكت رأسها بيديها بقوة، شاعرة وكأن أحدهم صفعها بهراوة. لم تكن قادرة على استيعاب ما يجري.
الأمور خرجت تمامًا عن مسارها.
“لا… هذا ليس صحيحًا… باليريان يجب أن لا يرى أحدًا سواي…”
كان الارتباك ينهشها من الداخل.
شعرت أن العالم لم يعد يدور وفق القواعد التي كانت تعرفها.
حين كانت في المملكة المُقدسة، لطالما أكد لها المؤمنون أن باليريان سيظل دائمًا بجانبها. لكنها الآن رأت بعينيها أنه ليس كذلك.
وفيما كانت يوري تمشي في أنحاء القرية دون وجهة، اصطدمت بشخصٍ ما وسقطت أرضًا.
“آه! هل أنتِ بخير؟“
تملّكها الخوف للحظة من هذا الغريب الذي ظهر وسط الظلام، لكنها سرعان ما شعرت بالاطمئنان حين مدّ لها يده بلطف.
“هاها، لم أكن أظن أنني سأصادف السيدة القديسة هنا! اسمي آرون.”
“آه…!”
“هل حدث شيء؟ كنتِ تركضين في هذا الوقت المتأخر من الليل، والطريق هنا وعر نوعًا ما، قد تتعثرين بسهولة.”
“لا، لا شيء على الإطلاق.”
أجابت يوري وهي تهز رأسها وتنكر الأمر بارتباك.
“آه، هل حصل شيء بينك وبين السيد إيلا؟“
“كيف عرفت؟ أوه!”
غطّت فمها بيدها وقد أفلتت منها الكلمات دون قصد. ابتسم آرون وهو يراها بهذا الحال.
للحظة، لمع بريق أحمر في عينيه تحت ضوء القمر، لكنه كان خاطفًا لدرجة أنها لم تلحظه.
“هل هو حب من طرف واحد؟“
“ليس حبًّا من طرف واحد! على الأقل… أعتقد ذلك.”
ومع تلاشي ثقتها في كلماتها، ابتسم آرون بنظرة يملؤها الفضول والاهتمام.
“إن لم تكوني واثقة من مشاعر السيد إيلا بعد، فهل تريدين مساعدتي؟“
“وكيف ستساعدني؟“
“أفضل طريقة لاختبار مشاعر أحدهم… هي إثارة غيرته.”
قالها آرون وهو يبتسم بهدوء.
“كأن نثير غيرته مثلًا؟“
بدت الفكرة معقولة نوعًا ما. ولاحظ آرون بريق الاهتمام يلمع في عيني يوري، فابتسم ابتسامة خفيفة ثم أخفاها.
“وكيف تنوي مساعدتي تحديدًا؟“
“الأمر كله راجع إليكِ، فأنتِ من يشعر بالجوع الآن… أليس كذلك، أيتها القديسة؟“
كان في كلماته نوع من التأثير العجيب، وكأن من يسمعه لا يملك سوى أن ينصاع له. حينها فقط بدأت يوري تدرك شيئًا غريبًا.
طوال الوقت، كانت تركز على القوة الهائلة المنبعثة من إيف وباليريان، ولم تلاحظ ذلك من قبل.
“لكن… لماذا أشعر بطاقة سحرية تصدر منك؟ هل أنت ساحر؟“
“لا، لست بساحر. فقط وُلدت وأنا أمتلك بعض الطاقة المقدسة.”
طاقة مقدسة…؟
أمالت يوري رأسها بتعجب. القوة التي بدت لها قبل قليل داكنة، صارت الآن بيضاء تمامًا. صحيح أن ولادة البشر بطاقة مقدسة أمر نادر، لكنه ليس مستحيلًا.
“حسنًا.”
وثقت يوري بكلام آرون وأمسكت بيده، فومضت في عينيه لمحة من نشوة مقلقة سرعان ما تلاشت.
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
قناتي تيليجرام للروايات :
@snowpunny
التعليقات لهذا الفصل " 48"