“يوري!”
كما كان متوقعًا، اندفع باليريان نحو يوري فور دخوله المنزل.
إيف وقفت في مكانها بصمت، كأنها أصبحت مجرد ستارة معلّقة لا فائدة منها، أو كأنها كيس قمح مرمي لا أحد يهتم له.
شعرت بأنها غريبة تمامًا في هذا الموقف، ويوري لم تفوّت الفرصة، فارتسم على طرف شفتيها ابتسامة ساخرة، خاطفة لدرجة أن لم يلاحظها أحد.
“لنعد بسرعة إلى المملكة المقدسة.”
قال باليريان بعجلة.
إن أصاب يوري مكروه خارج الكنيسة، فلن يكون هناك غضب أعظم من غضب الحاكم. وإذا سخط الحاكم على المملكة المقدسة لعجزها عن حماية قدّيستها، فلن تتردد الوحوش والشياطين في اجتياح العالم، ومعها ستنهار سلامة الإمبراطورية.
كان ذلك سببًا في حالة الفوضى التي عمّت البلاد بمجرد أن علمت أرييل باختفاء يوري.
“لا! لن أعود. سأبقى هنا.”
قالت يوري وهي تلتصق بإيف وكأنها تبحث عن حماية منها.
انعقد حاجبا باليريان. نظرته لإيف كانت واضحة: “ولِمَ أنتِ بجانبها؟“
إيف لم تطق تلك النظرة، وراودها شعور قوي بأنها تريد طردهما معًا من منزلها في هذه اللحظة. لكنها تذكّرت أنها هي من أرادت بقاء يوري بجانبها في الأساس. فرفّت برمشها وابتسمت بخفة.
“صحيح، يوري ستبقى هنا. آسفة يا باليريان.”
في داخلها، سخرت بمرارة:
‘يبدو أن الأمور لا تسير كما كنت تشتهي.’
وإذا بعيني باليريان الزرقاوين تزدادان عمقًا في نظرتهما إليهما.
“…إيف، ما الذي تفعله يوري هنا؟“
سؤال صدم إيف، فلم تكن تتوقع أن يوجَّه إليها. ولم يخطر ببالها أي عذر مناسب، لكن يوري سارعت بالرد نيابة عنها:
“لأن إيف من أشدّ معجبيني! كانت ترسل لي عدة رسائل يوميًا، فأردت أن أراها بنفسي.”
تبدّل تعبير وجه باليريان من الدهشة إلى الريبة، وحدّق بإيف نظرة تساؤل صامتة، وكأنّه يسألها إن كان هذا صحيحًا. فلم تجد جواب من أن تومئ برأسها.
“نعم، أنا من أشد معجبي القدّيسة.”
بما أن الأمر انكشف بهذا الشكل، فقد رأت أنه من الأفضل مسايرته تمامًا بدل إثارة شكوك لا داعي لها.
ثم أمسكت بذراع يوري واحتضنتها بذراعها أمام ناظريه.
نظر باليريان إليهما بنظرة معقدة، قبل أن يقول بتردد:
“لكن، يوري، أنا ملزم بحمايتك.”
“أجل، طبعًا! ريان فارسي، أليس كذلك؟“
قالت يوري بابتسامة مشرقة، امتلأت بالثقة التامة به.
شعرت إيف وكأنها تجلس على كرسي من المسامير.
لم يكن لقاؤها الأول بيوري هو الأكثر إزعاجًا، بل وجود باليريان أمامها الآن هو ما جعلها تشعر بعدم الارتياح.
‘ملزم بحمايتها…’
كلمات باليريان أثارت فيها شعورًا غريبًا، لم تستطع أن تُبعد ناظريها عنه، رغم ما اعتراها من قلق. رجَت في أعماقها أن تكون مخاوفها مجرد أوهام.
“إن كانت ستبقى هنا، فسأبقى معها.”
“…ماذا؟!”
كادت إيف تصرخ: “هل جُننت؟“
رجل واحد يهدّد حياتها ليل نهار يكفي، والآن اثنان يقرران البقاء بجانبها؟ فكرة خانقة.
“ريان! لا داعي لذلك! هناك هيليوت، وهناك الفرسان الآخرون أيضاً!”
قالت يوري بسرعة. كانت تحاول جاهدة أن تُبعد باليريان عن إيف، ولكن حين رأت تعبير الذهول على وجه إيف، خطرت لها فكرة.
‘لا… ربما هذه فرصة.’
إذا أظهرت مشاهد من المودة الظاهرة بينهما هي وباليريان، فربما تيأس إيف وتنسحب بنفسها.
وإذا حدث ذلك، فلن تعود هناك حاجة للقلق من تقارب بينه وبينها.
“مهارات الفرسان عند الباب لا بأس بها، لكن لا أطمئن إلا إن كنت أنا من يحرس يوري بنفسي.”
تظاهرت يوري بالاقتناع، وأومأت برأسها دون كلمة.
من ناحية إيف، كادت أن تصرخ من الغيظ.
‘هل هذا يحدث فعلاً؟‘
العيش مع القدّيسة يوري كان كافيًا ليصيبها بالصداع، والآن يُضاف إليها باليريان؟ بدأت تشك بأن الحاكم قد تخلّى عنها فعلًا.
‘الحاكم قد هجرني منذ زمن.’
فمجرد ولادتها كـ ساحرة منبوذة كان إعلانًا بأنها ليست من المختارين.
في الجهة المقابلة، كان أهل القرية قد دخلوا في أجواء احتفالٍ كبير.
“القديسة ستقيم في قريتنا؟!”
“يا للعجب! يا لها من بركة نزلت علينا فجأة!”
ليس غريبًا أن يشعروا بالفرح، فالقديسة اختارت قريتهم الصغيرة لتقضي فيها بعض الوقت وتتنعم بجمال الطبيعة.
“بمجرد أن يُشاع أن القديسة أقامت في قريتنا، سنبيع فواكهنا أسرع من أي وقت مضى!”
وراء ذلك الفرح الكبير… كان المال هو السبب.
من يظن أن سكان الأرياف لا يهتمون بالمال، فهو مخطئ. بل قد يكون حرصهم عليه أكبر.
سبب غياب الشباب عن القرية هو أن أبناءهم جميعًا هاجروا إلى العاصمة، حيث أصبحوا موظفين أو أصحاب متاجر ناجحين.
‘أغنياء متخفّون.’
أما من تبقّى في القرية، فهم كبار السن الذين قرروا قضاء بقية عمرهم بهدوء، يزرعون الأرض بدافع الحب، لا للحاجة. حتى لو خسروا المحصول، لا يتأثرون كثيرًا. لكن إن جلبت لهم الزراعة بعض المال أيضًا، فلا شك أن حبهم لها سيتضاعف.
“مرحبًا بكم!”
قالت يوري بابتسامة مشرقة، وهي تمدّ يدها لمصافحة سكان قرية نادين الذين تجمعوا حولها.
جميعهم صافحوها بسرور، متأثرين بلطافتها وتواضعها.
“يا إلهي، لم أكن أظن أنني سأرى إيلا والقديسة معًا في حياتي!”
“يا قدّيسة…”
قال آرون وهو مذهول تمامًا، وكأن روحه غادرت جسده. نظراته ليوري كانت غريبة؛ مبهورة إلى حدّ لا يُصدق.
‘هذه أول مرة أراه هكذا.’
نظراته المعلّقة بها كشفت كل شيء. لقد وقع في حبها من النظرة الأولى.
لاحظت إيف ذلك، ونظرت نحو يوري.
‘لا عجب أن يقع فيها أيّ أحد.’
مظهرها وحده يكفي لجعلها تبدو وكأنها ليست من هذا العالم.
شعرها وعيناها بلون داكن وعميق، ملامحها صغيرة ودقيقة لا تشبه أيًّا من أهل الإمبراطورية، ما منحها هالة غامضة وساحرة.
أي شخص يعرف عن وجود القديسة لن يجد صعوبة في تمييزها من بين الجميع.
سرحت إيف في تأملها لوهلة، ثم نظرت إلى من يقف بجوار يوري… باليريان. إن كانت يوري تبدو كحاكمة الليل، فـ باليريان يشبه شمسًا مجسّدة في هيئة رجل.
رغم التناقض بين هالتيهما، إلا أن بينهما انسجامًا يصعب تفسيره.
كانت تحدّق بهما بشرود، إلى أن التقت نظراتها بنظرات باليريان. ارتبكت فورًا وأشاحت بوجهها.
‘لماذا أشعر وكأنني ارتكبت ذنبًا؟‘
لم تفعل شيئًا يستحق التهرب… لكنها شعرت بالاضطراب، فاستدارت نحو المنزل.
لا ترغب برؤية هذين الاثنين معًا بعد الآن.
لكن باليريان ظلّ يحدّق في ظهرها المتراجع، وابتسامة خفيفة مرّت على شفتيه.
لقد لاحظ ارتباكها… بل وفهم سببه.
وشعر بشيء من السعادة، إذ بدا له أن قلب إيف ما زال يحمل له مكانًا.
تمنّى أن يركض إليها فورًا ويقول:
“بالنسبة لي… لا أحد يملأ قلبي سواكِ يا إيف.”
كان في داخله رغبة شديدة في تأكيد حبه لإيف، التي كانت تسيء فهم الموقف وتغار مما رأته بينه وبين يوري.
وفي الوقت نفسه، راودته فكرة وضيعة، رغبة خفية في استغلال هذا الوضع لمعرفة حقيقة مشاعرها تجاهه.
في صراع داخلي بين مشاعر متضاربة، مال قلب باليريان نحو الجانب الأضعف والأكثر أنانية. فقد بدأت كلماتها الجارحة التي ألقتها عليه في الماضي تتردد في ذاكرته وتؤجج مشاعره.
“ريان؟ فيما تفكر هكذا؟“
سألته يوري وهي تميل برأسها باستغراب.
لقد لاحظت منذ قليل أنه شارِد، يحدق في اتجاهٍ آخر بوجهٍ مغطى بالتفكير.
فتتبعت بعينيها ما كان ينظر إليه.
رأت إيف إستيلّا تبتعد شيئًا فشيئًا.
‘… لا يمكن… هل كان يراقبها؟‘
انتابت يوري موجة من الغيرة جعلتها تشد على شفتيها دون أن تدري، ورفعت رأسها بتحدٍّ خفي.
وما إن أدركت ذلك حتى فوجئت بنفسها، متسائلة كيف يمكن لأمرٍ بسيطٍ كهذا أن يهزّ مشاعرها.
‘لقد قضى معها خمس سنوات كخطيبة، فمن الطبيعي أن لا تُمحى من قلبه بهذه السهولة.’
بهذا التبرير الداخلي، ابتسمت يوري ببشاشة مصطنعة أمام من حولها.
* * *
في تلك الليلة.
عادت يوري إلى بيت إيف، وانفتحت شهيّتها فور أن وصلها عبق الطعام الشهي المنتشر في الأجواء.
“واو! ما هذه الرائحة الزكية؟“
“أنا لست بارعة في الطبخ، لذا أعددت شيئًا بسيطًا فقط. تفضلي بالدخول قبل أن يبرد.”
ثم التفتت إيف بنظراتها إلى باليريان الذي كان يقف خلف يوري.
‘وأنت، لا تقف هناك هكذا. تعال وكُل.’
فهم باليريان نظرتها الصامتة، فتبع يوري وجلس إلى الطاولة.
كانت يوري جائعة بشدّة، فأخذت تلتهم الطعام الذي أعدّته إيف على عجل.
“واو، إنه لذيذ للغاية!”
وكانت كلماتها نابعة من القلب. فالأطعمة التي اعتادت تناولها في الكنيسة كانت إما دهنية أكثر من اللازم أو باهتة بلا نكهة. أما هذا الطبق، فكان معتدل الحدة ومتوازن التوابل، تمامًا بما يوافق الذوق الكوري الأصيل.
“أنا أيضًا لا أطيق الطعام الدهني.”
قالت إيف بابتسامة خفيفة.
لكنها في داخلها كانت سعيدة، فمن النادر أن يُثني أحد على طعامها بهذا الشكل الصادق.
‘الجميع بالكاد تذوّقوه وقالوا إنه حار جدًا.’
فمعظم سكان القرية لم يعجبهم مذاق طعامها بعد أن جربوه.
وهكذا، انتهت وجبة العشاء في جو من الألفة والدفء. وعندما بدأت إيف تجمع الصحون، أسرعت يوري من مكانها.
“آه! دعيني أساعدك في التنظيف!”
أما باليريان، فقد بدا وكأنه سينهض ليساعد هو الآخر، لكنه غيّر رأيه فجأة.
وبدلًا من ذلك، تسلل بصمت إلى غرفة إيف مستغلًا الفرصة حين لم يكن أحد يراقبه. راوده شك بأنها تخفي شيئًا عنه، ولم يشأ أن يفوّت هذه الفرصة لكشفه.
– طَرق!
وبينما كان يفتش المكان بسرعة، لفت نظره شيء تحت السرير. سحب ما كان هناك، فظهر له حقيبة سفر.
بدت وكأنها أمتعة شخصية، ربما تلك التي جاءت بها إيف عند قدومها إلى هنا… ومع ذلك، ساوره شعور مريب.
– درررررغ.
فتح سحّاب الحقيبة، وما إن رأى محتوياتها حتى تصلب وجهه على الفور. لا شك أن هذه الحقيبة قد جُهزت حديثًا.
ثم نظر إلى الخريطة الموضوعة بجانبها.
خريطة مبيّنٌ فيها خط السير وموعد الوصول المتوقع.
عيناه برقتا ببرود عندما أدرك الحقيقة في لحظة.
إيف كانت تخطط للهرب… دون أن تُعلِمه.
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
قناتي تيليجرام للروايات :
@snowpunny
التعليقات لهذا الفصل " 47"