“باليريان، هل أنت بخير؟“
شعرت إيف بالارتباك حين لاحظت أن وجه باليريان بدا شاحبًا بطريقة مقلقة.
تملّكها القلق فجأة، تخوفت أن يكون قد أصابه مكروه.
‘لكن، لماذا أقلق عليه أساسًا؟‘
رغم أنها كانت تعلم في قرارة نفسها أنها ليست في موضع يسمح لها بالقلق عليه، فإن قلبها لم يكف عن الانشغال به.
كان واقفًا بلا حراك، شاحب الوجه، شفتاه مطبقتان تمامًا، ولم ينبس ببنت شفة، حتى بكلمة بسيطة يطمئن بها من حوله.
لا شك أن حالته ليست على ما يرام.
“أظن أنه من الأفضل أن يراك الحكيم.”
قالت ذلك وهي تمسك بذراعه وتقوده نحو منزل الحكيم.
وما إن وصلا، حتى سارعت إيف إلى طلب فحص عاجل لباليريان.
بدأ الحكيم العجوز بفحصه بعناية، يضع السماعة هنا وهناك، قبل أن يتحدث أخيرًا:
“يبدو أن الحرارة تتركز في القلب… من الواضح أنه يعاني من توتر شديد.”
خلع السماعة وقال ذلك بنبرة هادئة. بدا أنه لم يدرك أن الشخص الذي أمامه هو إيلا، بسبب ضعف بصره.
“هل حدث لك أمر ما مؤخرًا؟“
“كنت منشغل البال ببعض الأمور.”
أجاب باليريان بنبرة رتيبة.
أما إيف التي كانت تقف بجانبه، فقد شعرت بشيء من الضيق وتقلص حاجباها.
‘منشغل البال؟!’
كأن كلماته تشير إليها دون أن يذكرها، ما جعلها تنزعج كثيرًا.
أطلقت شهيقًا من أنفها، محاولة كبح انزعاجها.
‘وكأن لديه همومًا أكثر منّي!’
كادت أن ترد عليه بحدة، لكنها كبحت نفسها.
“وأين آرون؟“
“على الأرجح نائم الآن.”
أجاب الحكيم. فأومأت إيف برأسها وتوجهت إلى غرفة المرضى.
وفي اللحظة التي رأى فيها باليريان ذلك، لمعت عيناه الزرقاوان بنظرة باردة قاتمة.
كان مستاءً من أن آرون، الذي أرسل إيف لتأدية غرضٍ له، يتنعم الآن بقيلولة هادئة.
بل وأكثر من ذلك، شعر بغيرة مريرة تجاه إيف، التي نفذت الأمر بكل طواعية.
فما كان منه إلا أن نهض ولحق بها، وقد بدأ الفضول ينهش قلبه
‘من يكون ذلك الآرون؟ وكيف يبدو وجهه؟‘
في تلك الأثناء، دخلت إيف غرفة المرضى، لكنها لم تجد أحدًا.
“لا يُعقل أنه لم يستطع الانتظار…!”
أسرعت إلى الحكيم وسألته:
“آرون اختفى! هل رأيته؟ هل أخبرك إلى أين ذهب؟“
“آه، صحيح. قال إنه مضطر للخروج لقضاء أمر ما. ذاكرتي لم تعد كما كانت… هاهاها.”
ضحك الحكيم بمرح، لكن إيف كانت على وشك الانفجار من الغيظ.
‘أي طبيب يسمح لمريض مصاب في الرأس بالخروج هكذا؟!’
خرجت من المنزل وتحدثت إلى باليريان:
“فاليريان… أعتقد أنه خرج للبحث عنك.”
“عني؟“
رد باستغراب، وعيناه تقولان ‘هل تمزحين؟‘
وكانت إيف ترى رد فعله هذا طبيعيًا تمامًا.
‘مريض مصاب بارتجاج دماغي يركض فجأة ليرى شخصًا ما؟! ما هذا المنطق؟‘
“أعتقد أنه توجه إلى ذاك الجبل. يجب أن نبحث عنه معًا.”
“…ولماذا عليّ أن أفعل ذلك؟“
توقعت منه الموافقة تلقائيًا، لكن ردّه كان صادمًا.
حدّقت فيه بذهول، متسائلة إن كانت قد سمعت خطأً.
“لأنه مريض…”
“وهل علينا الاهتمام بتصرفات حمقاء ناتجة عن جهل؟“
قالها مبتسمًا بهدوء. كان يرى أنه من الممكن أن يعود آرون بنفسه دون تدخل، فلمَ العناء؟
لم يكن ينوي الذهاب. بل إن توتر إيف وقلقها على آرون زاد من رفضه.
“…جهل؟“
ردّت إيف بدهشة، لم تعتد هذا الجانب من باليريان.
فالشخص الذي تعرفه ما كان ليتردد لحظة في التحرك، ناهيك عن السخرية بهذا الشكل.
“هو خرج فقط لأنه يريد رؤيتك.”
“وما علاقتي بذلك؟“
قالها وهو يميل برأسه قليلًا، وكأنه لم يفهم ما تقول.
كانت نبرة صوته الهادئة وملامحه الوديعة متناسقة على نحو يثير الغيظ.
نظرت إليه إيف مذهولة، ثم أدارت وجهها عنه بسرعة.
“لا بأس. إن لم تُرد، لا تأتي. سأذهب وحدي.”
لكن باليريان أمسك بذراعها فورًا.
“إلى أين؟“
“إلى ذاك الجبل. الجبل الذي ‘تصادف‘ أن التقينا فيه.”
شددت على كلمة “تصادف“، فنظر إليها لثوانٍ، ثم تنهد.
“ذاك المكان خطير.”
“ولهذا السبب علينا أن نذهب. هو الآن هناك، وحده! باليريان، أنت مسؤول عن حماية شعب الإمبراطورية!”
قالت له ذلك، وهي لا تُصدق أن الشخص الذي طالما تمسك بالواجب والمسؤولية يقف مترددًا هكذا.
قرأ باليريان المعنى خلف نظراتها، لكنه كتم ما أراد قوله:
‘لأن كل تلك المسؤوليات تفقد معناها حين يتعلق الأمر بك…
منذ أن ظهرتِ في حياتي، لم يعد لشيء آخر قيمة.’
“…أجل، معك حق.”
لكنه لم يقل شيئًا. لأنه إن اعترف بذلك، فسيخسر مكانه في قلبها إلى الأبد.
وهكذا، انطلقوا إيف وباليريان للبحث عن آرون في الجبل.
* * *
في مساء ذلك اليوم، عادت يوري من القصر الإمبراطوري ودخلت غرفة القديسة.
“إذًا بعد شهرين سيكون حفل ظهورك الاول؟ لا بد أنك سعيدة جدًا يا سيدتي القديسة!”
قالت مرافقة يوري من الكهنة وهي تنقل لها بعض ما دار في القصر.
“أنا متوترة قليلاً، لكنني متحمسة أيضًا… من سيتولى مهمة الحماية يا ترى؟“
ردّت الكاهنة وكأن الجواب بديهي:
“السيد لودفيغ بالطبع! لا يمكنك الذهاب إلى مكان بعيد من دون إيلا!”
حين أجابت الكاهنة على الفور، شعرت يوري بنوع من الطمأنينة الغريبة. لكنها مع ذلك تحدثت بوجهٍ ينمّ عن القلق، لا عن الارتياح.
“لكن أليس ريان مشغولًا أيضًا بصفته من إيلا؟ لا أظن أنه من السهل عليه أن يهتم بي وحدي… أخشى أن أكون عبئًا عليه دون قصد… وهذا يقلقني.”
حين تحدّثت القديسة، التي كانت دومًا مرحة ومبتهجة، بذلك الوجه الحزين، ارتبكت الكاهنة قليلًا.
“أن تكوني عبئًا؟ من يجرؤ على قول ذلك؟!”
“فقط… كنت أتساءل إن كان بقاؤه بجانبي هو ما منعه من الذهاب في رحلاته المعتادة.”
أجابت يوري وقد علت وجهها نظرة خفيفة من الحزن. هزت الكاهنة رأسها بسرعة وقالت:
“هو في الأصل لا يسافر كثيرًا! هذه المرة كانت استثناءً فحسب! لذا لا تشغلي بالكِ بهذا الأمر يا سيدتي القديسة.”
“استثناء؟“
“نعم، على الأقل طوال السنوات التي عملت فيها ككاهن، لم يسبق أن رأيت أمرًا كهذا.”
كانت الكاهنة الواقفة أمامها قد دخلت الكنيسة منذ صغرها، وتعمل ككاهنة منذ قرابة سبع سنوات.
لكن كلامها لم يطمئن يوري، بل زاد من قلقها وانزعاجها.
‘إذًا لماذا كانت ردة فعل زافيير بذلك الشكل عندما أخبرته أن ليان ذهب إلى قرية نادين؟‘
استعادت يوري تفاصيل المحادثة التي دارت بينهما، وغمرها شعور غريب. إن فكّرت في نظرات زافيير حينها، فستبدو وكأنه كان يقول
هل ذهب إلى هناك حقًا؟
‘هل يمكن أن يكون يان ذهب إلى مكان خطر؟‘
سادها القلق فجأة، ولم تستطع النوم تلك الليلة.
* * *
لكن مخاوف إيف كانت في غير محلها. فقد كان آرون نائمًا أسفل الجبل بسلام.
عندما وجدوه أول مرة، أصيبوا بذعر ظانين أنه ميت.
لكن سرعان ما أدركوا أنه نام فور وصوله إلى أسفل الجبل، بعد أن أنهكه الصعود والنزول.
“هو من النوع اللي ينام في أي مكان على أي حال.”
قالت إيف وهي تحك رأسها بإحراج، موجّهة حديثها إلى باليريان الذي كان يحدّق في آرون بنظرات مستغربة.
‘لماذا دائمًا أنا من أشعر بالإحراج؟‘
ثم بلا تردد، رفعت قدمها وركلت مؤخرة آرون الممدد على العشب.
“استيقظ!”
“هاه! م–ماذا؟!”
“ما بك؟ ها هو إيلا الذي كنت تتشوق لرؤيته.”
“هاه! إ–إيلا!”
آرون، الذي لطالما كان يتحدث بحماس عن مصافحته والحصول على توقيعه، بدا وكأن لسانه انعقد من شدة التأثر عندما رأى ياليريان وجهاً لوجه. عندها بادره باليريان بالكلام أولاً:
“سررت بلقائك. هل أنت بخير؟“
ظهرت ابتسامة خفيفة على شفتيه.
“ش–شرفٌ لي أن ألتقي بك!”
نهض آرون على عجل وهو يحمرّ خجلًا من لقاء الشخصية التي لطالما أعجب بها.
أما إيف، فقد كانت تنظر إليه بنظرة فاترَة.
‘يا إلهي، إنه يبالغ… حقًا.’
رغم أن باليريان كان يبتسم بلطف من الخارج، إلا أن نظراته كانت تفحص آرون بدقة.
شعر بني وعينان بلون البندق، وانطباع عام بسيط. باستثناء بنيته الجسدية القوية الناتجة عن سنوات العمل في الزراعة، لم يكن في مظهره ما يلفت النظر.
‘إنه ليس من النوع الذي تميل إليه إيف.’
لم يكن قلقًا من أن تقع في حبه، لكن ما أزعجه هو أن الشاب الوحيد في هذه القرية، يقف أمامه الآن.
وقد أزعجه ذلك… أكثر مما توقّع.
“أ–أعني…”
كان آرون يتلعثم وقد احمر وجهه كمن يكاد ينفجر خجلاً، عندها تنهدت إيف والتفتت نحو باليريان قائلة:
“إنه من معجبيك، ويريد توقيعًا ومصافحة، إن أمكن.”
“آه، لا! لا يمكنني أن أُزعج إيلا وهو مشغول…”
قال ذلك بلسانه، لكن عينيه كانت تتوسلان من أجل التوقيع والمصافحة. ابتسمت إيف بسخرية مكتومة من الموقف.
أما باليريان، فبعد أن لاحظ ردّة فعل إيف، ابتسم بلطف وقال:
“الأمر بسيط ولن يأخذ وقتًا، لا مانع لدي.”
صرخ آرون، وقد زاد احمرار وجهه:
“إذًا… شكرًا جزيلًا!”
قالت إيف وهي تدير ظهرها:
“سأترككما لبعض الوقت… استمتعا بوقتكما الخاص.”
كانت ترغب في مغادرة المكان بأسرع ما يمكن.
‘لماذا أشعر أنا بالحرج بدلًا عنه؟‘
حين نظرت إلى آرون، شعرت بإحراج نيابة عنه. وضعت يدها على وجهها وسارت نحو الجدول القريب. كانت تشعر بنظرات تلاحقها من الخلف، لكنها تابعت طريقها دون أن تلتفت.
وفي تلك اللحظة، ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي باليريان.
فقد أدرك خلال وقت قصير أنه لا يوجد أي مشاعر رومانسية لدى إيف تجاه آرون، وعندها شعر بالارتياح التام.
ترجمة : سـنو
واتباد :
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 44"