سماء صافية وزرقاء في صباح مشرق.
كانت يوري على غير عادتها اليوم، أكثر انزعاجًا من الأمس بسبب غياب باليريان عن نزهة الصباح. بدا الأمر وكأنها باتت منسية تمامًا.
‘ربما أصبح من المتعب عليه أن يستيقظ كل صباح باكرًا فقط لرؤيتي.’
حاولت يوري أن تطيح بمشاعر الكآبة التي بدأت تثقل على قلبها.
لكن في فترة الظهيرة، وصلتها أنباء أربكتها وأثارت قلقها.
“آه، هل تقولين إن ريان سيغيب في مهمة لمدة أسبوع؟“
“نعم، ولهذا فإن نخبة من الفرسان سيتولون حراسة القديسة خلال هذه الفترة.”
قالت ذلك رئيسة الكهنة أرييل بابتسامة دافئة وعينين مطمئنتين.
أحزنت يوري فكرة أنها لن ترى ريان طوال الأسبوع، لكنها اكتفت بهز رأسها متفهمة.
“لا بأس، لا خيار أمامنا. أرجو أن تعتنوا بي جيدًا، يا رئيسة الكهنة أرييل.”
“شكرًا لتفهمك، يا قديسة.”
نظرت أرييل إلى يوري نظرة رضا وإعجاب حقيقية، ثم ابتسمت بلطف.
عادت يوري إلى غرفتها المخصصة للقديسة، ورغم أنها بدت وكأنها تقبلت الأمر بسهولة، فقد بدأ الحزن يتسلل إليها ما إن أُغلِق الباب خلفها.
‘لن أرى ريان لمدة أسبوع كامل…’
راودها شعور غير مريح، وكأن شيئًا ما يسير في الاتجاه الخاطئ.
‘آه… لماذا أشعر بالصداع مجددًا؟‘
منذ أن فقدت ذاكرتها عند قدومها إلى هذا العالم، بدأت تعاني من نوبات صداع نصفي. لم تكن متكررة، لكنها حين تأتي، تكون موجعة بشدة.
وصفتها رئيسة الكهنة بأنها أعراض “مباركة قدسية“.
“هل يوجد حقًا شيء كهذا؟“
رغم أن الفكرة بدت سخيفة، فإن جهلها بهذا العالم لم يترك لها مجالًا للاعتراض.
‘والآن أعاني من الصداع، وفوق ذلك لن أرى ريان… يا لي من مسكينة.’
اجتاحها حزن ثقيل مثل موج البحر، فتنهّدت بعمق وألقت بنفسها على السرير.
خارج الباب، كان يُسمع صوت حفيف الدروع، دليلٌ على أن الفرسان الجدد قد وصلوا لتولي الحراسة.
نظرت يوري بلا حماس نحو الباب وهمست:
“كنت أود مواساته إن سنحت لي الفرصة…”
تذكرت ما حدث مؤخرًا بين باليريان وتلك النبيلة، إيف إستيلا، فعبست وانكمشت شفتيها.
إيف إستيلا.
بمجرد أن خطرت ببالها، بدأ الغضب يتصاعد بداخلها.
‘ثعلبة! ثعلبة بكل معنى الكلمة!’
من الطبيعي أن يشعر البعض بأن ما يملكه الآخرون أفضل، ويبدو أن إيف أصبحت تطمع في ولي العهد أيضًا لمجرد أنها أصبحت مع باليريان.
خيانة خطيبٍ طيب القلب بتلك الطريقة؟ أمرٌ لا يُعقل في قاموس يوري.
ويبدو أن الندم قد تملّكها أخيرًا، فتركت منصب خطيبة ولي العهد واختفت عن الأنظار.
‘على الأقل لديها ذرة من خجل.’
فالمرء لا يستطيع أن يعيش مرتاح الضمير وهو غارق في الذنب.
–طرق، طرق.
مع صوت الطرق على الباب، تنهدت يوري ونهضت عن السرير بتثاقل. لا بد أن أحد الكهنة جاء ليبلغها بجدولها الرسمي كقديسة.
‘حتى التظاهر بأني قديسة أمر مرهق.’
سُخريتها من الوضع تنبع من أنها تُلقّب بالقديسة لمجرد أنها تستطيع رؤية طاقة الناس. كم كان ذلك سخيفًا.
بمجرد أن أذنت بالدخول، دخل أحد الكهنة الشباب ممن يعملون إلى جانب رئيسة الكهنة أرييل.
قال لها:
“كل الاستعدادات لدخول القصر الإمبراطوري قد اكتملت.”
“آه…”
أطلقت يوري تنهيدة خفيفة تذكّرًا بالموعد الذي نسيته تمامًا.
فمنذ قدومها إلى هذا العالم، لم يمض وقت طويل حتى جاءتها دعوة من البلاط الإمبراطوري يطلب فيها الإمبراطور مقابلتها.
بعد أن ارتدت فستانًا أبيض فاخرًا من تصميم إمبراطوري، صعدت إلى العربة المتوجهة إلى القصر.
كان الطريق من المعبد إلى القصر الإمبراطوري طويلًا ومملًا.
‘إمبراطور؟ في هذا الزمن؟‘
عقلها الحديث لم يستطع تقبل فكرة الملوك والأباطرة.
“لقد وصلنا، يا قديسة.”
قال السائق باحترام، ففتحت يوري الباب وهي تتثاءب. وإذ بها ترى رجلاً يمد يده ليساعدها على النزول.
“آه، شكرًا لك.”
لكنها شهقت ما إن رفعت نظرها ورأت وجهه.
‘وسيم للغاية!’
شعره الأسود يشبه شعرها، لكن بلون داكن ونقي كأنه يسحب البصر نحوه، وعيناه الخضراوان الصافيتان مثل ظل شجرة صيفية.
تقاسيم وجهه كأنها منحوتة بدقة، وجمال ألوانه بدا في غاية الانسجام.
“تشرفت بلقائك، يا قديسة يوري.”
قالها بانحناءة مهذبة.
تأملت يوري وجهه لوهلة بدهشة، ثم ردّت بخجل:
“مرحبًا… أيها السيد؟“
“أنا زافيير لو هيليوس.”
“آه، زافيير!”
ابتسمت يوري ابتسامة مشرقة وقالت:
“تشرفت بلقائك، سيد زافيير!”
ابتسم زافيير بدوره ابتسامة باهتة، وكأن في الأمر شيئًا غريبًا.
فلا يُسمح لأي كان أن يحمل اسم هيليوس إلا أفراد العائلة الإمبراطورية.
وقد سمع أن القديسة أمضت أكثر من شهر في هذا العالم، ومع ذلك يبدو أنها لا تعرف أبسط المعلومات عن الإمبراطورية.
وبينما كان يفكر في المحادثة المرتقبة بين الإمبراطور والقديسة، بدأ زافيير ينظر حوله. لكنه لاحظ غياب شخص كان يجب أن يكون هنا.
“أين باليريان؟“
“آه، هل تعرف ريان أيضًا؟“
‘ريان؟‘
حين نطقت باسم ريان بشكل طبيعي كأنه اسم دلال، لاحت لمعة غريبة في عيني زافيير.
كان من المفاجئ أن تكون علاقتهما قد تطورت إلى هذا الحد بهذه السرعة.
الجميع يشعر بتقارب فوري تجاه باليريان بسبب لطفه ودماثته، لكن الحقيقة أن تجاوز حدود المجاملة إلى علاقة حقيقية معه لم يكن أمرًا سهلاً أبدًا.
وحسب ما يعرفه“زافيير، لم يسبق لـباليريان أن استخدم ألقابًا حميمة مع أحد سوى مع إيف إستيلّا… إلى أن ظهرت هذه القديسة يوري.
‘سمعت أنه مكلّف بحمايتها شخصيًّا… أترى نشأت بينهما مشاعر خلال تلك الفترة؟‘
لقد كان سابقًا يتصرف وكأن الحياة لن تستمر دون آنسة إستيلّا، لكنه في النهاية بشر، ويبدو أنه غيّر قلبه.
ابتسم زافيير ساخرًا في داخله، متذكّرًا مشهد باليريان حين أشهر سيفه المقدّس في وجهه.
“في الواقع، ريان تم إرساله في مهمة تطهير من الشياطين لمدة أسبوع.”
“إلى أين بالضبط؟“
“أوه… ما اسم المكان؟ أظنه كان… قرية نادين؟ قيل لي إنها قرية صغيرة جدًا وفي منطقة نائية.”
“……قرية نادين؟ حقًا؟“
عندما ردّ زافيير بدهشة واضحة، شعرت يوري فجأة بشيء مريب، فسألته مباشرة:
“هل هناك ما يدعو للقلق؟“
ظلّ زافيير صامتًا للحظة، وكأنه تردّد، ثم قال بنبرة هادئة:
“لا… فقط تفاجأت لأنه مكان بعيد جدًا.”
لكن الحقيقة… كان هناك ما يستدعي القلق.
فـ إيف إستيلّا، خطيبة باليريان السابقة، كانت تقيم في تلك القرية بالضبط.
تذكّر زافيير آخر حوار دار بينه وبينها:
“صاحب السمو، رجاءً، لا تسمح لـ باليريان أن يعرف أين أعيش.”
كانت قد جاءت إلى القصر قبل مغادرتها، ظاهريًا لتقديم تحية الوداع، لكن في الحقيقة، كانت تخشى أن يعثر باليريان على مكانها، لذا توسّلت إليه ليحجب عنها عنوانها.
“إلى أين ستذهبين؟“
“إلى قرية نادين. لذا أرجوك، لا ترسل باليريان إلى تلك الجهة أبدًا.”
كانت نظراتها حاسمة وصلبة، حتى إن زافيير وافق دون أن يُراجع نفسه.
في نظره، كان الأمر قد انتهى، ولا حاجة لأن يشغل باله بها بعد الآن.
‘لكن… هل يُعقل أن يكون باليريان قد ذهب إلى نادين؟‘
رغم أنها فكرة يصعب تصديقها، إلا أنه لم يستطع نفي ذلك الإحساس القوي الذي انتابه.
‘هل من الممكن أنه ذهب ليراها مجددًا؟‘
أمر كهذا بدا سخيفًا حتى بالنسبة له.
لكن إن كان مجرد صدفة، فكيف تفسَّر حقيقة أنه طلب بنفسه أن يُرسل إلى مهمة خارجية لمدة أسبوع؟
هذا نفس الرجل الذي رفض سابقًا أي مهمة تبعده عن إيف ولو ليوم واحد، مبررًا ذلك بأنه لا يريد التقليل من وقت لقائهما.
وإن صحّ هذا الظن، فلا تفسير له سوى أن ياليريان قد فقد صوابه من أجلها.
ومع أنه بدا احتمالاً مجنونًا، إلا أن تذكّر مشهد سحب السيف المقدّس من غمده في نوبة من الغضب، جعله يشعر بأن كل شيء ممكن.
الموقف بدأ يزداد تعقيدًا في ذهنه.
في تلك اللحظة، قال زافيير بنبرة رزينة:
“لقد وصلنا.”
كانوا قد بلغوا صالة الاستقبال الخاصة بإمبراطور القصر. انحنت يوري بأدب شاكرة:
“شكرًا لإيصالي.”
“لا شكر على واجب.”
طرق زافيير الباب، ثم قال:
“مولاي، هل يمكننا الدخول؟“
وحين أُذن لهما بالدخول، فتح الباب وأشار إلى يوري لتتقدم أولًا بابتسامة هادئة.
دخلت يوري بتوتر، ثم تبعها زافيير. وما إن رأى الإمبراطور ابنه حتى ابتسم وقال:
“هاه، يبدو أنني لا أراك إلا في المناسبات الرسمية.”
“أعتذر يا مولاي. سأحاول أن أزورك أكثر.”
أما يوري، فقد فتحت عينيها بدهشة بالغة. كانت تظن أن زافيير مجرد موظف في القصر، لكنها الآن أدركت أنه ابن الإمبراطور!
تذكّرت أنها خاطبته قبل قليل قائلة السيد زافيير، فاشتعل وجهها خجلًا واحمرّت وجنتاها.
رؤية ردّة فعلها تلك جعلت زافيير يكتم ضحكة صغيرة كادت تفلت منه.
‘لو كانت إيف إستيلّا في هذا الموقف، لقالت بكل وقاحة: ‘آه، كنتَ ولي العهد إذًا؟ لمَ لم تقل شيئًا منذ البداية؟ أعذرني على جهلي بمكانتك، سموّك.’
كأن صدى صوت إيف المتعجرف عاد يتردد في أذنه.
وبينما كان يستغرق في تلك الذكرى، قدّم زافيير يوري إلى الإمبراطور قائلاً:
“مولاي، هذه هي القديسة يوري.”
ترجمة : سـنو
واتباد :
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 42"