عادت إيف إلى منزلها في قرية نادين واستلقت على السرير، ثم تتقلب تحت الغطاء دون أن يغمض لها جفن. ظلت كلمات باليريان تدور في رأسها بلا توقف.
‘هل طلب مني أن أعود إلى العاصمة؟‘
لم تستطع استيعاب نواياه، أو ما كان يخفيه خلف تلك الكلمات.
تجهمت وهي تحاول تحليل ما كان يدور في قلبه، ثم سحبت الغطاء حتى غطّى رأسها.
‘هذا جنون بحق…’
بغض النظر عن دوافعه، فقد وضعها في موقف بالغ الحرج. لكن الشيء الوحيد الذي بثّ فيها بعض الأمل، هو أنها رأت الاضطراب في عينيه عندما تحدثت. وهذا يعني على الأقل أنه لا يريد موتها فعلاً.
‘نعم… فهو ليس قاسيًا إلى هذا الحد.’
حتى وإن كانت خائنة تركته وغادرت، إلا أن إيف كانت واثقة أن باليريان، بطبيعته العطوفة، لا يمكن أن يتمنى موت أحد، وخصوصًا من أحبّها يومًا.
فالوحيدون الذين كان يعاملهم دون رحمة هم الشياطين وأتباعهم.
‘لهذا السبب بالتحديد… لا يجب أن أذهب إلى العاصمة.’
فالقديسة ستلبي قريبًا دعوة من العائلة الإمبراطورية لحضور حفل الظهور الرسمي للقديسة. وستقيم هناك لمدة شهر تقريبًا.
وإن التقت إيف خلال تلك الفترة… فلن يستغرق الأمر من يوري وقتًا طويلاً لتعرف من تكون.
‘عندها… موتي سيصبح أمرًا واقعًا.’
أن تُقتل على يد باليريان كان أسوأ ما قد يحدث لها. وربما لذلك بالذات قالت له تلك الكلمات القاسية.
‘لقد كانت نظراته… كمن تلقى جرحًا في قلبه.’
لكن إيف لم تستطع التوقف عن التفكير في ما قالته له. وتلك النظرة تحديدًا أبعدت النوم عن عينيها.
‘على أي حال، لن يظهر أمامي في الوقت القريب.’
تنهدت بعمق. لم تكن تخاف من اللوم أو أصابع الاتهام، لكنها كانت تخشى على سلامة عائلتها. ولهذا فإن الذهاب إلى العاصمة لم يكن خيارًا.
– “كووكوكوكوووو!”
صوت ديك يصيح بصخب من المنزل المقابل مع بزوغ الفجر. نظرت إيف من النافذة، وقد بدأ الضوء يتسلل إلى السماء.
‘آه… ها قد ضاع نوم هذا اليوم أيضًا.’
كان من المفترض أن تساعد اليوم في مزرعة الخوخ.
بدقة معتادة، ارتدت ملابس العمل، وجهّزت أدواتها، ثم فتحت الباب.
“…!”
اتسعت عيناها حين رأت رجلاً يقف أمام منزلها.
عيناها الحمراوان ارتجفتا بشدة.
“أنت… لماذا أنت هنا؟!”
لقد كان باليريان.
تحطّمت آمالها التي بنتها الليلة الماضية حول أنه لن يظهر قريبًا، وهو واقف الآن أمام بابها.
“صباح الخير، شارلوت.”
لوّح لها مبتسمًا بنبرة طبيعية، جعلتها عاجزة عن الردّ لوهلة.
تأخرت قليلًا قبل أن تفتح فمها.
“ما الذي تفعله هنا؟“
“هناك شياطين في المنطقة. لا يمكنني ترك المكان ببساطة.”
حقًا… هذا صحيح.
نظرت إليه إيف بوجه شاحب متيبس. وقد أدرك على الفور ما الذي يقلقها، فأجابها بنبرة هادئة:
“لا تقلقي. أنا هنا فقط من أجل مهمة عمل.”
أي إنه لن يفتح الحديث مجددًا بشأن ما دار بينهما أمس.
عندها لاحظت أن مقبض سيفه كان ملطخًا بدم أسود.
‘يبدو أنه كان يقاتل شياطين فعلًا.’
ومع أن نظراتها خفّت حدّتها قليلًا، فإن باليريان التقط تلك الإشارة بسرعة، وأدرك أنها بدأت تشعر بالاطمئنان.
“حسنًا، سأتابع طريقي. أنا في جولة تفتيش حول المنطقة.”
“…حسنًا.”
استدار وغادر، تاركًا إيف تتابعه بنظرات مشوشة. وبعد لحظة، خطرت لها فكرة مفاجئة:
‘ولكن… لماذا كان يقف أمام بيتي بالتحديد؟‘
ربما، كما قال، صادف أن مرّ من هنا خلال جولته. رغم أنها شعرت ببعض القلق، إلا أنها طردت تلك الأفكار وتابعت طريقها. كان هناك الكثير من العمل بانتظارها اليوم.
في الوقت ذاته، بينما تظاهر باليريان بأنه لا يملك أمرًا مهمًّا معها، توجه نحو الجبل. وهناك، لمح هيليوت يلوّح له بيده.
“سيدي القائد! نحن هنا!”
كان هيليوت يبدو في مزاج جيد بعد عودته من رحلة طويلة. أما باليريان، فقد عاد ذهنه إلى ما جرى في الليلة السابقة.
في الليلة الماضية، في مكتب رئيسة الكهنة.
ظلّت كلمات إيف تلاحقه طوال اليوم، حتى قرر أخيرًا الذهاب إليها.
قال باليريان لرئيسة الكهنة آرييل:
“أرغب في طلب مهمة خارجية لمدة شهر.”
“ما هذا الكلام المفاجئ؟“
صدمت أرييل من الطلب غير المتوقع. ليس فقط لأنه طلب مهمة، بل لأنه أراد أن يغيب شهرًا كاملًا!
كان طلبًا مفاجئًا وغير مبرر على الظاهر.
“تلقيت بلاغًا عن ظهور شياطين في منطقة لم أتمكن من مراقبتها مسبقًا.”
“يمكنك إرسال فرسان آخرين، أليس كذلك؟“
“لكنني أرغب في القضاء على الخطر الذي قد يهدد استقرار المملكة والإمبراطورية بنفسي.”
مبرّر مختصر وواضح وصارم. فالشياطين، التي تتكاثر كالصراصير، يجب القضاء عليها من الجذور. ولم يكن هناك أحد أفضل من باليريان لتنفيذ هذه المهمة.
أرييل، وهي تدرك تمامًا قدراته، ترددت قليلًا ثم سأله:
“هل أنت متأكد من هذه البلاغات؟“
“لقد تحققت بنفسي فجر أمس، وقتلت شيطانًا هناك.”
وأخرج من عباءته أسطوانة زجاجية شفافة، تحتوي على دم شيطاني بلون داكن.
“هذا عيّنة من الدم الذي استخلصته.”
لم يكن أحد ليتهمه بالكذب، لكن وجود دليل يعزز الثقة ويُسهّل الإجراءات.
ولهذا السبب، تكبّد عناء قتل شيطان آخر فقط ليجلب هذا الدم قبل أن يأتي إلى المكتب.
نظرت أرييل إليه بقلق، غارقة في التفكير:
‘همم… ماذا أفعل الآن؟‘
لو رفضت طلبه، فقد يظن البعض أن الكنيسة تهتم فقط بحماية القديسة، مما يثير نفور الناس.
وبما أن هيبة الكنيسة بدأت تتعافى مؤخرًا، فعليها تفادي حتى أبسط موجات الاستياء.
وأخيرًا قالت:
“لكن شهرًا كاملًا… هذا كثير. لا يمكننا ترك القديسة دون حماية كل هذه المدة. ماذا عن أسبوع؟ سيكون كافيًا ما لم تكن هناك شياطين من الرتبة العليا.”
“مفهوم.”
أومأ باليريان برأسه بعدما بدا عليه التردد للحظة.
في قرارة نفسه، لم يكن يتوقع أن يُسمح له بأخذ إجازة تتجاوز الشهر، طالما أنه يعمل حارسًا للقديسة. لذا، فإن طلب الإجازة لأسبوع واحد كان يفي بالغرض منذ البداية، وقد حقق بذلك مراده.
فقالت رئيسة الكهنة أرييل:
“حسنًا، سأرسل معك قوة دعم.”
لكن باليريان هزّ رأسه معترضًا:
“القرية صغيرة، وإن جاء عدد كبير من الناس فسيزعج السكان.”
لم تكن أرييل لتتراجع بسهولة، فأجابت بنبرة حازمة:
“لكن من الخطير أن تذهب وحدك. لا تنسَ ما حدث في المرة السابقة، وإن أُصبت مجددًا، فمن سيتحمّل مسؤولية حماية القديسة؟“
رأى باليريان أن الجدال لن ينفع، فتراجع خطوة واقترح:
“في هذه الحالة، سأصطحب معي هيليوت بيرينو.”
وهكذا، توجّه باليريان برفقة هيليوت إلى قرية نادين.
وبينما يرمقه، فكّر باليريان:
‘يجب أن أُسكت فمه أولًا.’
كان هيليوت قد سمع من باليريان أن إيف إستيلّا تعيش في هذه القرية، فلم يستطع إخفاء دهشته:
“آنسة إستيلّا… تعيش هنا؟ في هذا المكان؟“
أومأ باليريان برأسه. لم يصدق هيليوت ما يسمعه.
كيف لآنسة نبيلة، لطالما كانت لا تمسك إلا فنجان الشاي، أن تعيش في قرية ريفية نائية كهذه؟ لم يستوعب الصورة.
لاحظ باليريان أفكاره على الفور، وتحدث بصرامة:
“لا تذكر شيئًا عن هذا الأمر لأي أحد. وإن وصل هذا الخبر إلى أي مكان، فلن أرحمك.”
كانت لهجته قاطعة ونبرته مشؤومة، فأومأ هيليوت برأسه بسرعة وقد شعر بالخوف، لكنه في قرارة نفسه احترم هذا الموقف، إذ رآه تصرفًا يليق بقائد الفرسان. رغم أنها كانت امرأة خانته وهربت، إلا أنه ما زال حريصًا على ألّا تتأذى.
قال هيليوت بعد تردد:
“حسنًا… لكن، هل كنت تعرف أنها هنا؟“
“كلا. تلقيت بلاغًا عن وجود شيطان في المنطقة، وبينما كنت أتحقق من الأمر، صادفتها بالمصادفة.”
كان ذلك كذبًا صارخًا، لكنه قاله بثبات لا يوحي بغير الحقيقة، فانطلت الحيلة على هيليوت بسهولة.
“يا للعجب… أي صدفة هذه!”
لكن ملامح هيليوت لم تكن مطمئنة. بالنسبة له، كانت هذه المرأة قد سحقت إخلاص قائدهم المحبوب أمام الجميع وهربت، ولم يكن يرى فيها سوى من خانت الرجل الذي يوقّره كل أبناء الإمبراطورية.
ولو علم سكان الإمبراطورية أو أهل المملكة المُقدسة بذلك، لكانوا تبنّوا نفس رد فعله.
لكن فجأة، وقعت عينه على مشهد لم يكن يتوقعه، فأصابه الذهول.
أثناء تجوّله في القرية برفقة بوناد، ليتعرّف على تضاريسها، رأى امرأة تضع قطعة قماش خفيفة على رأسها كقبعة، وهي تقوم بتقطيع الحطب بكل حيوية.
“هيّا!”
صاحت وهي تضرب الحطب.
ابتسم بوناد من جانب وجهه وكأنه معتاد على المشهد، وقال:
“شارلوت أقوى فتاة في قريتنا وأكثرهنّ كفاءة في العمل. لقد أنقذت حياتها بنفسك، أليس كذلك؟ لا بدّ أنك تذكرتها، يا سيّد إيلا.”
ثم وجه نظراته نحو باليريان.
أما هيليوت، فظل مذهولًا ينظر إلى إيف وهي تعمل في الحقل، غير مصدّق لما يرى.
وفي تلك اللحظة، طار أحد جذوع الحطب من ضربتها ليسقط مباشرة عند قدميه.
الفصل 40 ( تاريخ 11-6-25 ، 14ذو.ح،1446هـ)
ترجمة : سنو
واتباد :
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 40"