ابتسم بزاوية فمه وهو يحدق بها وقال:
“يبدو أنكِ منزعجة جدًا من كوني أنقذت حياتكِ، أليس كذلك، إيف؟“
لقد التقط بسرعة تغير ملامحها، وأصاب كبد الحقيقة بكلماته، فشعرت إيف بوخزة داخلية. لكنها لم تؤكد ولم تنفِ، وكل ما أرادته الآن هو معرفة ما الذي يريده منها.
كانت تريد أن تعرف سريعًا ما هو الثمن الذي يطلبه لتوفيه وتنهي الأمر دون إطالة.
“أريد شيئًا واحدًا فقط.”
هو من بادر بالكلام بعدما طال صمتها.
“إن تعودي إلى العاصمة.”
“……ماذا؟“
صُدمت إيف من طلبه، إذ لم تتوقع هذا أبدًا. كانت تظن أنه سيطلب منها اعتذارًا صادقًا عن الأذى الذي تسببت به، لا أكثر. لكن هذا الطلب لم يخطر لها على بال.
“ه…هذا مستحيل.”
“لماذا؟ هل تخافين من أن يوجه لكِ الناس أصابع الاتهام؟ أم من تهديدات سخيفة؟“
قالها بنبرة هادئة لكن تحمل ما بين السطور.
“لا تقلقي، إيف.”
نظرت إليه إيف في حيرة، لم تفهم ما الذي يرمي إليه بكلامه.
“أولئك الذين كانوا يهددونك… لم يعودوا موجودين.”
“……اختفوا؟“
“نعم. ولهذا، يجب عليكِ أن تتحمّلي مسؤولية ما فعلتِه.”
تقلّصت حدقة عينيه الزرقاوين وهو يحدّق بها بنظرة باردة حادة، فتراجعت إيف في ارتباك.
“لو كنتِ فقط قد أخبرتني بالحقيقة منذ البداية، لحُلّ كل شيء بسهولة.”
كانت ترغب في سؤاله عمّا يقصده باختفاء المهددين، لكن هيبته التي غلّفت الجو لم تترك لها مجالًا للكلام.
“التهديدات التي تعرضتِ لها لا تبرر كل ما قمتِ به.”
فتحت فمها وكأنها سترد، لكنها عجزت عن قول شيء. لم يكن هناك ما يمكنها استخدامه للدفاع عن نفسها، فكل كلمة قالها كانت صحيحة.
لو أنها فقط تحدثت عن ما واجهته من ظلم منذ البداية… فبحسب ما تعرفه عن طباعه، لم يكن ليسكت عن الأمر.
كان يواجهها الآن بالحقيقة التي طالما حاولت دفنها: كل ما قالته له حينها لم يكن إلا أعذارًا ركيكة لتقطع علاقتها به.
‘لكنه يعرف… فلماذا إذًا؟‘
لم تفهم سبب إصراره عليها بهذا الشكل.
“……ما الذي جاء بك إلى هنا؟“
أصبحت تشكّ حتى في سبب وجوده بهذا المكان. هل لقاؤهما في الجبل كان صدفة حقًا؟ التفكير بذلك جعل قلبها يضيق وكأن ريحًا باردة تسللت إلى داخلها.
نظرت إليه بحذر وريبة.
“لا تفهميني خطأ. وصلتني تقارير عن ظهورات متفرقة للشيطان في هذه المنطقة، لذلك أتيت.”
“لكن لماذا أتيت وحدك؟“
“لأني كنت الوحيد من الحرس الملكي الذي كان لديه عمل قريب من هذا المكان.”
كان يعني أنه استغل وجوده بالجوار للقيام بدورية تفقدية. لم يكن هناك ما يمكن دحضه في تفسيره، لكنه بدا مريبًا على كل حال.
كان وكأنه يحاول تبرير كل شيء بالصدفة.
“فهمت…”
رغم أن الشك ما زال يساورها، تظاهرت إيف بالاقتناع. الجدال لم يكن يجدي الآن.
“لكن لا يمكنني قبول طلبك.”
قالتها بحزم. عندها اختفت الابتسامة من وجه باليريان.
وبملامح خلت من كل دفء، أصبح وجهه بارداً كالصقيع.
“إذًا تنوين البقاء هاربة كجبانة؟“
“……نعم. حتى لو قال الناس عني ذلك، لا يهم.”
“تقولين إنك لا تهتمين، لكنك ما زلتِ ترفضين العودة للعاصمة.”
قالها وهو يضغط على الكلمات، فعضّت إيف شفتيها غيظًا. لم تعد تفهم سبب تصرفه هذا.
هل حقًا فقط رؤيته لها مجددًا ما جعله مضطربًا إلى هذا الحد؟
لكن الحقيقة، أن الشخص الذي لم يفهم ما يحدث كان باليريان نفسه.
تألم حتى عضّ الجزء الداخلي من فمه حتى نزف، حين واجه رفضها القاطع.
“أترين أن العيش في هذا المكان المليء بالخطر أفضل من العودة؟“
لم يكن أي من الأعذار التي قالها لها صحيحًا. لا بل لم يكن أي شيء قاله حتى الآن حقيقيًا: لا تقارير عن ظهور شيطان، ولا مهمة رسمية في الجوار، ولا حتى كلامه عن ضرورة تحمّلها مسؤولية ما فعلته.
لقد كان غاضبًا منها، لأنها تركته. لكنه رغم ذلك، لم يحتمل رؤيتها تتعرض للأذى.
‘أظن أن داخل الكنيسة هناك من يتعاون مع الشيطان.’
كما قالت إيف، أطلق فاليريان قوة إيلا داخل الكنيسة ليتأكد من وجود الشيطان، لكنه لم يجد شيئًا. هذا يعني أن العدو قد يكون قد فرّ مبكرًا، أو أن المتعاون بشري خالص.
منذ ذلك الحين، لم ينم أكثر من ساعة واحدة في اليوم، وكان يأتي لرؤيتها في الفجر.
لم يكن يستطيع أن يطمئن إن لم يرها بعينيه.
وكانت نيته فقط أن يراقبها من بعيد، دون أن يتدخل. لكن ما حصل قبل قليل غيّر كل شيء.
لقد وجد آثار خمسة مخلوقات شيطانية على الأقل في الجبل. وهذا يعني أن هناك شيطانًا ما يختبئ في هذه القرية.
لم يعد هناك خيار آخر، كان عليه أن يأخذها إلى العاصمة مهما كلّف الأمر.
وهناك، لن يسمح لأي شخص أن يلومها أو يهينها.
وإن اقتضى الأمر، فسيغير الرأي العام نفسه لأجلها.
“لا تهربي من المسؤولية، يا إيف إستيلّا.”
حدّق بها بعينين حادتين، تخترقانها كسهم.
“ألستِ مدينة لي بثمن ما جعلتِني عليه؟“
تلك الكلمات التي تلت، عقدت لسان إيف، فلم تستطع الرد على الفور.
كل ما شعرت به هو ضربات قلبها المتسارعة، المتخبطة، وكأنها خارجة عن إيقاعها الطبيعي.
هل ينوي أن ينتقم منها بهذا الشكل؟
“لكن…”
تحركت شفتيها بالكاد. أرادت أن تقول: “أليس إلى جانبك يوري الآن؟“، لكنّها لم تستطع إخراج تلك الكلمات. بدلاً من ذلك، قالت:
“…ألن تعتبر ما أنا عليه الآن كافياً كعقاب؟“
رد بابتسامة باهتة:
“لا أظن… فأنتِ تبدين سعيدة للغاية، يا إيف.”
‘رغم أنني لم أكن بجوارك… سعيدة بشكل مؤلم.’
كتم كلماته الأخيرة في صدره، ونظر إليها بنظرة باردة وقاسية. وتحت وطأة نظرته الحادة، قبضت إيف على قبضتها بقوة.
‘أنا لم أختر هذه الحياة…’
أن تعيش دون أن ترى عائلتها حتى عندما تشتاق إليهم، هل يمكن أن يُعد ذلك حياة سعيدة؟ كانت فقط تبحث عن راحة البال، حتى لو كان الثمن هو الخوف المستمر من انكشاف سرها.
وهكذا، قررت أن تعيش بعيدًا عنهم، لكنها كانت تريد أن تطمئنهم بأنها بخير، أنها تعيش حياة هادئة وسليمة.
“نعم، كنت سعيدة.”
لو أنكرت تلك السعادة وذرفت دموعًا، ربما لكانت أثارت شفقته. وربما كان ليتراجع عن مطلبه حينها.
لكنها اختارت كرامتها على استعطافه.
كانت قد سئمت من إجبارها على الاختيار في أمور لا تريدها.
“أليست لديك القديسة الآن؟‘
كان مستقبل باليريان ويوري مضمونًا، محاطًا بالثناء، خالٍ من أي اضطهاد.
أما مستقبل إيف… فلا أحد يعلم إلى أين سيقودها.
وإذا انكشف أنها ساحرة… فقد أصبحت تلك الفكرة بحد ذاتها مملة ومُنهكة من كثرة التفكير فيها.
“نعم، كنت سعيدة… على الأقل حتى اللحظة التي قابلتك فيها هنا.”
قالتها بوضوح. ورغم أن وجه باليريان لم يتغير كثيرًا، إلا أن إيف رأت الاضطراب في عينيه.
ولما شعرت بارتجاف نظرته، تابعت هجمتها:
“إن أردت تحطيم سعادتي، فافعل. خذني معك إن شئت، يا باليريان.”
ومض في عينيها الحمراء ضوء حازم لا يلين.
“لكن فقط… إن كنت لا تبالي بموتي.”
قالتها من أعماق قلبها.
وفور أن أدرك باليريان صدق كلماتها، انهار هدوؤه تمامًا.
تقوّس قناعه الحازم وتكسّر كما لو كان زجاجًا، وبهت وجهه وهو يتمتم بشفاه مرتجفة:
“ما الذي تعنينه بذلك؟“
“الموت نهاية كل شيء، أليس كذلك؟ إذًا لا أرى ضرورة للشرح أكثر.”
أجابت بهدوء، وكأنها تتحدث عن أمر عابر. حيث لم يُجب باليريان، بل اكتفى بعضّ شفته.
فهو يعلم أكثر من أيّ أحد، أن إيف لا تُلقي بالكلمات جزافًا.
‘الآن سيرحل…’
هي لم تعتقد قط أنه يتمنّى لها الموت فعلاً.
وفي تلك اللحظة، قطع الصمت صوت طرقٍ على الباب.
“شارلوت! لا بد أنكِ جائعة، أحضرت لكِ الكثير من حساء لحم الخنزير المفضل لديكِ… آه، عذرًا، لم أعلم أن السيد الفارس موجود.”
كان كل من بينلي ومارغريت قد وصلا بالطعام، ونظرات الحرج تعلو وجهيهما وهما يتبادلان النظر بينها وبين باليريان. أما هو، فلم ينبس ببنت شفة، وغادر الغرفة متجاهلًا الجميع.
“أوه…”
تمتمت مارغريت، وقد احمر وجهها، وظنّت ما ليس في الحسبان، ثم أطلقت ضحكة خفيفة. أما إيف، فحدّقت بصمت إلى الطعام بين يديها.
لم يسبق لها أن شعرت بمثل هذا الاشمئزاز من رائحة الطعام.
“أعتذر… أشعر بإرهاق شديد. أظنني لا أستطيع تناول الطعام اليوم.”
لوّح الزوجان بيديهما، مطمئنين أنها ليست مضطرة، وأن الأمر لا يهمهم.
‘هل حدث شيء لشارلوت؟‘
لم يكن قلقهم من مشقّة إحضار الطعام، بل من أنّ شارلوت، المعروفة بشهيّتها الواسعة، ترفض الطعام فجأة. بدا لهم الأمر غير طبيعي، وشعروا بالقلق عليها.
* * *
في صباح متأخر، دخل باليريان العاصمة المقدّسة.
وقد كان وصوله المتأخر لافتًا، فأثار انتباه أهل الكنيسة.
وفي الوقت ذاته، كانت يوري منزعجة لعدم ذهابها إلى نزهة الصباح كعادتها.
“ريان عاد؟!”
بمجرّد سماعها خبر عودته، نهضت من سريرها، وبدّلت ثيابها على عجل.
كان قادمًا من بعيد، كما أخبرها الكهنة. لكنها شعرت على الفور أن شيئًا ما في مزاجه مختلف.
‘هل حدث له أمر سيء؟‘
كانت تنوي أن تعاتبه على تأخّره، لكنها ما إن رأت حاله، كتمت تلك الرغبة.
اقترب منها، وقال بصوت خافت:
“…أعتذر لتأخري.”
راقبته وهي تلاحظ الظلّ الذي خيّم على وجهه، لكنها تظاهرت بعدم المبالاة.
“لا بأس. ظننتُ أن مكروهًا قد أصابك، لكنك عدت بخير، وهذا يكفيني. على أي حال، هناك أمر أزعجني أكثر.”
“…..؟“
نظر إليها باستغراب، فقالت بنبرة طفولية:
“اتفقنا أن نتكلم ببساطة، دون تكلّف، أليس كذلك؟!”
“آه… آسف.”
رغم أن حديثها كان مازحًا، لم ترتسم على وجهه حتى ابتسامة صغيرة. بل بدا غارقًا في كآبته، لا أثر للفرح في قسماته.
شعرت يوري بشيء من الارتباك، لكنها لم تُظهره، وعرضت عليه نزهة قصيرة.
وبعد تردد، أومأ بالموافقة.
‘تابع لي تحركات القديسة دون أن تغفل عنها.’
ذلك كان الأمر الذي أصدرته له رئيسة الكهنة آرييل منذ أن ظهرت القديسة.
فكّر أنه ربما من الأفضل له أن ينشغل بذلك الأمر، لعلّه ينسى كلمات إيف.
“إن أردت تدمير سعادتي، فافعل. خذني معك إن شئت، يا باليريان… إن كنت لا تبالي بموتي.”
أغمض عينيه بقوة. وكلما تذكّر كلماتها، شعر أن قلبه يغوص في هوّة سحيقة.
أخيرًا فهم ما يعنيه أن يُطعن أحدهم في قلبه.
وبينما أفكاره تجول، تساءل فجأة عن السبب الحقيقي الذي جعلها تقول شيئًا كهذا.
‘لا يكون أولئك الشياطين…’
هل ما زالوا يضايقونها حتى الآن؟
بدا وكأن شرارة قاتلة مرّت في عينيه.
* * *
وبينما كانت الشمس تودّع الأفق، سألته يوري:
“ريان، حقًا… هل حدث شيء؟“
هزّ رأسه نافيًا، وأوصاها بليلة هانئة قبل أن يغادر غرفتها.
أما هي، فبقيت وحيدة، يتملكها شعور ثقيل وغامض.
فقد بدا عليه الغرابة طوال اليوم.
وبينما كانت تتجول وحدها في أروقة الكنيسة، سمعت بعض الفرسان يتحدثون:
“كل ليلة، يخرج القائد، لكن لا نعلم إلى أين يذهب.”
“الوقت متأخر جدًّا حتى على الدوريات، أليس كذلك؟“
“كلما عاد صباحًا، بدا عليه التعب الشديد.”
عندها، استوعبت يوري الأمر.
باليريان كان يخرج كل ليلة إلى مكان بعيد. ولكن إلى أين؟ ولماذا؟
وفي تلك الأثناء، كان باليريان قد وصل إلى غابة الوحوش.
تحت ضوء القمر، سحب سيفه المقدّس، وعيناه تلمعان بوميض أزرق بارد.
قرر أن يقتل كل شيطان أو وحش يظهر أمامه هذه الليلة.
كانت أقرب ما تكون إلى نوبة غضب متفجرة.
وسرعان ما بدأ صدى صرخات الوحوش وضجيج المعركة يتردّد في أرجاء الغابة مع أولى ساعات الفجر.
ترجمة : سـنو
واتباد :
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 39"