بمجرد أن خطرت تلك الرسالة في بالها، زاد اضطراب قلبها.
‘في النهاية، نجا في الرواية الأصلية على أي حال.’
مهما بلغت خطورة الموقف، فـ باليريان كان بطل الرواية. في النهاية الشيطان الذي هاجم قاعة الطقوس تم القضاء عليه على يد باليريان نفسه.
أما الجهة التي كانت تقف خلف ذلك الشيطان، فلم يُكشف عنها في الرواية.
ذلك لأن النشر توقف في منتصف القصة تقريبًا.
‘لماذا توقفت عن الكتابة، أيها الكاتب اللعين…؟‘
لذلك لم تعُد قادرة على تحديد ما إذا كانت هذه الحادثة مرتبطة بها أم لا.
لاحظ زافيير التغيّر في ملامحها، فضاقت عيناه قليلًا.
“هل تنوين حقًا الذهاب إلى مملكة القداسة؟“
“كلا… لو ذهبتُ إلى هناك، فهذا يعني أنني فقدتُ صوابي.”
لكن… ذلك ما حدث بالضبط.
في اليوم التالي، كانت إيف قد صعدت إلى العربة المتجهة إلى مملكة المُقدسة، وهي تمسك رأسها بيدها.
‘أنا مجنونة فعلًا.’
في داخل العربة، جلست إيف وحدها، تغطي رأسها بالقلنسوة.
لم تخبر لا ولي العهد، ولا حتى عائلتها.
لكنها، وبعد طول تفكير طوال الليل، لم تستطع تجاهل القلق الذي ينهشها بشأن باليريان، ولم تغفُ حتى لحظة.
لو أنها علمت بأمر حفل التنصيب مبكرًا، لكانت أرسلت رسالة مجهولة تُحذّر فيها، لكنها لم تعلم إلا قبل يوم، فلم يكن هناك وقت لذلك.
‘هل من أرسل الرسالة هو نفسه من يخطط لمهاجمة الحفل؟‘
تمنّت من أعماق قلبها أن تكون تلك الرسالة مجرد مزحة سخيفة من شخص سيئ، لكن… ماذا لو كانت نابعة من نية حقيقية؟
‘يجب أن أوقفه بأي وسيلة.’
إن كان من فعل ذلك بدافع الولاء لها، فقد يكون من الممكن إيقافه بكلمة واحدة منها فقط.
‘وإن لم يُجْدِ ذلك…’
فستضطر إلى السيطرة عليه بالقوة.
راحت تتذكر دروس السحر التي حاولت تعلُّمها بمفردها على عجل، عند الفجر بعد ليلة بلا نوم.
في حفل البلوغ، لم تكن مشغولة بفكرة قدرتها على استخدام السحر، بقدر ما كانت مشغولة برعب الموت، فلم يخطر لها أبدًا أن تتعلمه.
حتى ذلك الحين، لم تصدق تمامًا أنها ساحرة، لكن بعد عشر دقائق فقط من قراءة كتاب السحر، تمكّنت من تكوين قطرة ماء صغيرة فوق كفها. لم تستطع عندها إنكار الحقيقة.
‘يبدو أنني أملك موهبة.’
لم تكن بقية أنواع السحر سهلة بالنسبة لها، لكن السحر المتعلق بالماء والجليد كان يسيرًا على نحو غريب.
بعد ساعة من التدريب، استطاعت أن تملأ بئرًا جافًا في الحديقة الخلفية باستخدام السحر.
وحين بدأت تتقدّم بسرعة في تعلُّمها، رغم أنها لم تكن من محبي الدراسة، بدأ السحر يثير اهتمامها.
‘لكن، هل أنا أفعل الأمر على نحو صحيح…؟‘
لم يكن لديها أي أحد تقارِن نفسها به، فكل السحرة قد أُعدموا قبل مئة عام.
ومع ذلك، كانت قدرتها السحرية الآن ليست سيئة أبدًا.
‘بهذه القوة، أستطيع حماية باليريان.’
لأول مرة، شعرت أن قوتها قد تكون ذات فائدة.
‘أيتها الشياطين، تجرأوا واظهروا أمامي فقط!’
قبيل انطلاقها، قضت إيف ليلتها تُدرّب نفسها على السحر، وقد عزمت أمرها وهي تشد قبضتها بقوة.
ما إن دخلت المملكة المُقدسة(الكنيسة الرئيسية)، حتى ظهرت قاعة الطقوس من نافذة العربة. وما إن اقتربت القلعة البيضاء منها، حتى بدأ التوتر يتصاعد في داخلها.
كانت الطرقات تغصّ بالحشود المتدفقة لمشاهدة حفل التنصيب.
‘كم هو مدهش أن يحضر كل هؤلاء لمجرد حفل تنصيب…’
شعرت تمامًا بشعبية باليريان الجارفة في الإمبراطورية.
لولا أنها أصبحت خطيبة ولي العهد، لكانت تُرجِمَت بالحجارة في الشوارع وتعرّضت لمحاكمة شعبية.
وكان مجرد تخيّل المشهد يجعل جسدها يقشعرّ.
‘أحد هؤلاء هو الشيطان، أليس كذلك؟‘
على عكس الوحوش، يمكن للشياطين أن يتخذوا هيئة بشر، لذا كان من الصعب تصديق أن شيطانًا ما قد تسلل وسط هذا الحشد السلمي.
بل هو شيطان من الدرجة العليا، تابعٌ لواحدٍ من أعتى الشياطين.
والشيطانين من الدرجة العُليا قادرة على تغيير صفات طاقتها السحرية، حتى تتمكّن من التظاهر بكونها إنسانًا أمام القديسات.
لأن التمويه والخداع هما السمتان المميزتان للشياطين من الدرجة العليا.
‘لو كانت لدي تلك القدرة، لما كنت بحاجة إلى الاختباء هكذا…’
تنهدت إيف تنهيدة عميقة.
وقبل أن تنزل من العربة، شدّت قلنسوتها أكثر على رأسها، ثم نزلت تتلفّت بحذر، قبل أن تتسلل إلى طريق فرعي.
‘لا يمكنني الدخول من البوابة الرئيسية.’
كان يتم التحقق من الهوية هناك، ولا يُسمح إلا لمن يتم التأكد من هويته بدخول المكان. وهذا يعني أنها ستضطر إلى نزع قلنسوتها، وهو أمر لا يمكنها فعله.
فلا أحد هناك لا يعرف وجهها.
‘…قالوا إن هناك فتحة صغيرة في هذا المكان تقريبًا.’
ذات مرة، كانت قد تسللت عبر فتحة سرّية تؤدي إلى قاعة الطقوس برفقة باليريان، بعد أن تأخرت خارجًا وخافت أن تعاقبها رئيسة الكهنة أرييل.
‘كان وقتًا ممتعًا حقًا.’
لكن، في النهاية، تم القبض عليهما وتعرضت لعقوبة قاسية. وكان من الطريف رؤية باليريان، الذي اعتاد أن يبتسم بوجه مشرق، وهو يعبس.
في تلك اللحظة، ارتسمت صورة وجهه البارد في ذهنها بوضوح، ما جعل قلبها يضطرب مجددًا.
تنهدت بعمق، ثم ركزت على مهمتها من جديد.
‘وجدتُها!’
بعد فترة من البحث والتجوال، عثرت على حجر منتفخ تغطيه الطحالب.
ما إن أزاحته، حتى كُشف لها عن فتحة يمكن لامرأة بالغة أن تزحف من خلالها.
فدلفت إليها خلسة.
‘هذه هي قاعة الصلاة، إذن.’
شعرت وكأنها لم تطأ هذا المكان منذ زمن طويل. النوافذ كانت مفتوحة، والهواء العليل ينساب إلى الداخل مصحوبًا ببرودة خفيفة.
كان المكان مألوفًا، لكنه بدا غريبًا في الوقت ذاته.
وكما توقعت، كانت القاعة خالية من الناس.
فالكل كان مشغولًا بالتحضير لحفل التنصيب.
شدّت قلنسوتها على رأسها أكثر، ثم خرجت خفية من قاعة الصلاة، وتوجهت نحو القاعة الكبرى حيث يُقام الحفل.
وبما أن المكان كان مكتظًا بالناس، لم يشتبه أحد بها رغم ارتدائها للقلنسوة.
“هل أنتِ بخير، أختي؟“
ربما لأن جسدها بدا متوترًا، بادر بعض الواقفين حولها بالسؤال بقلق.
“…أنا بخير.”
أجابت إيف بصوت منخفض قليلًا عن المعتاد، وبنبرة غريبة بعض الشيء.
“إن كنتِ تشعرين بالبرد، فخذي هذه البطانية.”
قدّمت لها امرأة بابتسامة لطيفة البطانية التي كانت تحملها بين يديها.
“شكرًا جزيلاً.”
انحنت إيف وهي تأخذ البطانية. لم ترغب في رفضها حتى لا تُلحّ المرأة عليها أكثر، لذا قبلتها بهدوء.
راقبتها المرأة بإعجاب وقالت:
“أنتِ هنا رغم حالتك الصحية لتشاهدي طقس التعميد؟ كم هو نبيل ومثير للإعجاب.”
“من الطبيعي أن يحضر كل من ينتمي إلى مملكة المُقدسة هذا الحدث…”
ردّت إيف باقتضاب، كي لا تثير أي شكوك.
“نادرًا ما نجد إخلاصًا كهذا بين الشباب. حافظي على هذا القلب الطاهر واعتني به جيدًا.”
كانت المرأة في عمر مقارب لإيف على ما يبدو.
اكتفت إيف بالصمت، فهي لم ترغب بإطالة الحديث حتى لا يثير ذلك ريبة أحد.
وفجأة، دوى هتاف الجماهير يجلجل في الأرجاء.
“وااااه!!”
بحدسها، عرفت إيف أن باليريان قد ظهر. فتلفّتت بسرعة تبحث بعينيها في المكان.
‘الشيطان بينهم…’
لكنها لم تستطع تمييزه. فمظهر الشياطين لا يختلف عن البشر بشيء.
‘ربما إن اقتربت منه أكثر…’
لذا بدأت تشق طريقها بين الحشود لتقترب أكثر من المنصة.
‘يا آنسة!’
نادتها المرأة التي كانت تحدثها من قبل، وقد لحقت بها. كانت مزعجة وإيف تحتاج لأن تكون بالقرب من باليريان لتحميه، لا أن تُعيقها هذه المرأة.
من دون وعي، رفعت إيف رأسها قليلاً، وانكشف جزء من وجهها وهي تنظر إلى المرأة.
‘آه…’
شهقت بصمت. كان وجه المرأة، الذي رأته عن قرب لأول مرة، جميلاً بشكل يثير القشعريرة.
شعر أشقر متموّج بلون الذهب، عينان أرجوانيتان متألقتان، وشامة دمعة عند زاوية العين، وشفاه حمراء كأنها قد شُربت بدماء الورد.
لو ابتسمت فقط، لأسرت قلب أيّ شخص مهما كان.
مدّت يدًا بيضاء كالثلج، شفافة كأنها من بلّور، وأمسكت بكتف إيف بقلق:
“لا يمكنكِ الاندفاع بهذه الطريقة، ماذا لو أصبتِ بأذى؟“
“أردت فقط أن أرى اللورد لودفيغ عن قرب…”
ردّت إيف بتوتر، متظاهرة بأنها إحدى معجبات باليريان. كانت في موقف محرج؛ فقد كانت تنوي أن تتسلل بصمت وتجد الشيطان دون أن تجذب الأنظار.
‘أين يختبئ ذلك الشيطان؟‘
فكرت في أن تُخبر باليريان بوجوده.
لكنها ترددت.
العلاقة بينهما لم تعد كما كانت، بل أصبحت محطّمة بالكامل.
‘هل سيكون من الصواب أن أُخبره بوجود الشيطان، أنا من خانت ثقته؟‘
وإن سألها عن مصدر المعلومة… فهل ستتمكن من الإجابة؟
رفعت بصرها ببطء نحو باليريان الواقف على المنصة.
‘آه…’
تحت أشعة الشمس كان يشع نورًا ووقارًا. بدا وكأنه بطل هذا العالم.
كان جاثيًا بجوار البابا، وقد وضع السيف المقدّس على ركبتيه، ينتظر التعميد بوقار.
بلا وعي، فغرت إيف فمها وشرعت تحدّق به، مأخوذة بجلال هيئته.
‘لا… يجب أن أُخبره.’
حين رأته، ازداد يقينها. لم تكن تحتمل رؤيته يتأذى.
تذكرت تلك الليلة التي سقط فيها من على جواده في المطر، عندما بلغها أنه أُصيب أثناء حملة ضد الشياطين. لم تستطع النوم وقتها.
أرادت زيارته، لكن عقلها كبَت مشاعرها وأجبرها على التراجع.
‘أتظاهر بالجهل بينما أعلم أنه سيتأذى؟‘
كان ذلك مستحيلاً… خصوصًا إن كان الأمر يتعلق بـ باليريان.
اقتربت خطوة كبيرة نحو المنصة، لكنها توقفت حين تذكّرت ما قاله لها منذ أيام:
“خُنتُ من وثقتُ به أكثر من أي أحد… كيف لي أن أثق بشيء مجددًا؟“
حين عادت كلماته إلى ذاكرتها، شعرت بوخزة في قلبها.
“هل أنتِ بخير يا إيف؟“
سألتها المرأة الشقراء، وقد لاحظت أنها تجمّدت في مكانها.
“نعم… أنا بخير.”
هزّت إيف رأسها نافية، ثم توقفت فجأة.
“لحظة، كيف… كيف تعرفين اسمي؟“
ابتسمت المرأة معتذرة، وقالت بلطف.
“آسفة لأنني لم أعرّف بنفسي من قبل يا إيف.”
ثم انحنت قليلًا بأدب:
“اسمي ليليث.”
ابتسمت ابتسامة خفيفة، وفجأة تحوّلت عيناها إلى اللون الأحمر، بينما تمزقت حدقتاها السوداوان جانبًا بشكل غير بشري.
لقد كانت هي الشيطان الذي تبحث عنه إيف.
ترجمة : سنو
واتباد : punnychanehe
التعليقات لهذا الفصل " 28"