انطلقت شهقات مندهشة بين النبلاء الذين شهدوا ما جرى في قلب قاعة الحفل.
“يا إلهي!”
“هاه…!”
انساق زافيير مع الموقف كما طلبت إيف، فرفع يده ليحجب وجهه ووجهها عن الأنظار. كانت بادرة سريعة تنم عن براعة في التصرف.
أغمضت عينيها وتظاهرت بأنها تقبّله، ثم ابتعدت عنه بخجل. لكنها حين نظرت إلى ردة فعله، بدلاً من مراقبة باليريان، لاحظت أن ثمة شيئًا غريبًا في تعبيراته.
كان وجهه قد احمرّ بالكامل كحبة شمندر، وكأن دمه على وشك أن يغلي من فرط الخجل.
‘مع أننا لم نتبادل قبلة حقيقية… ما به إذًا؟‘
همست إيف بصوت لا يسمعه سواه:
“هل أنت بخير، سموّ الأمير؟“
‘أنا لم أفعل شيئًا، فلماذا يبدو متوترًا هكذا؟‘
‘آه… ربما أراد الحفاظ على عفّته؟‘
زافيير كان أحد أنقى الشخصيات سمعةً في المجتمع الأرستقراطي… ربما لا يضاهيه إلا باليريان.
‘همم… يبدو أني أسأت إليه قليلًا…’
أن تأتي وتثير جدلًا كهذا في مكان عام، من أجل رجل يهتم بصورته إلى هذا الحد… لا شك أن ذلك قاسٍ بعض الشيء.
‘لكنه كان يستطيع رفض اقتراحي منذ البداية.’
تنهدت إيف وهي تتذكر ما ورد في القصة الأصلية. الاعتراف الأول المؤلم الذي قدمه زافيير ليوري… حتى لمس يديها جعله يتردد ويشعر بالخجل الشديد.
كان ذلك أول وآخر مشهد صُوّر فيه على أنه لم يسبق له لمس امرأة من قبل…
‘لكن من الواضح أن هذا المشهد لن يظهر هنا أبدًا.’
شعرت إيف فجأة بالذنب، واعتراها تأنيب الضمير. يبدو أن زافيير كان أصدق شعورًا مما ظنت.
فهمست له باعتذار خافت:
“أنا آسفة، سموّ الأمير.”
كان صوتها منخفضًا، بالكاد يصل إلى أذنه، لكن أنفاسها لامستها. دون أن تدري، زادت من توتره أكثر.
‘يا للعجب، لم نفعل شيئًا، ومع ذلك يزداد احمرار وجهه.’
“لا بأس…”
قال أخيرًا بصوت خافت، وقد تمالك نفسه بصعوبة.
وراح يتأمل وجه إيف… لم يستطع أن يفهم كيف لها أن تتصرف بهذه اللامبالاة، مع أنها تظاهرت بتقبيله أمام الجميع.
حتى أكثر الناس برودًا لا يتصرفون بهذا الشكل.
أشاح ببصره على عجل دون أن يعي ذلك، فيما راحت إيف تشعر بالحرج من ردّة فعله.
‘يبدو أن الأمر أزعجه كثيرًا…’
لقد تصرفت على عجل، بدافع الرغبة في قطع صلة باليريان بها بالكامل… كان الأجدر بها أن تشرح الموقف أولًا.
‘لا بد أن أعتذر له لاحقًا بشكل لائق.’
فجأة، أحست بوخز نظرة حادة تطعن ظهرها كسكين، فالتفتت بسرعة وهي تقشعر.
‘…باليريان.’
لقد نسيت وجوده للحظة، منشغلة بتفاعل زافيير.
أما النبلاء من حوله، فسرعان ما استشعروا نذير الخطر، وبدأوا بالابتعاد عنه بصمت. حتى الفرسان الواقفون قربه تجمدوا في أماكنهم، متوترين وهم يرمقونه بحذر.
لكن الإمبراطور الذي التقى نظراتهم، أشار إليهم بصمت ألا يتدخلوا. كان يراقب الموقف بصمت وترقب.
وفي اللحظة التي خطا فيها باليريان خطوة نحو زافيير، شد التوتر خيوطه في القاعة أكثر.
في تلك اللحظة، عندما شُلّ الجميع أمام جبروت قوى إيلا، وارتجفوا دون أن يجرؤ أحد على التحرك…
انطلق صوتٌ من أحد أطراف القاعة:
“توقّف عند هذا الحد يا باليريان.”
كان الصوت العميق لوالده، دوق دييغو لودفيغ، رئيس العائلة.
في وقت خرس فيه الجميع تحت ضغط قوى إيلا، كان هو الوحيد القادر على الكلام.
رمق ابنه بنظرة قاسية، تنبعث من عينين عميقتين كأغوار الظلام، تستقرّ تحت حاجبين كثّين.
وانطلقت تنهيدات خافتة من هنا وهناك، وكأن الجميع أطلق زفير ارتياح.
تابع الدوق بصوته الجهوري:
“لا تفكّر في تلطيخ اسم العائلة يا باليريان لودفيغ.”
“……”
“هذا العصيان ينتهي هنا.”
ثم التفتت أنظاره نحو وجه إيف.
ارتجفت داخليًا تحت ثقل نظرته، لكنها لم تُظهر أي ضعف… بل قابلته بثبات.
حينها، خيّم الشك على نظرات الدوق.
لقد كان باليريان يُطلق طاقة إيلا دون وعي، وهي طاقة تفرض سيطرتها على أيّ كان.
لكن… إيف إستيلّا، لم تهتزّ قيد أنملة.
بينما كان جبين زافيير المتوتر إلى جانبها، يتصبب عرقًا من أثر تلك الطاقة.
‘هذه… هي قوة إيلا…’
كانت هذه أول مرة يواجه فيها زافيير طاقة إيلا وجهاً لوجه. فابتلع ريقه بصعوبة، تحت هذا الضغط الهائل.
نظر إلى الآنسة إستيلّا بجانبه. كانت على عكسه… ثابتة تمامًا، كما لو أن تأثير إيلا لا يمسّها.
‘… مستحيل.’
سخر من الفكرة التي خطرت له. لا يوجد كائن على الأرض لا يتأثر بقوة إيلا.
حتى الشياطين لم تكن قادرة على النجاة منها.
ولهذا كانت قوة إيلا فريدة لا مثيل لها.
ورغم امتلاك عائلة لودفيغ لها، فإنها لم تطمح يومًا للعرش، بل اختارت أن تبقى مخلصة للإمبراطور.
ولهذا أيضًا حازت على ثقة الشعب وحافظت على مكانتها بثبات.
قال الدوق بلهجة قاطعة وهو ينظر إلى ابنه:
“لا شيء يمكنك فعله الآن.”
كانت عينا الدوق تقولان: “هل تنوي التمرد؟“
قرأ باليريان ذلك في نظراته، فعضّ على شفتيه بقوة حتى كادت تنزف.
لم يكن بوسعه تنفيذ رغبته.
لأنه إيلا الإمبراطورية.
ولو خان هذا الدور، فلن تلتفت إليه إيف مجددًا.
لكن رغم ذلك، كان في داخله جزء منه يصرخ، يريد أن يتمسّك بها… حتى لو كلّفه ذلك كل شيء.
ترددت نظراته الزرقاء المتشبثة بها للحظة، ثم تراجع.
وبعد برهة، استدار وغادر القاعة.
* * *
“قاسية… قاسية بحق.”
عندما أخبرته إيف بما جرى في الحفل، أطلق نواه تنهيدة طويلة وحدّق بها بذهول وكأنها مخلوق غريب.
“واو… لم أظنّ حقًا أنك ستُقدِمين على ذلك أمام الجميع.”
“لكنني كنت أتظاهر فقط، لم أفعل شيئًا.”
“حتى التظاهر بهذا الشكل أمام الناس ليس تصرفًا طبيعيًا.”
“أنا طبيعية جدًا، صدقني.”
تمدّدت إيف على السرير وقد بدا على وجهها بعض الارتياح.
“على الأقل، لن يأتي ريان إلى هنا مجددًا.”
“…غالبًا. لو كنت مكانه لانطفأ كل حب في قلبي بعد ما رأيت.”
‘آه، لا تقل شيئًا بهذا القسوة…’
غطّت إيف رأسها بالبطانية حتى اختبأت بالكامل بداخلها.
“وماذا ستفيدك تلك البطانية الآن…”
قال نواه بنبرة يائسة بعض الشيء، بينما تمتمت إيف من تحت الغطاء:
“في كل الأحوال، سيتغير قلب ريان عاجلًا أم آجلًا.”
“نعم، ولو لم يفعل، فسيكون أحمقًا حقًا.”
“هل تتعمد قول كل ما يؤلم منذ قليل؟!”
‘من الذي أوصلني لهذا الوضع أصلًا؟!’
‘هل هذا خطئي؟!’
انتفضت إيف، وأزاحت البطانية بعنف، تحدّق في نواه بعينين تشتعلان غضبًا، ففرّ هاربًا من الغرفة بسرعة.
“يبرع دائمًا في صبّ الملح على الجراح…”
لكن لم يمر وقت طويل حتى عاد نواه، يطرق الباب ويدخل الغرفة من جديد، وقد بدت على ملامحه علامات التوتر.
كان وجهه غريبًا بعض الشيء، مما جعل القلق يتسلل إلى قلب إيف، فسارعت بسؤاله:
“هل هناك ما حدث؟ تكلم بسرعة.”
‘لا يكون باليريان قد أتى بنفسه، أليس كذلك؟‘
راح نواه يتلفت نحو النافذة، ثم سألها:
“هيه، لم يكن هناك… شيء طائر نحو النافذة أو شيء غريب، صحيح؟“
“هاه؟ النافذة؟“
نظرت إيف فجأة نحو النافذة. لم تفهم لمَ يريد منها أن تراها، فهي تبدو سليمة. لكنها حين تبعت نظره، لاحظت أنها مغطاة تمامًا بمادة بيضاء.
“ما هذا بحق…؟!”
تفاجأت إيف وتقدّمت نحو النافذة، لكن نواه أسرع وأمسك بها ليمنعها، فتوقفت ونظرت إلى نواه بدهشة.
عندها لاحظت أن يديه ليست خاليتين، بل كان يحمل صندوق هدايا وعدة رسائل.
“ما هذا؟“
كان شكل الصندوق مألوفًا لها.
“هذا وصل إليك… على ما يبدو من أولئك المجانين الذين يعبدونه هو.”
“من تعني بـ‘هو‘؟“
“باليريان.”
“آه.”
أومأت إيف بهدوء. كان معروفًا أن في الإمبراطورية عددًا كبيرًا من الناس الذين يرون باليريان ككائن مقدّس. معظمهم من المصلّين المداومين في الكنيسة، لكن بعضهم كان يضمر إعجابًا شخصيًا به أيضًا.
“كنت أعلم أنهم لن يتركوني بسلام.”
كانت قد توقعت شيئًا كهذا.
“حقًا؟“
نظر إليها نواه بدهشة، وكأنه لا يصدق أنها كانت تتوقع هذا.
أجابت بابتسامة ساخرة وهي ترفع كتفيها:
“حتى وقت الخطوبة، كانت تأتيني مفاجآت مماثلة. بل إن هناك من استمر بإرسالها حتى بعد مرور وقت طويل.”
ولم تكن تلك المخلوقات مقتصرة على الشعب المتديّن فحسب، بل حتى بعض النبلاء كانوا من بين المعجبين بـ باليريان.
والمثير أن من يرسلون مثل هذه التهديدات لم يكونوا جميعًا من النساء. كان من بينهم شبّان كُثُر على عكس ما قد يُظَن.
“تُرَى، ماذا ستكون هذه المرة؟ تهديد بالقتل ربما؟“
تناولت إيف الصندوق من يدي نواه وبدأت بفتحه بكل براعة وكأنها خبيرة في هذا النوع من الرسائل.
بات الأمر مألوفًا لدرجة أنها شعرت بألفة غريبة معها. هذا الشكل وتلك الألوان… لا بد أن ذلك الشخص بعينه أرسلها مجددًا.
“يا فتاة! كيف تفتحينها هكذا دون أي حذر؟! ماذا لو كان فيها شيء خطير؟!”
صرخ نواه وهو ينتزع الصندوق من يدها مجددًا، لكن إيف نظرت إليه باستغراب وكأنها لا تفهم قلقه.
“هل تظنني من النوع الذي يقع ضحية لمثل هذه الأشياء؟“
“…لا، لا أظن. لكن رغم ذلك! لا يوجد في الدنيا مَن يدخل إلى خطر وهو يعلم بوجوده!”
“أنا.”
قالت ذلك وهي تسحب الصندوق من يده من جديد وتفتحه.
كان بداخله دب دمية صغير. رفعت إيف حاجبيها بحيرة وأخرجت الدمية.
وفجأة، صدر عن الدمية صوت مزعج يشبه الصرير، وانفصل الرأس عن الجسد، لتخرج من داخله مادة حمراء اللون.
“مخبول!”
صرخ نواه برعب وتراجع خطوة إلى الخلف وقد فزع من المشهد.
أما إيف، فاقتربت من السائل الأحمر وشمّته قليلاً، لتكتشف أنه مزيج من مربى الطماطم والفراولة المغلي.
“هل هذا كل ما لديهم؟“
قالت وهي تعيد الدمية إلى الصندوق بوجه خالٍ من الانفعال.
كانت تتوقع تهديدًا أكثر إبداعًا هذه المرة، لكن خاب ظنّها.
“…ما بك؟ لمَ أنتِ هادئة هكذا؟“
كان نواه قد شعر بالخوف للحظة، أما الآن فقد جعلته ردة فعلها يشعر بالحرج من نفسه.
اقترب منها وهو يحكّ رأسه، لكن إيف أوقفته بيدها.
“لا تقترب. ربما تكون مادة سامة قد رُشّت عليه.”
ترجمة : سنو
واتباد : punnychanehe
التعليقات لهذا الفصل " 23"