في صباح اليوم التالي، حلّ النهار أخيرًا.
وكما هو متوقع، لم تنعم إيف ولو بقسطٍ يسيرٍ من النوم طوال الليل.
رغم أنها رأت الشمس وهي تشرق، إلا أن ملامحها لم تُظهر أدنى أثرٍ للإرهاق، بل بدت في حالة ممتازة لا توحي أبدًا بأنها قضت الليل سهرًا.
بل كانت في حالة بدنية ممتازة، لا يمكن لأي أحد أن يصدّق أنها شربت خمس زجاجات من النبيذ في الليلة السابقة.
‘كل ذلك بفضل ذاك الإكسير العجيب…!’
فقد جعلها ذلك الإكسير لا تسكر مهما شربت، ولا تتعب مهما سهرت.
لو أنها استسلمت لتأثير الكحول ونامت، لربما وفّرت على نفسها ساعات طويلة من التفكير المضني طوال الليل.
طَرق طَرق—
وفجأة، دوّى صوت طرقٍ خفيف على الباب، فانتفضت إيف من مكانها.
‘هـ…هل جاء باليريان بالفعل؟‘
بدأ قلبها يخفق بشدّة، فهي لا تتفاجأ بسهولة، ولكن مجرد تذكّرها لما حدث معه بالأمس كان كفيلًا بإرباكها.
‘كان يبدو وكأنه شخصٌ آخر تمامًا…’
رفعت يديها إلى رأسها، وكأنها تحاول انتزاع الذكرى المؤرقة من عقلها.
“كيف عرف بشأن تلك الرسالة…؟“
لقد كانت متأكدة من أن خط يدها سيكون مقنعًا بدرجة لا تثير الشك.
والأدهى من ذلك، أن من كشفها لم يكن الدوق لودفيغ، بل باليريان بنفسه.
شعرت وكأنها أصبحت محكومًا عليها بالإعدام، لا يبقى لها سوى انتظار لحظة التنفيذ.
‘وإن افتضح أمري كساحرة فوق ذلك…’
عندها، ستتحول هذه المجازية إلى حقيقة دامغة.
كانت مقتنعة بأن رفض باليريان لفسخ الخطوبة لم يكن بدافع الحب، بل تمهيدًا لمحاسبتها عمّا فعلت.
لأن أكثر ما يكرهه باليريان في البشر، هو الكذب والخداع.
لهذا كانت تشعر بقلقٍ لا يوصف.
لو أراد استخدام تلك الرسالة كذريعة، لكان بإمكانه دفع الأمر إلى محاسبة رسمية من قِبل العائلة.
‘لا أعلم لماذا تغاضى عن الأمر حتى الآن…’
لكن مجرد أنه ذكرها صراحة، يعني أنه لن يترك الموضوع يمرّ بهذه البساطة.
وقد يصل الأمر إلى علم الدوق لودفيغ نفسه.
‘لا… لا يمكن أن تُفسخ الخطوبة بهذا الشكل!’
وإن وصلت المسألة إلى المحكمة، فلن يعود لديها الوقت الكافي للهرب قبل وصول يوري لتستلم منصب القديسة.
ولو سارت الأمور وفق مجرى القصة الأصلية، فايوري ستظهر قريبًا في الحفل الرسمي لأول ظهور لها، مما يعني أن فرص التقائهما سترتفع بسرعة.
“لا… لا يمكن أن يصل إلى هذا الحد.”
أيعقل أن يسلّم باليريان خطيبته بنفسه إلى القضاء؟
لكن فجأة، قفزت إلى ذهنها ذكرى قديمة.
حادثة قديمة أعدم فيها باليريان بنفسه السير راينارد، الذي كان من أقرب أصدقائه، لأنه تعاون مع شيطان.
وقتها، لم تهتزّ يده للحظة، رغم أنهم كانوا رفاق معركة.
وهذا ما كان يخبرني به مساعده هيليوت مازحًا حينها.
“…النجاة الآن مرهونة بالدعاء فحسب.”
قبضت إيف بيديها بإحكام، وعزمت أن تواجه مصيرها.
— “آنستي؟“
نادتها الخادمة روز من خلف الباب بعد أن لم تسمع أي ردّ. وبينما همّت إيف بإجابة خافتة، انفتح الباب فجأة.
ومن دخل لم يكن الخادمة…
“…باليريان.”
كان هو.
تجمدت إيف في مكانها من الدهشة، لم تستطع قول شيء.
ابتسم باليريان وكأنه يعتذر.
“عذرًا يا إيف. أعلم أن دخولي بهذه الطريقة غير لائق.”
ثم اتجه بهدوء نحو نافذة غرفتها. وبعد أن تأكّد من أنها مغلقة بإحكام، ارتسم على وجهه تعبير يدل على الارتياح.
لكن أفعاله لم تكن لتوحي بالاعتذار أبدًا.
بل بدا وكأنه يراقب شخصًا يستعد للهروب في أي لحظة.
ورغم أنها فكّرت بالفعل في الهرب أثناء الليل، إلا أنها كانت تعلم أنه من الضروري أولًا أن تعرف إلى أي مدى علم باليريان بالأمر.
“ناديني كما اعتدتِ، قولي لي ‘ريان‘.”
كان يصرّ على هذه التفصيلة الغريبة، مما جعل إيف تشعر أنها لا تفهمه أبدًا.
فكأنما قرأ أفكارها حين تابع:
“حينما تنادينني بـ باليريان، أشعر وكأننا غرباء.”
كان ينظر إليها بنظرة حزينة، مما جعلها تلتفت نحو روز وتطلب منها إحضار الشاي.
وما إن خرجت الخادمة، حتى أصبحا وحدهما في الغرفة.
جلست إيف أمام الطاولة، وجلس باليريان قبالتها، مبتسمًا ابتسامة بدت لها متكلفة كأنها جزء من لوحة مرسومة.
لكن الوقت لم يكن مناسبًا لملاحظة التفاصيل. الأهم الآن هو توضيح الموقف وإزالة ما علق في ذهنه من شكوك.
“فيما يخص تلك الرسالة… أنا أقرّ بخطئي تجاه الدوق، لكني لم أفعل شيئًا من تلقاء نفسي. لقد دوّنت ما أملاه عليّ والدي، وهذا كل ما في الأمر. أرجوك لا تفهمني خطأ.”
فقال بهدوء:
“لكن إن كان الأمر كذلك، لماذا لم يكتبها هو بنفسه؟“
ها هو الاعتراض الذي توقّعته.
“وقتها… كان مشوشًا للغاية بسبب الانهيار المفاجئ للعائلة، فلم يكن في حال تسمح له بالكتابة، فاضطررت للقيام بذلك بنفسي.”
ردّت، محاوِلة التماسك، لكن باليريان عقّب:
“رجل لا يقدر على كتابة خطاب، كيف استطاع أن يتخذ قرارًا عقلانيًا بشأن نقل الممتلكات؟“
“…….”
كادت أن تعضّ لسانها من الغيظ. لو أنها فقط قالت إن والدها كان مصابًا بجرح في يده، لكان ذلك مقنعًا أكثر.
يا له من عذر رديء.
“فماذا تنوين الآن؟“
هل كان يعني أنه سيُحيلها إلى المحكمة؟
مرت بخاطرها كل السيناريوهات السيئة الممكنة.
“لو شرحتِ لي أسبابك الحقيقية، سنتمكن من اتخاذ الخطوة التالية.”
ولم تكن تأمل إلا أن لا تشمل تلك الخطوة “محكمة“.
تمسّكت إيف بموقفها الأخير:
“ما قلته قبل قليل هو الحقيقة كاملة.”
لكن باليريان قال بحزم:
“لا، أنتِ تكذبين يا إيف.”
أرادت الاعتراض، أن تسأله كيف يجزم بذلك، لكن نظراته الصارمة أخرستها.
“…حسنًا، إن لم تريدي الحديث، فلن أضغط عليك.”
بدت عليه علامات التراجع.
لكن ما قاله بعد ذلك، جعل عينيها تتسعان من الذهول:
“في هذه الحالة تزوجيني، يا إيف.”
في يده الصغيرة التي أخرجها من صدره كانت علبة صغيرة تحتوي على سوار مزين بألماسة زرقاء.
عرفت إيف على الفور ما هو هذا السوار.
“دمعة الحورية.”
كانت قد رأت ذلك من زمن بعيد.
الكنز العائلي الذي كان باليريان قد أظهره سرا لها في القصر الخاص بالدوق لودفيغ.
هذا الكنز، الذي لا يُسمح إلا لسيدة بيت عائلة لودفيغ بارتدائه عبر الأجيال، كانت جوهرة نادرة جدًا حتى أن خبراء الأحجار الكريمة لم يتمكنوا من تقييم قيمتها فتخلوا عن الأمر.
في تلك اللحظة دخلت خادمتها روز وهي تحمل إبريق الشاي وأكوابًا.
“أحضرت شاي الياسمين.”
“أوه… شكرًا.”
كانت إيف مذهولة لدرجة أنها أمسكت بالكوب ولم تلمسه بفمها.
وبعد لحظة، أدركت أن روز تقف بجانبها، فأشارت للخادمة أن تغادر.
“يمكنك المغادرة الآن.”
“نعم.”
وبعد خروج روز من الغرفة، بقيت إيف صامتة لبعض الوقت قبل أن تتحدث أخيرًا.
“لا أفهم تمامًا ما يحدث… هل أنت تعرض عليّ الزواج الآن؟“
ابتسم باليريان بابتسامة مشرقة كالضياء وقال:
“أحسنتِ فهم الأمر يا إيف.”
نظرت إليه مندهشة ثم استعادت رباطة جأشها.
كان عليها أن تسيطر على نفسها إذا لم تكن تريد أن يصبح هذا السوار الثمين ذكرى لها.
“لا يجوز أن تتصرف هكذا هنا.”
ضحك وهو يرد:
“أعتقد أن العرض هنا ليس رومانسيًا كفاية. هل نبحث عن مكان آخر؟“
شعرت بإحباط شديد من هذه المحادثة التي دارت في حلقاتها وكأنها تدور في دائرة بلا نهاية.
قال لها بلهجة جادة:
“إيف، هذا هو السؤال الذي أريد أن أطرحه.”
“ماذا؟“
صمت للحظة، كانت عيناه الزرقاوان كالبحر الهادئ، لكنها تخفي بركانًا يمكن أن ينفجر في أي لحظة.
لم تستطع إيف أن تفتح فمها بسرعة.
ثم تنهد ببطء وقال:
“منذ ذلك الحين وحتى الآن، أرى تصرفاتك وكأنكِ متعجّلة للابتعاد عني.”
لم تستطع الرد على هذه الكلمات التي أصابت هدفها بدقة.
لم تكن تتوقع أن يكون باليريان بهذا الفطنة.
كانت متفاجئة في كل مرة يتصرف فيها بشكل غير متوقع، خاصة عندما يحاول التمسك بها بهذا الشكل.
“…نعم.”
لم يكن من المنطقي إنكار ذلك الآن.
عض باليريان شفتيه بإحكام على جوابها الصريح.
“…لماذا بحق خالق السماء؟“
“السبب هو ما قلته لك بالأمس.”
حين أخبرته برغبتها في أن تصبح راهبة، اختفت الابتسامة عن وجهه تمامًا.
قال:
“ليس من السهل تغيير قلب شخص ينكر وجود الحاكم.”
“وخلال هذه السنوات، لم أرَ من يشكك في وجود الحاكم كما تشكين أنتِ يا إيف .”
هل يعني هذا أن إيماني قد وصل إلى الحضيض؟
شعرت ببعض الارتباك، لكن إيف لم تكترث وفتحت فمها للرد.
“لكنني كدت أموت ورجعت للحياة… أليس هذا سببًا كافيًا؟“
“لو كان ما حدث حقًا يُعتبر موتًا ثم عودة للحياة.”
ارتجفت شفتي إيف قليلًا.
كان حديثه وكأنه يعلم كل شيء، مما زعزع هدوءها.
“ماذا تقصد؟“
قال:
“عندما تناولتِ ذلك الإكسير كابيلّا، رأيت تعبير الطبيب كانيل. عندها أدركت أنكِ لست مريضة حقًا.”
في تلك اللحظة، لم تستطع سوى الاعتراف بأن خطيبها يملك حدسًا حادًا ولم يظهر ذلك طوال الوقت.
زاد ارتباكها مع اكتشاف جوانب جديدة في شخصيته.
“لماذا إذن تجاهلت الأمر؟“
غاصت عيناه الزرقاوان في عينيها بشدة.
“لأن وجودك بجانبي أهم من كل شيء.”
شعرت إيف بأنها مخنوقة من صدق كلامه، وكأنها مقيدة لا تستطيع التحرر.
همست بدون وعي:
“…هذا غير صحيح.”
ووضعت كوب الشاي على الطاولة بعنف.
“ماذا؟“
“باليريان، قلت لك إنك تريد معرفة السبب الحقيقي، أليس كذلك؟“
كان عليها أن تنهي الأمر الآن.
“إيف.”
شعر باليريان بشيء مريب فنادى اسمها.
لكن شفتي إيف لم تتوقف.
“إذا كنت تريد معرفة الحقيقة، فلا مفر من قولها.”
نظرت إليه بعينيها الحمراوين دون أن تتهرب من نظره.
فتحت شفتيها بلا تردد وقالت:
“لقد كرهتك يا باليريان. لقد مللت منك.”
ترجمة : سنو
انستا : soulyinl
واتباد:punnychanehe
التعليقات لهذا الفصل " 15"