الفصل الخاص 〈 14 〉
بعد مرور خمس سنوات.
عادت الاضطرابات مجددًا لتخترق السلام الذي ناله بشقّ الأنفس بيت الدوق لودفيغ.
وقع الحادث في الوقت الذي بدأت فيه نُطق إيرين يزداد وضوحًا شيئًا فشيئًا.
“هاااه …”.
“هاه …”.
في وقت الإفطار، لم تغادر علامات القلق وجهي إيف و باليريان.
كلاهما لم يمدّ يده للطعام، وكل ما فعلاه هو التنهد مرارًا.
قال باليريان:
“ إيف، وماذا قالت السيدة الكونتيسة؟“
أجابت بعد تردد:
“… قالت إنها لم تمرّ بمثل هذا وهي تربيـني.”
وذلك ليس غريبًا.
فـ إيف وُلدت وهي تحتفظ بذكريات حياتها السابقة، ولهذا كانت منذ صغرها أكثر نضجًا من أقرانها، وهادئة إلى حدٍّ كبير.
لولا نواه، لما تعكّر صفو مزاجها أبدًا.
لكن إيرين لم تكن كذلك.
شربت إيف كوبًا من الماء البارد دفعة واحدة.
صحيح أنها لم تقابل سحرة آخرين لتقارن، لكنها كانت واثقة من شيء واحد…
ابنتهما تمتلك موهبة سحرية استثنائية.
ومعها طبع مشاكس لا يُستهان به.
ركض أحد الخدم قادمًا، يصرخ:
“ يا سيدي الدوق، سيدتي! الآنسة إيرين بدأت نوبة شغب جديدة!”
“ سأذهب بنفسي.”
قالتها إيف وهي تقف على الفور.
“ سأرافقك.”
قال باليريان وأمسك بكتفها.
“ ابقَ وتناول طعامك يا ريان. السحر لا يُواجه إلا بالسحر، أليس كذلك؟“
“ لكنها ابنتنا! كيف يمكنني أن أجلس مرتاحًا وأتناول طعامي؟“
رفض باليريان الجلوس وأصر على الذهاب معها.
اكتفت إيف بابتسامة متعبة وهزّت رأسها بالموافقة.
وأثناء سيرهما إلى غرفة إيرين، استرجعت إيف ما قاله الخدم عن الحوادث التي جرت أثناء غيبوبتها:
“ إذا كان الحليب باردًا، كانت تسخنه حتى الغليان داخل الرضّاعة… وإن كان ساخنًا، كانت تجمده!”
وقد أصيب بعض الخدم مرارًا بحروق خفيفة أو لسعات برد جراء ذلك، وكانوا بحاجة للعلاج.
حينها، كانت إيف تظن أن ما يحدث مجرد تعبير غير ناضج من طفل لا يجيد الكلام، ويستخدم السحر بديلًا عن البكاء أو الاحتجاج.
لكنها كانت مخطئة.
ظنت أن الأمور ستتحسّن ما إن تبدأ إيرين بالكلام، لكن الأمر لم يكن بهذه البساطة.
منذ ذلك الحين، كلما واجهت إيرين أمرًا لا يعجبها، كانت تردّ عليه بالسحر وتُحدث فوضى.
‘ عادة سيئة للغاية.’
لكن إيف عزمت على وضع حدٍّ لذلك اليوم.
وما إن وصلت إلى الباب حتى فتحته دون أن تطرق.
فكان أول ما رأته هي إيرين، بشعرها المضفور على هيئة حزمة قش، تقف أمام خادم طاف معلقًا في الهواء.
“ إيرين!”
نادت إيف باسمها بعد أن استوعبت المشهد، لكن إيرين قابلتها بعبوس مستاء وهي تصدر صوت “ تْشه” بضيق.
صرخ الخادم المتدلّي في الهواء وهو يتلوّى:
“ آاااه! أنقذوني! سيدتي، أنقذيني!”
لكن إيرين، التي تسببت بكل هذا، لم تُبدِ أيّ ردّ فعل.
انطلق صوت إنذار داخل رأس إيف.
‘ ماذا لو بدأت تنتشر شائعات غريبة عن إيرين؟‘
أصلاً، سرت أخبار بين الناس بأن إيرين مشاغبة وخطيرة، وأدى ذلك إلى تراجع عدد الراغبين بالعمل في بيت لودفيغ.
وحتى أولئك الذين بقوا، لم يصمدوا إلا لأن إيف وباليريان كانوا يضعون حدًّا لتصرفاتها، لكن إن استمر الحال هكذا، فلن يبقى أحد.
قالت إيف بحزم وبنبرة منخفضة:
“ إيرين، أنزليه فورًا.”
فأجابت الطفلة وهي تمطّ شفتيها بانزعاج:
“همف .”
ورفضت أن تُنهي سحرها.
عندها تدخّل باليريان:
“ إيرين.”
ردّت ببرود:
“ لا أريد.”
قالت إيف وهي تحاول كتم غيظها:
“ ولِمَ تفعلين هذا؟“
لكن حين التقت نظراتها الجادة بعيون ابنتها، بدأت الدموع تتجمّع في عيني إيرين، تلك العينين الحمراء كالياقوت، والتي تشبه عيني إيف تمامًا…
وفي اللحظة التالية، صرخ أحدهم:
“ اااااه!”
انهار الخادم من السماء فجأة، بعدما رفعته إيرين بسحرها عاليًا.
لكن، ولحسن الحظ، تدخلت إيف بسرعة، وجمعت الماء في الهواء لتشكل به ما يشبه السرير المائي، فهبط الخادم عليه بأمان دون أن يصاب بأذى.
قالت له بلطف:
“ أعتذر عما حدث اليوم… خذ يوم غدٍ راحة.”
وما إن أنهت جملتها، حتى اشتعلت شرارة في عيني “ إيرين“.
صرخت غاضبة:
“ لماذا تعتذرين أنتِ؟! المخطئ هو ذاك الخادم، لا أنا!”
“ إيرين!”
نادتها إيف بنبرة توبيخ، لكن الباب كان قد فُتح، وكانت الطفلة قد هربت بالفعل.
قال باليريان متنهّدًا:
“ سأذهب وأُعيدها.”
وبعد برهة،
عثر باليريان على إيرين جالسة القرفصاء خلف شجرة ضخمة في الحديقة.
قال لها ممازحًا:
“ ماذا تفعلين هنا أيتها الآنسة الصغيرة؟“
“همف …”
تشمّت أنفها، فأدرك والدها أنها كانت تبكي.
“ هل شعرتِ بالحزن لأن أمكِ وبّختكِ وحدكِ؟“
ردّت بصوت متهدّج:
“… أمي تكرهني دائمًا على أي حال.”
“ غريب، لأن كلما كنا وحدنا، لا تتوقف عن مدحك.”
“كذب .”
ضحك باليريان ورفعها بين ذراعيه بلطف:
“ ما رأيك أن نذهب ونتأكد من ذلك بنفسنا؟“
لكنها أدارت وجهها بعناد:
“ لا أريد رؤيتها الآن.”
سألها بهدوء:
“ هل أغضبك ذلك الخادم؟“
فعضّت شفتها السفلى ولم تجب فورًا:
“ أنا… لست غاضبة.”
فردّ عليها بلين:
“ الكذب تصرّف سيئ، يا إيرين.”
صرخت وهي تزداد انفعالًا:
“ السيئ هو ذلك الخادم، لا أنا!”
سألها مبتسمًا:
“ إذًا، هل استخدمتِ السحر لتُعاقبيه؟“
لم تجب، لكنها بدت مرتبكة، وقد عرف باليريان من ملامحها أن ظنه كان صحيحًا.
خفضت كتفيها بقلق، تنظر إلى والدها تخشى العقاب.
لكنه فقط أومأ قائلاً:
“ من يخطئ، يستحق العقاب.”
“ حقًا؟“
سألت وقد بدأت ملامح الأمل تظهر على وجهها.
“ لكن إيرين صغيرة، ولذلك العقاب من مسؤوليتنا نحن. لكننا أولًا نحتاج أن نعرف… ماذا فعل الخادم بالضبط؟“
ترددت إيرين قليلًا، ثم سألته:
“ هل ستعاقبونه حقًا؟“
“ بالطبع، إذا كان هو المخطئ.”
“ وماذا عن أمي؟“
أجاب مبتسمًا:
“ ستفعل كما أفعل تمامًا.”
فقالت وهي تمطّ شفتيها:
“ همف… لا أظن ذلك.”
فمنذ صغرها، كانت إيف أكثر صرامة من باليريان.
إن أخطأت، تُعاقبها دون تردد، خصوصًا إن كان الأمر متعلقًا بالسحر.
مرةً جعلتها ترفع يديها وتبقى واقفة، ومرة أخرى أمرتها أن تجلس وحدها في غرفة اللعب للتفكير.
وتلك الوحدة، كانت بالنسبة إلى إيرين أقسى ما يمكن.
قالت والدموع تعود إلى عينيها:
“ أمي تكرهني فعلًا!”
وقف باليريان صامتًا، عاجزًا عن الرد.
كان باليريان من يرى إيرين تبكي على هذا النحو، يحسب أنه يرى إيف في طفولتها، فيضعف أمامها دون أن يشعر.
“ لماذا تظنين ذلك؟“
“ لأنها دائمًا تقف مع ذلك الخادم التافه، وتهتم لأمره أكثر مني!”
‘ ذلك الخادم التافه؟‘
عقدت كلمات ابنته حاجبيه، فقد بدا عليه الحرج.
كان ينبغي عليه أن يُعلّمها ألا تحتقر أحدًا أو تستخدم كلمات مثل تافه، لكن رؤيتها وهي تبكي منعت أي تعقيب.
في تلك الليلة…
لم تستطع إيف أن تنام. بقيت تقف أمام النافذة، تتأمل الظلام، وقلبها مضطرب.
‘ أن تكون والدًا، ليس بالأمر السهل أبدًا…’
لو أنها لم تتدخل بسحرها، لكان الخادم قد أُصيب اليوم لأول مرة بسبب إيرين.
وهي تخشى أكثر من أي شيء أن تتكون نظرة سلبية تجاه ابنتها فقط لأنها ساحرة.
قد تتلاشى فرص كثيرة من حياتها…
قد تُنبَذ، أو تُعزل عن الآخرين…
‘ الحمد لله أنني كنت سببًا في القضاء على الشيطان، وإلا لما تغيرت نظرة الناس إلينا.’
لقد تبدلت الآراء بعد أن انكشفت الأكاذيب القديمة، وبدأ البعض يتعاطف مع السحرة.
لكن ذلك التعاطف هشّ…
فلو شعر الناس بأن السحر بات تهديدًا، فستتحول نظرتهم فورًا إلى عداء.
الناس بطبعهم يخافون ما لا يمكنهم فهمه أو السيطرة عليه.
والساحر هو تمامًا ذلك الغريب الذي يُحذَر منه.
كسبُ قلوب الناس صعب… لكن خسارتهم سهلٌ كأنفاسٍ تمرّ.
لذلك كانت أكثر صرامة مع إيرين.
همست في نفسها وهي تتنهّد:
‘ لكن ماذا عليّ أن أفعل بعد الآن… ؟‘
رغم صرامتها، لم تأتِ النتائج كما أرادت.
بدأت تشك بأسلوبها التربوي.
وفي تلك اللحظة، طرق الباب.
دخل باليريان بهدوء.
سألته مباشرة:
“ ريان… هل تمكنت من توجيهها كما يجب؟“
لكنه لم يجب، واكتفى بنظرة قلقة.
منذ ولادة إيرين، كان يضعف أمامها، ربما بسبب الشعور بالذنب حين تُركت وحيدة وهي رضيعة.
ولذلك، نادرًا ما وبّخها بنفسه.
وكان عبء التأديب دائمًا على إيف، ما جعلها تشعر أحيانًا بالضيق.
نظرت إليه بشكّ وقالت:
“ لا تقل لي أنك تركتها دون توبيخ مرة أخرى؟“
تهرّب بنظراته، وكان الصمت أبلغ من أي اعتراف.
زفرت إيف بضيق:
“ ريان، أنت السبب في تماديها بهذا الشكل!”
قال معتذرًا:
“ أعلم… أعرف أنه لا ينبغي أن أتساهل معها دومًا… لكنني لا أستطيع أن أوبخها.”
ابتسمت إيف بسخرية وقالت:
“ ما زلت لم تنسَ ما حدث وقتها، أليس كذلك؟“
“ ليس ذلك فقط… بل هناك سبب آخر أيضًا.”
رفعت حاجبها:
“ سبب آخر؟“
حكّ خده بارتباك وقال:
“ تشبهك كثيرًا حين كنتِ صغيرة…”
“ وما الذي يشبهني فيها؟!”
لم تفهم إيف على الإطلاق كيف يمكن أن يكون هذا مبررًا لعدم تأديبها.
__________
ترجمه: سـنو
واتباد :
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 116"