الفصل الخاص 〈 3 〉
كان ذلك في اليوم الذي غاب فيه باليريان لبضعة أيام لأجل إنهاء شؤون ما بعد الحرب في الدولة المقدسة.
في ذلك اليوم، زار ضيف غير متوقع قصر دوقية لودفيغ.
تفاجأت إيف قليلاً من مجيئه المفاجئ دون إخطار مسبق، لكنها لم تُظهر ذلك.
“ تقول إنك تابع مباشر لباليريان؟“
“ نعم، أنا أوين ماتياس، نائب قائد الفرقة الأولى من فرسان الإمبراطورية.”
انحنى أمامها بتحية مهذبة، ثم جلس في غرفة الاستقبال بعد أن أرشدته إيف إلى الداخل.
“ ما سبب قدومك؟“
سألت إيف مباشرة دون الدخول في أحاديث جانبية. فأومأ أوين برأسه وبدأ بالكلام.
كان من طبيعته أن يفضل إنجاز المهام دون التفاف.
“ الأمر يتعلق برسالة من سمو ولي العهد.”
مدّ إليها رسالة أثناء شرحه، وكانت موجهة إلى إيف لودفيغ.
‘ ليست موجهة إلى باليريان؟‘
‘ هل يعقل أن زافيير أرسل لي رسالة شخصية؟ وفوق ذلك، اختار أن تصل حين يغيب باليريان؟‘
أمر مشبوه بلا شك.
ولم تستطع إيف مقاومة فضولها، ففتحت الرسالة على الفور وقرأت:
“ لقد مضى وقت طويل منذ تواصلنا.
قبل أن تسيئي الفهم، سأدخل في صلب الموضوع. تلقّينا تقريرًا يفيد بأن أتباع رئيسة الكهنة أرييل ما زالوا يختبئون في العاصمة.
وهناك من يشير إلى استخدامهم قوى تتعلق بالسحر الأسود.
لذلك، أتساءل إن كان بإمكاننا الحصول على مساعدتك في هذا الشأن.”
همم. إذًا اختار أن يرسل الرسالة في غياب باليريان لأنه يعتقد أنني لو علمت أمامه، فسيمنعني من مساعدة العائلة الإمبراطورية.
بسرعة، قرأت إيف نوايا ولي العهد الدفينة.
‘ حسنًا، ليس بالأمر المعقد.’
أومأت برأسها وقالت لنائب القائد:
“ أخبره أنني موافقة… هاه؟“
لكنها توقفت فجأة، وقد علِق بصرها في سطر معين من الرسالة:
“ ملاحظة: سمعت أن باليريان ما زال يتدرب حتى وقت متأخر في ساحة التمارين.
صحيح أنني أقدّر سعيه لتطوير مهاراته، لكن بما أن مستواه قد بلغ حدًا كافيًا، فربما من الأفضل أن يتيح بعض الوقت لمرؤوسيه أيضًا.
وكما تعلمين، هو لا يسمع حتى لو تحدثتُ إليه مباشرة، فلو تخبرينه أنتِ يا زوجته، بأن يعود بسرعة إلى القصر، سأكون ممتنًا.”
شعرت إيف بانقباض غريب.
“ إيف، أعتذر لتأخري في العودة مؤخرًا. كنت منشغلاً ببعض الأمور.”
“ أي أمور؟“
“ حدثت تغييرات في بنية المؤسسة الإمبراطورية، وقد تطلب ذلك الكثير من العمل. أعتقد أنه سيتم التنازل عن العرش قريبًا.”
هل كان يتدرب بهذه الحماسة من أجل تعزيز الأمن استعدادًا لتولي زافيير العرش؟
ربما… لكن شيئًا ما لم يبدُ على ما يُرام.
كان حدسها يؤكد لها أن ما يحدث ليس لمجرّد هذا السبب.
‘ أن يرسل زافيير هذه الرسالة خصيصًا…’
ذلك يعني أن باليريان يفرط فعلًا في تدريبه، إلى حد مبالغ فيه.
حتى حين كانا في المملكة المقدسة، لم يكن بهذا الجنون في التدريب.
بل أحيانًا، كان يختلق أعذارًا ليتغيب عن التدريب من أجل لقائها.
‘ لا، لا أريد أن أبدو ضيقة الأفق… لا يا إيف إستيلّا، أعني إيف لودفيغ…’
لكن رغم محاولتها التماسك، كانت تعض شفتها السفلى بصمت.
“ هل هناك ما يقلقكِ؟“
سألها أوين بحذر بعد أن لاحظ تعبير وجهها المتجهم فجأة.
كان ما طُلب منه من قِبل ولي العهد بسيطًا: “ سلّم الرسالة إلى السيدة لودفيغ، ثم عد إليّ بردّها.”
ولما حصل على ردها بالموافقة، كان من المفترض أن ينصرف.
لكن وجهها قد تحوّل فجأة إلى ملامح حادة توحي بالخطر.
شعر أوين أنفاسه تتقلص، وابتلع ريقه بصعوبة.
‘ كما هو متوقع من ساحرة… البشر لا يُشبهونهم أبداً.’
يا للأسف… أن يحدث هذا بسبب رسالة من ولي العهد…!
وضع لا يُحسد عليه.
“ لا، لا شيء.”
قالت إيف وهي تطوي الرسالة وتبتسم بخفة.
وفي لحظة، تبدد الجو المشحون وكأن شيئًا لم يكن.
“ بإمكانك الانصراف الآن، سير ماتياس.”
لكن على الرغم من الكلمات الهادئة، كانت عينا إيف الحمراوان تلمعان ببرود لا يُطاق.
وحين غادر أوين قصر الدوق، لم يستطع طرد الإحساس بأنه ارتكب خطأ فادحًا دون أن يدركه.
* * *
بعد عدّة أيام، تغيّر كادر الإدارة الداخلية للمملكة المقدسة تغييرًا جذريًا، فتحولت إلى هيئة أقرب إلى منظمة خيرية.
وكانت تعجّ بالموظفين المنهكين تحت وطأة مهامّ لا تقل عن مهام القصر الإمبراطوري الثاني، إن لم تزد.
وسط تلك الأجواء، بدا شاب أشقر وسيم وكأنه الأكثر فراغًا بينهم، يرمق الأفق بوجه متجهم.
“ لا مهامّ لدي، فلماذا أُبقي هنا؟“
كان باليريان يغلي من الغضب.
وجوده هنا يعني تدخلًا مباشرًا من الإمبراطورية في شؤون المملكة المقدسة.
لكنه لم يفهم لمَ كان عليه هو تحديدًا الحضور.
وعندما طرح هذا السؤال، أجابه زافيير:
“ بما أنك، ولو مؤقتًا، كنت أحد فرسان الكنيسة ونلت ثقة الشعب هنا، فإن ظهورك سيترك انطباعًا جيدًا لدى الرأي العام.”
كان الكلام منطقيًا من الناحية العقلية، لكن باليريان لم يُخفِ انزعاجه من هذا الوضع المرهق والمزعج.
‘ متى ستأتي أوامر العودة، بحق الخالق؟‘
لقد اشتاق لرؤية إيف حدّ الجنون.
ومع ذلك، كان يعلم جيدًا أنه إذا التقى بها فعليًا، فسيخنقه شعور بالذنب والخوف، فيفرّ منها.
كان يُدرك مدى التناقض في داخله، ويُدرك أكثر أن هناك فرقًا شاسعًا بين أن يبتعد عنها بإرادته، وبين أن تفرض عليه الظروف ذلك البعد.
وزاد الطين بلّة أن الرسائل التي كانت تصل منهما لبعضهما بانتظام قد انقطعت من طرف إيف.
وبمعرفة شخصيتها الباردة، كانت احتمالية تجاهلها الرد بدافع الكسل واردة.
ومع ذلك، لم يعرف لِمَ يراوده هذا القلق الثقيل.
كان القلق يتفرّع في داخله مثل أغصان شوكية تحكم قبضتها عليه.
في خضمّ تلك المشاعر، جاءه مساعده الذي رافقه من قصر الدوق ‘ رودفيل‘.
قال بصوت حازم:
“ الرسالة وصلت.”
“… من أي جهة؟ “
ربما بدت المحادثة غريبة لمن يسمعها من الخارج، لكنها بدت طبيعية تمامًا للطرفين المعنيّين.
“ من القصر الإمبراطوري.”
“… هل هي أوامر بالعودة؟“
“ نعم. أمر بالرجوع في الغد.”
“ فهمت.”
رغم أن ذلك ما كان يتمناه، إلا أن الغمّ لم يزُل عن وجه باليريان.
وما إن بقي وحده في مكتبه، حتى ألقى نظرة صامتة إلى الشفق البرتقالي خارج النافذة وزفر بعمق.
‘ هل كنتُ أنتظر رسالة من إيف في قرارة نفسي؟‘
لم يتوقّع أبدًا أن يعبث به شعور الاشتياق بهذا الشكل لمجرد رسالة واحدة.
أحسّ بالمرارة، وبشيء من الخيبة.
في تلك الحالة المتخطبة من المشاعر، استقبل فجر اليوم التالي، وقبل أن تشرق الشمس تمامًا، كان قد غادر المملكة المقدسة متجهًا إلى قصر لودفيغ.
* * *
حين عاد باليريان إلى قصر الدوق، شعر على الفور بجوّ ثقيل غريب يُخيّم على المكان.
بدا القصر مألوفًا ولم يتغيّر فيه شيء، لكن إحساس الغرابة تسلل إليه كأن شيئًا غير مرئي قد تغيّر.
كان غياب رسالة من إيف أمرًا مؤلمًا له، لكنّه حاول أن يخفف من وقعه على نفسه متعللًا بانشغالها كسيّدة القصر.
إلا أن هذا الجو… ما تفسيره؟
كأن مشاعره المشؤومة بدأت تتحقّق، وها هي تقشعرّ جلده من البرودة التي تسري في المكان.
‘ مهلًا… لم تأتِ لاستقبالي.’
‘ صحيح، لم تكن إيف من النوع الذي يستقبل أحدًا عند عودته.’
استعاد ذلك في ذهنه ليطمئن نفسه إن لا شيء مختلف كثيرًا.
ما زال الوقت فجرًا، وغالبًا ما تكون إيف نائمة في مثل هذه الساعة.
اقترب من باب غرفتها، وتردد قليلًا في الطرق. ثم، بحذر شديد، فتح الباب بصمت، خشية أن يُوقظها من نومها العميق.
كما توقّع، كانت نائمة بسلام.
ملامحها الهادئة المتناسقة بدت له جميلة كلوحة مرسومة.
“هاه …”.
تنهد باليريان، خوفًا من تكرار ما حدث في آخر لقاء بينهما.
لم يكن يرغب في إعادة تلك اللحظة أبدًا.
بقي يتأمل وجهها لوهلة.
كانت رؤية وجهها وهي نائمة تبعث فيه شعورًا غريبًا بالطمأنينة والامتلاء.
وبدون أن يدرك، كان يحدّق بشفتيها.
مرّر يده على وجهه وكأنما يحاول أن يصحو من وهمٍ ما.
“ تبا… أنا مجنون فعلًا.”
ما يفعله الآن لا يليق برجل، بل هو أقرب إلى تصرف حيوان.
أدار وجهه ليبتعد عنها، ولم يلاحظ أن عيني إيف قد فُتحتا.
قلبها هبط من مكانه.
“ مجنون؟“
ما الذي يعنيه بكلمته تلك؟
كانت نبرته توحي بأنه يُخفي شيئًا، كأنما يُكبت في داخله شيئًا لا يريد البوح به.
هل يقصد أنه نادم على زواجه بها؟ وهل قال “ أنا مجنون” كنوع من جلد الذات بسبب اتخاذه لذلك القرار؟
لم تستطع أن تفسّر كلماته إلا بتلك الطريقة.
أصابعها التي تمسّكت بالغطاء شحبت تمامًا، وشفتاها التي عضّتهما بشدة بدتا وكأنهما ستنزفان.
لكنها لم تجد الجرأة لتسأله.
خافت أن ينطقها بصراحة “ نعم، في الحقيقة، أنا نادم على هذا الزواج.”
كانت تلك الكلمات كفيلة بتمزيقها من الداخل.
دمعة صغيرة تجمعت في طرف عينها.
كانت تشعر وكأن مشاعرها تجاهه والتي نمت ببطء، قد ابتلعتها كليًا دون أن تدري.
أحست بنفسها غريبة… وضعيفة.
وهكذا أشرقت الشمس.
كان الدفء الناعم للنهار يذيب الثلج البارد من فوق الأرض، لكن قلب إيف كان يتجمّد أكثر فأكثر، حتى بدا كأنه لا يذوب حتى بسيف من نار.
_________
ترجمه: سـنو
واتباد :
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 105"