جلست إيف بجوار باليريان الممدّد بلا حراك، تعبث بالزهور التي اشترتها لتوّها من المتجر.
لكنها ما لبثت أن سحبت يدها فجأة، خشية أن تُؤذي الزهور دون قصد.
“لا يصح هذا… هذه هدية له عندما يستيقظ.”
رغم أنها أحضرت له الزهور، فإنها غالبًا ما كانت تذبل وتموت قبل أن يتمكن من رؤيتها، لأنه لم يفتح عينيه قط.
اليوم أيضًا، حين رأت جفنيه المغلقين بإحكام، خيّم عليها شعور بالتيه، لكنها تجاهلت ذلك وتحدثت بصوت هادئ:
“افتح عينيك يا ريان أرجوك… هل أنا بهذا السوء حتى لا تريد رؤيتي؟ إن كان الأمر كذلك، فانظر على الأقل إلى الزهور التي معي. إنها جميلة، أليس كذلك؟ أنا واثقة أنك ستحبها.”
قالت ذلك مازحة، لكنها استغربت من نفسها.
لم تعتد أن تتحدث وحدها بهذا الشكل. شيء كهذا لم يكن ليخطر ببالها في الماضي.
“ألست فضوليًا لترى كيف تبدو هذه الزهور؟ أهي بيضاء؟ أم صفراء؟ أم بنفسجية؟ هل بتلاتها مستديرة أم حادّة؟ هل رائحتها قوية أم خفيفة؟“
مع أنها كانت تحضر له الزهور ذاتها منذ شهر، إلا أنها تكلّمت وكأنها تكتشفها لأول مرة.
“كم أتمنى لو كنت ترى هذه الزهور معي…”
كلما تحدثت أكثر، ازداد الحزن ثقلًا على قلبها، كأنه ينهش روحها ببطء.
وبدأ صوتها يخفت شيئًا فشيئًا.
“متى… متى ستستيقظ؟“
همست وكأنها تحدث نفسها.
وخلال هذا الغياب الطويل، عانت إيف من عذاب نفسي لا يُطاق.
راودتها أفكار مريرة، بل ظنت أحيانًا أن ما يحدث عقوبة من الحاكم أنزلها بها.
ربما لأنّها جرحت إيلا، الذي يقول الناس إنّه مبارك من السماء.
وإن كان ما تمر به عقابًا، فقد تمنّت لو كانت هي من تتألم، وليس باليريان الذي لم يقترف ذنبًا.
بل إنها صلّت ذات ليلة، تسأل الحاكم أن ينقل الألم إليها بدلاً منه.
هل وصلت صلاتها إلى السماء؟ لا أحد يعلم.
وفجأة…
ارتجف وجه باليريان ارتجافة خفيفة.
كانت إيف تحدّق فيه بشرود، لكنها لم تغفل عن ذلك التغير الطفيف.
“باليريان…؟“
نادته، وإذا به يفتح عينيه ببطء.
تجمّدت في مكانها، مذهولة من المفاجأة.
عيناه الزرقاوان، اللتان ظنّت أنها لن تراهما مجددًا، حدّقتا بها بنظرة باهتة.
حرّك شفتيه الجافتين بصعوبة:
“…قلت لك، ناديني بـ ريان يا إيف.”
“أأنت… أأنت حقًا باليريان؟“
ارتبكت إيف ولم تعد تدري ما تقول، راح الكلام يتداخل على لسانها.
“استيقظت؟ حقًا؟!”
فيض من المشاعر الجارفة اجتاح صدرها، حتى خفق قلبها بجنون.
‘هل هذا حلم؟ أم واقع؟‘
لكي تتأكد، قرصت فخذها بقوة.
“آه!”
شعرت بألم حادّ. أما باليريان، فقد حاول منعها من إيذاء نفسها، فحرّك جسده فجأة وأطلق أنينًا من شدّة الألم.
كان جسده المتعب قد تأذى من الحركة المفاجئة.
قفزت إيف من مكانها، مذعورة.
“انتظر لحظة! سأنادي الطبيب!”
وكادت تنطلق من الغرفة، لكن شيئًا استوقفها.
شعرت بيده تمسك بذراعها، فاستدارت على الفور.
قبضته لم تكن قوية، لكنها لم تجرؤ على الإفلات منها.
“إيف… لحظة فقط.”
ناداها بصوت ضعيف، وكأن لديه شيئًا يريد قوله.
فعادت إليه مسرعة، مستعدة لجلب أي شيء قد يحتاجه.
“هل أنت عطشان؟ هل يؤلمك شيء؟“
أمطرت عليه الأسئلة بلهفة، تنتظر ردّه بتوتر.
لكنه نطق بشيء لم يخطر لها على بال.
“فقط… ابقي بقربي قليلًا.”
ظهرت على شفتيه ابتسامة خفيفة، ممزوجة ببعض المرح.
“لقد اشتقت إليك يا إيف.”
رغم أن كلماته بدت غير مترابطة، إلا أنها فهمت ما يقصده على الفور.
“هل…هل كنت تسمعني؟“
لم يجب.
“ريان، افتح عينيك، أرجوك… هل أنا بهذا السوء حتى لا تريد رؤيتي؟“
جالت العبارات في رأسها، وتوردت وجنتاها خجلًا حين أدركت أنه سمع كل ما كانت تقوله.
احمرّ وجهها بشدة، ولم تعرف كيف تتصرف.
وازداد اتساع ابتسامته وهو يراها بهذا الارتباك.
تلعثمت وهي تسأله:
“هـ–هل سمعت كل ما قلته طوال هذا الوقت؟“
يا رب، لا…
تمنّت أن تكون الإجابة “لا“.
فخلال هذا الشهر، لم تكن تتصرّف بشكل طبيعي.
لم يكن بكاؤها عليه أمرًا نادرًا، بل كانت تبكي وتثرثر وتفضح أسرار قلبها دون تردد، رغم أنه غائب عن الوعي.
‘من أين لي أن أعلم إن كان من لا وعي له يستطيع سماع الأصوات؟!’
في البداية، كانت تنتقي كلماتها بعناية، خشية أن يسمعها.
لكن مع مرور الوقت، ومع كل يوم يمرّ دون أن يستفيق، راحت تتحدث بصراحة… بكل ما في قلبها، دون فلترة.
‘وسمع كل ذلك؟!’
كادت تجنّ من الخجل.
لو كان ثمة طبق من الماء أمامها، لما ترددت لحظة في غمس وجهها فيه والموت غرقًا.
“هاه… حقًا، أرغب في الموت.”
تمتمت إيف بذلك، فما كان من باليريان إلا أن تجهم وجهه فجأة وتكلم بجدية:
“لا تقولي كلامًا كهذا… يا إيف.”
لا يزال مشهدها وهي تحتضر متأثرة بسمّ رئيسة الكهنة عالقًا في ذاكرته حيًّا ومروّعًا كأنما حدث بالأمس.
وما إن رأت إيف وجهه يشحب حتى بادرت بالاعتذار على عجل:
“أنا آسفة.”
لم تكن تتوقع أن بمزحها العابر سيُقابل بهذه الحساسية، فوقعت في الحرج فورًا.
“عديني أنك ستعيشين طويلًا… عيشةً طيبة.”
لكن باليريان، وكأن اعتذارها لم يكن كافيًا، أصرّ على أن يسمع منها وعدًا.
لم تدرك إيف لِمَ يُصرّ على وعد كهذا، لكنها مع ذلك انصاعت بهدوء:
“سأحاول… أن أعيش طويلًا وبخير.”
“جيد.”
عندها فقط، هدأت ملامح باليريان المتجهمة، وارتسمت على شفتيه ابتسامة راضية وهو ينظر إلى الزهور الموضوعة على الطاولة.
“هل هذه هي الزهرة التي كنتِ تحضرينها؟“
“آه… نعم.”
اقتربت إيف من الطاولة مترددة، ثم التقطت الزهرة بطريقة بدت شديدة التوتر.
“إنها الليسيانثِس.”
قالها دون تردد، وقد تعرف على نوع الزهرة من النظرة الأولى.
تفاجأت إيف ولم تحرّك ساكنة، إذ لم تتوقع أن يتعرف عليها بهذه السرعة.
“كيف عرفت؟“
“والدي قدّمها لوالدتي عندما طلب يدها للزواج.”
“ماذا… ماذا قلت؟“
رددت إيف السؤال بتلعثم. هل يعقل أن الدوق قدم هذه الزهرة للدوقة عند الخطوبة؟
“ألم تكوني تعلمين؟ لهذا السبب تمتلئ حديقة القصر بزهور الليسيانثِس.”
‘أوه… ربما، نعم، شيء كهذا رأيته من قبل.’
أخذت تُنقّب في ذاكرتها الضبابية، لكنها لم تتذكر سوى أن الحديقة زاخرة بالأزهار.
حتى لو رأت الليسيانثِس آنذاك، فلا شك أنها لم تكن تعرف اسمها.
هذه الزهرة لم تألفها إلا حين بدأت بزيارته في غيبوبته.
“ومعنى زهرتها هو ‘الحب الأبدي‘. لذلك هي من الزهور التي أحبها.”
قالها باليريان بابتسامة مشرقة، ابتسامة تشبه ضوء الشمس… كم تاقت لرؤيتها وكم انتظرتها طويلًا.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 100"