𝓒𝓱𝓪𝓹𝓽𝓮𝓻 1 (𝓟𝓻𝓸𝓵𝓸𝓰𝓾𝓮)
كان الصمت يخيّم على كلّ شيء.
الحديقة الواسعة، التي كانت تغمرها أشعة الشمس الدافئة، كانت محاطة بأشجارٍ طويلة من جميع الجهات، وكأنها ملاذ لا يمكن لأحد التلصص عليه.
رفعت ليتيير عينيها البنفسجيتين، وحدّقت في مبنى القصر الإمبراطوري الشامخ المقابل لها.
“إلى ماذا تنظرين؟”
امتدت يد طويلة من الأسفل، تداعب ذقن ليتيير بخفة.
أمالت رأسها قليلًا إلى الجانب، ثم خفضته بهدوء.
كان دانتي، مستلقيًا براحة وسكون على حجرها، يحدّق إليها بعينيه.
مرّت أناملها بلطف على خصلات شعره الداكن المتدلّية على جبينه، قبل أن تفتح شفتيها قائلة:
“أريد أن أرى وجهك.”
بدلًا من أن يُجيب، مدّ دانتي يده نحو كفّها التي كانت تمسح جبينه بلطف.
أدخل أصابعه الكبيرة بين أصابع ليتيير الرقيقة، متشابكًا معها كما لو كان يحفظ ترتيبها واحدةً تلو الأخرى.
“دائمًا ما تقولين ذلك.”
شدّ قبضته على يديها المتشابكتين، وسحبها برفق نحو وجهه.
أو لنقل، نحو القناع الصلب الأملس الذي كان يغطي ملامحه.
ذلك القناع الداكن، الذي لم يظهر منه سوى بؤبؤي العينين الغائرين، منحَه هالةً باردة لا تقرب.
“ليتيير.”
أحسّت ببرودةٍ مفاجئة على ظاهر كفها.
لكن في ذات اللحظة، انسابت إلى أذنها نبرةٌ خفيضة، دافئة، ومغرية كنسمة ليل:
“نعم، سموّ الأمير.”
“لقد قلتُ لكِ من قبل… يمكنني أن أُعطيكِ أي شيء ترغبين به.”
زفرت ليتيير زفرة خافتة.
أجل، لم يكن من السهل عليه أن يستجيب لذلك الطلب.
“إذن… ما الذي ينبغي أن أفعل؟”
“بل ما الذي ترغبين في فعله؟”
كان في سؤالها شيء من القسوة، وربما اللوم، لكن ابتسامته جاءت داكنة… غامضة كأنها ظلّ ابتسامة لا يظهر منها إلا الصدى.
“أولاً… أرغب في انتزاع هذا القناع الأسود القاسي عن وجه الأمير.”
“لا بد أن خيالك هو من يجعل الأمر يبدو غريبًا… ثم ماذا بعد؟”
“بعدها، سأقوم بتمسيد وجه الأمير بلُطف، هكذا تمامًا…”
همست ليتيير بصوت خافت، وهي تمرر يدها ببطء على قناع دانتي، كما لو كانت تمرّر أناملها على بشرته العارية.
شعر دانتي بانقباضة خفيفة لا إرادية في فخذه.
“… ثم؟”
“سأداعب عينيك بأطراف أصابعي. فمحيط العين هو أكثر جزءٍ حسّاس في الوجه.”
“همم… يبدو جيدًا. ثم؟”
أومأ دانتي برأسه ببطء، مترقّبًا كلماتها التالية.
“ثم…”
ابتلع ريقه بصمت، دون أن يستطيع كبح نظراته التي استقرّت بثبات على شفتيها الممتلئتين.
في مثل هذه اللحظات، كان يشعر بشيء من الراحة لكونه يرتدي قناعًا سميكًا يُخفي تعابيره.
ثم… بعد لحظة صمت قصيرة.
قالت ليتيير بنبرة صارمة وملامح جادة:
“… سأضع على وجهك الكريم المرطّب الخاص بي.”
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
كان الزقاق الرئيسي في حي أوتريكا التجاري يعجّ بالحركة منذ الفجر.
اصطفّت جموع من الناس في طابور طويل أمام مبنى من طابقين، يقع في أفضل بقعة ضمن ملكية دوق لينيفير.
وصل أحد الفرسان متأخرًا، فاندسّ بخفة إلى الصف الخلفي، وطرق على كتف الشخص الذي أمامه.
“مرحبًا، عندي سؤال… هل مستحضرات التجميل هنا جيدة فعلاً؟”
“عفوًا؟”
التفتت المرأة إلى الفارس باستغراب شديد، كأنها ترى مخلوقًا غريبًا لأول مرة في حياتها.
ففي دوقية لينيفير، لا أحد يجهل شهرة مستحضرات التجميل التي تُباع في هذا المبنى.
“آه… أنا أزور المنطقة لأول مرة، سمعت فقط أن منتجات التجميل هنا مشهورة.”
ارتبك الفارس من نظرتها المندهشة، ولوّح بيديه ليبرر موقفه.
حينها فقط، خفّت حدة نظراتها الحذرة، وتحدثت بلطف:
“طبعًا! إنها ممتازة. لهذا الناس يتهافتون عليها… الشهادات عنها لا تُعدّ ولا تُحصى!”
“آه… هكذا إذًا.”
ابتلع الفارس ريقه وهو ينظر إلى المبنى الشاهق.
وعلى قمته، لاحت لافتة فخمة، صُمّمت خصيصًا بأمر من دوق لينيفير، تتلألأ في وقار:
<متجر مستحضرات لينيفير>
ففي أراضي الدوق، لم يكن هناك مكانٌ آخر يجرؤ على استخدام اسم لينيفير في التجارة.
“لكن… ما قصة الشهادات؟ هل يمكنكِ أن تشرحي لي أكثر؟”
تنهدت المرأة، وقد بدا عليها القليل من الانزعاج، لكنها لم تستطع مقاومة رغبتها في الحديث، إذ بدا الانتظار طويلاً ومملاً.
“ماذا سأقول؟! حتى مركيزة فريزيا المعروفة بتأنّقها وصعوبة إرضائها، اختفت كل مشكلات بشرتها بعد استخدامها مستحضرات لينيفير! لقد مدحتها بشدّة…”
“مشكلات بشرتها… زالت؟”
ردّد الفارس كلماتها بجدّية.
“وليس هذا فقط! حتى الكونتيسة ديليون، التي جاءت من العاصمة لقضاء عطلتها الصيفية هنا، اختفى تمامًا ذلك البقع الحمراء التي لازمتها طوال حياتها!”
“بقعة حمراء؟ هذا مدهش.”
حمست ردة فعل الفارس المرأة، فرفعت كتفيها بفخر وتابعت:
“وحتى حبّ الشباب الذي عانى منه ابني طوال سنوات مراهقته… اختفى تمامًا! وعندما طلب مني المزيد من كريمات لينيفير، جئت خصيصًا لأشتري له.”
“إذا كانت بهذه الفعالية… فلا بد لي من تجربة واحدة.”
“هاه، لقد فُتح المتجر!”
توجّهت الأنظار جميعها إلى الباب الأمامي الذي بدأ ينفتح ببطء.
الموظف، الذي فتح الباب كعادته كل صباح، تراجع خطوة إلى الوراء مندهشًا من طول الصفّ.
رغم أنّ الاكتظاظ كان معتادًا قبل الافتتاح، إلا أن اليوم كان مختلفًا… الحشود لا نهاية لها.
تنفس الموظف بعمق ثم صرخ بأعلى صوته:
“المتجر مفتوح الآن! الرجاء الدخول بانتظام وبهدوء!”
لكن الناس تجاهلوا نداءه واندفعوا إلى الداخل بقوة.
دخل الفارس معهم، وهو يتلفّت حوله باهتمام.
كان الطابق الأول يعجّ بخزائن العرض الأنيقة، وقد صُفّت عليها عبوات متقنة التصميم تحوي مختلف أنواع مستحضرات التجميل.
ماء الوجه، التونر، اللوشن، المستحلبات، السيروم، الكريمات…
“أخبرني، ما المنتج الأكثر طلبًا هنا؟”
“آه… لا تدفعني!”
“لقد أمسكتُ به أولًا!”
تحوّل المكان سريعًا إلى سوق صاخبة يعجّ بالزحام والضجيج، والجميع بدا يائسًا لشراء ولو عبوة واحدة من مستحضرات لينيفير.
في هذه الأثناء، كان الفارس يتجوّل بعينيه باحثًا عن شيء ما… أو شخصٍ ما.
ثم ضيّق عينيه وهو يحدّق إلى الأعلى.
“… هل يمكن أن تكون هي؟”
فوق ذلك الضجيج كلّه، وقفت امرأة وحيدة على درابزين الطابق الثاني، تراقب المتجر بهدوء ووجهها خالٍ من التعبير.
شعرها الأشقر الطويل انسدل على كتفيها، يتلألأ تحت إنارة المتجر الدافئة.
أمسك الفارس بأحد الموظفين وسأله سريعًا:
“مرحبًا، من هي تلك الشقراء بالأعلى؟ هل هي موظفة قديمة في المتجر؟”
“مَن؟ آه! تقصد سموّ الأميرة؟”
تبدّلت ملامح الفارس فور سماعه هذا الاسم.
“ألا تعرف الأميرة ليتيير؟”
“في الواقع، هذه زيارتي الأولى هنا.”
“همم… إنها مالكة المتجر. الأميرة ليتيير لينيفير، هي من تصنع هذه المستحضرات كلها بنفسها!”
انبثق بريق حاسم في عيني الفارس.
وبينما مضى الموظف في طريقه، أطفأ الرجل كل تعبير عن وجهه، وجمّد ملامحه بجمود العسكريين.
“نعم… هي هي.”
تلك الشابة الشقراء لم تكن سوى ليتيير لينيفير، الابنة الوحيدة لدوق لينيفير، والكيميائية العبقرية.
مستحضرات التجميل التي أنتجتها بنفسها ذاع صيتها حتى وصلت إلى العاصمة، وأصبحت اليوم كنزًا لا يُعوّض.
“همم…”
رفع الفارس عينيه إليها، وهو يمرّر أنامله على ذقنه بتفكير عميق.
ـــــــــــــــــــــــــــ
وفي الأعلى، على درابزين الطابق الثاني، كانت ليتيير تراقب المتجر الذي يعجّ بالزوار، وقلبها يخفق بنبضٍ غريب.
“ماذا لو رأت تلك الفتاة في الحلم هذا المشهد؟”
استرجعت ليتيير ذكرى ذلك الحلم… قبل ثلاث سنوات.
في أحد الأيام، حلمت ليتيير لينيفير، الابنة الوحيدة للدوق، بحلمٍ طويل… طويل جدًا.
كان حلمًا يحوي حياةً كاملة، من الولادة حتى الموت.
في ذلك الحلم، كانت امرأة عادية، درست لمدّة عشر سنوات، ثم عملت لخمس سنوات بعد التخرّج، ثم ماتت في حادث انفجار.
“…..”
استيقظت ليتيير ببطء، وأخذت ترمش وهي تحدّق في السقف، حيث ثُبّتت ثريا فاخرة تتدلّى من الأعلى.
لم يكن ملمس الأغطية مألوفًا، ولا ضوء الشمس المندفع من النافذة الواسعة.
“هل كان حلمًا؟ أم شظية من حياة سابقة…؟”
عشرين سنة مريرة…
وربما كانت قد بكت في ذلك الحلم، لأن زوايا عينيها كانت تلمع ببقايا دموع جافة.
فركت عينيها الحمراوين_من أثر البكاء_ بأصابعها الممدودة.
عيناها البنفسجيتان بدتا مغبّشتين، وشعرها الذهبي كان يتوهّج تحت الضوء، ووجهها المستدير الأبيض بدا كمنحوتة
نقية.
رغم استيقاظها لتوّها، كانت مدهشة في جمالها، مرتّبة دون جهد.
ثم فتحت شفتيها، وكانت أولى كلماتها:
“واو… هل متُّ حقًا وأنا أعمل في تلك الوظيفة القذرة؟”
نهــــــــــــــــــــــــــــــــاية الفصل الأول
التعليقات لهذا الفصل " 1"