“آنسة صوفيا، سمعتُ أنكِ عملتِ سابقًا في الأكاديمية الإمبراطورية، أليس كذلك؟”

توقفتُ لحظة أمام سؤال إحدى الأمهات.

“نعم، صحيح.”

“يا إلهي! حقًا؟ العمل في الأكاديمية الإمبراطورية يُعد وظيفة مرموقة، ألا تندمين على تركها؟”

“أبدًا، بل أنا سعيدة الآن. هذه المهنة هي مصدر سعادتي وفخري.”

“أوه، يا أستاذة…”

نظرتها المتأثرة كانت تدل على أني تجاوزت الموقف بسلام.

ابتسمتُ بلطف، مختتمة حديثي مع والدة لوا.

بعد أن غادر جميع الطلاب، نلتُ أخيرًا وقتي الخاص.

فككتُ شعري الذي كان مرفوعًا بعناية، حين خطر ببالي سؤال والدة لوا.

“ألا تندمين على ترك الأكاديمية الإمبراطورية؟”

تمتمتُ لنفسي، وارتسمت على شفتيّ ابتسامة مرة.

“بعد كل ما فعلته لأهرب، لا يمكنني العودة إلى عرين النمر الآن.”

غالبًا ما لا تعلم والدة لوا… أنني تركت منصبي كأستاذة في الأكاديمية وفررت إلى هذا الريف البعيد لأهرب من موت مروّع.

لو أنني بقيت هناك…

بلعتُ ريقي بصعوبة، ووضعتُ يدي على عنقي وقد شعرتُ بوخزٍ خفيف.

لا يمكنني أن أموت كما حدث في الرواية الأصلية.

كنتُ في حياتي السابقة معلمة ابتدائي، ومُحبّة وفية لرواية الفانتازيا “سحر شفرة السيف”.

وفي الوقت نفسه، ها أنا الآن في جسد واحدة من الشخصيات الشريرة التي كانت تُعذّب البطل “جيهار” في الرواية.

امرأة آذت “جيهار” أثناء دراسته في الأكاديمية، ثم قُتلت على يد قوى الظلام بمجرد أن أصبحت بلا فائدة.

ولذا، كان أول ما فعلته بعد تجسدي في جسد “صوفيا” هو… الهرب.

هربتُ قبل أن يتمكن “الظلام” من الاقتراب مني، وقبل أن تتقاطع طريقي مع مجرى الرواية.

استقلتُ من عملي لأول مرة في حياتي، وانتقلتُ فورًا إلى هذه القرية النائية، وها أنا أعيش حياة هادئة أكسب قوت يومي من تعليم أطفال القرية.

ولذلك لم أندم لحظة على وظيفتي السابقة.

بل على العكس، لا أرغب في العودة أبدًا.

بدلتُ حذائي بالكعب العالي إلى حذاء مريح، وصعدتُ إلى الطابق الثاني، متوجهة إلى غرفة… كان من المفترض أن تكون فارغة.

بداخلها، كان هناك صبي بشعر أسود يرقد مغمىً عليه.

كان أحد الأطفال الذين أنقذناهم بالأمس في الغابة. لا بد أنه اصطدم بوحش سحري هناك، فقد كان جسده مليئًا بالخدوش والجروح.

وضعتُ يدي على جسده وتمتمتُ بهدوء:

“تعافَ.”

فششش—

تدفقتْ هالة من الضوء من يدي وتسربت إلى جسده.

صحيح أن صوفيا كانت شخصية شريرة، لكنها كانت ساحرة بارعة. وهو ما أفادني كثيرًا بعد أن حَلَلتُ في جسدها.

بدأ تنفس الطفل يهدأ تدريجيًا مع تأثير سحر الشفاء. تنهدتُ بارتياح وأنا أتفحص وجهه.

⌜كان جيهار يبعثر خصلات شعره الأسود كالفحم بأصابعه.

وفي عينيه الزرقاوين الواسعتين مثل البحر، تَجلّت ملامح ضجرٍ واضح.

“فلنُسرع، فأنا شخص مشغول كما ترى.”⌟

ذلك الشعر الأسود الذي يشبه الوصف تمامًا، وتلك العيون الزرقاء التي لمحتهما قبل أن يغيب عن الوعي، وعمره الذي بدا قريبًا من البطل في هذا الوقت من الرواية…

لماذا، بمجرد أن رأيت هذا الصبي، خطر في بالي “جيهار” من الرواية؟

…لا، مستحيل.

صحيح أن هذه الفترة تزامنت مع هروب جيهار من عائلته، لكن مستحيل أن يكون قد فر إلى هذه القرية بالتحديد.

الإمبراطورية شاسعة.

ضحكتُ بسخرية وهززت رأسي، لكن ملامحي تجمدت فجأة.

ولكن إن كان هذا الطفل هو حقًا جيهار…

“آه…”

عاد تركيزي فجأة حين سمعت أنينه الطفيف.

“هل أنت بخير؟ هل استعادت وعيك؟”

“…أين أنا؟”

“أحضرتك إلى منزلي بعد أن فقدت الوعي في الغابة. يبدو أنك واجهت وحشًا سحريًا هناك.”

نظر الطفل حول الغرفة بعينين حذرتين.

ثم، وكأنه أدرك أن لا خطر هنا، خفت حذره.

خطر؟ لا بد أنه فقط تفحص المكان لأنه غريب عليه، أليس كذلك؟ لا يمكن أن يكون قد بحث عن طريق هروب أو مصدر تهديد بهذه السرعة! جيهار ليس إلا شخصية خيالية…

“هل تؤلمك أي مواضع؟”

“لا، أنا بخير.”

“الحمد لله. لكن ما الذي دفعك لدخول الغابة؟ إنها خطيرة وقد تواجه فيها وحوشًا سحرية تودي بك إلى الموت!”

“…كانت لدي بعض الظروف.”

تهرب بعينيه وهو يجيب، مما ذكرني بجيهار كما صُوّر في الرواية.

لا بد أنها مجرد أوهام.

ابتسمتُ بأقصى ما أستطيع كي أبدو طبيعية.

“المهم أنك بخير. هل تشعر بالجوع؟ أحضر لك شيئًا لتأكله؟”

“لا بأس…”

قَررررغ—

حلّ الصمت.

كتمتُ ضحكتي ونهضت.

“سأحضر لك شيئًا. وصلتني للتو كمية خبز طازج لذيذ.”

“…أرجوكِ.”

“بكل سرور. صحيح، ما اسمك؟”

أرجوك، لا تقل جيهار…

تشنّجتُ وأنا أمسِك بمقبض الباب. الطفل تردد قليلًا قبل أن يجيب:

“…ريزي. اسمي ريزي.”

“آه، ريزي… فهمت.”

ابتسمتُ وكررت اسمه لنفسي، ثم خرجت من الغرفة وأنا أطلب منه الانتظار قليلًا.

“هاه…”

ما إن خرجت إلى غرفة الجلوس حتى أطلقت تنهيدة طويلة كنتُ أحبسها.

وضعتُ وجهي بين كفيّ، ورددتُ الاسم بصوت منخفض:

“ريزي… ريزي…”

لكن رغم أن الاسم لم يكن “جيهار”، لم أستطع أن أفرح تمامًا.

“ريزي”…

كان هذا هو الاسم المستعار الذي استخدمه جيهار في الرواية بعد أن هرب من عائلته ليخفي هويته.

—

في بداية الرواية، يتعرض جيهار لمحاولة اغتيال من عائلته، آل “إليوت” النبيلة.

ويفرّ بعدها إلى قرية ريفية نائية تقع بعيدًا عن الأراضي التابعة لعائلته، حيث تبدأ رحلته لاستعادة مكانته.

لكنني أغفلت شيئًا مهمًّا…

من كان يظن أن تلك القرية الريفية ستكون ذاتها القرية التي لجأتُ إليها؟

صعدت تنهيدة ثقيلة إلى حلقي.

هربتُ من الرواية… لأجد نفسي قد قفزتُ إلى قلبها بقدميّ!

بل وقبل أن تبدأ أحداثها أصلًا!

تنهدتُ لا إراديًّا.

كان ريزي—لا، جيهار—يلتهم الخبز بجوع، لكنه توقف فور سماعه صوت تنهيدتي.

“آه، لا تقلق. لم أتنهد بسببك. تابع طعامك، هل يعجبك مذاقه؟”

“نعم… لذيذ.”

“الحمد لله. هل تحتاج شيئًا آخر؟”

“لا، شكرًا.”

راقبتُ جيهار وهو يتناول طعامه بنهم.

لا أعلم إن كان هذا بسبب مهنتي القديمة، لكن رؤية طفل صغير يأكل بانتظام ويمسح الطبق نظيفًا أثارت في نفسي شعورًا بالفخر.

وفوق ذلك… مجرد فكرة أن جيهار من الرواية جالس أمامي، جعلت قلبي يغمره شعور لا يوصف.

دق، دق، دق—

فجأة، سُمِع صوت طرق على الباب.

ارتبك جيهار، وأسقط وعاء الحساء من يده، وكان على وشك الانسكاب، لولا أنني تحركتُ بشكل غريزي:

“عودي.”

توقف الوعاء في الهواء ثم عاد أمامه كما كان، دون أن تُراق منه قطرة.

نظر إليّ، ثم إلى الوعاء بذهول.

“…قبل قليل، هل كان ذلك سحرًا؟”

“مم؟”

تلاقى نظرنا.

“ذلك الذي فعلتِه، كان سحرًا؟”

“أجل. كنت أُدرّس السحر في الماضي.”

“وما زلتِ تُدرسينه؟”

“هم؟”

“أقصد، هل تُعلّمين السحر الآن أيضًا؟”

بدت في عينيه لمعة غريبة حين سأل.

لم أفهم ما يقصده، فأجبتُ:

“لا؟ أنا فقط أُعلّم أطفال القرية القراءة والحساب لا أكثر.”

“ولِمَ لا تُدرسين السحر؟”

“لأن الموهوبين في السحر نادرون، ومن الصعب العثور على شخص يملك الموهبة في قرية صغيرة كهذه…”

“آنسة صوفيا، هل أنتِ في الداخل؟”

قاطعني صوت أمٍّ أعرفها من خلف الباب، مع طرقات خفيفة.

نظرتُ نحو جيهار، ثم خرجت.

بعد أن تحدثت مع الأم وأخذت الخبز، عدتُ إلى الداخل لأجد جيهار يتناول الحساء بهدوء.

هل سأل عن السحر بدافع الفضول فقط؟

تساءلتُ وأنا أضع الخبز الساخن أمامه.

حسب الرواية، فإن بقاء جيهار في هذه القرية لن يتجاوز أسبوعًا.

بعد ستة أيام تقريبًا، سيرحل من هنا، وهناك سيصادف فرصة نادرة ويبدأ تعلم فنون السيف.

وحينها… سأكون قد نجوت تمامًا من الرواية.

كل ما عليّ فعله هو ألا أثير الانتباه… وأستمتع بمشاهدة شخصيتي المفضلة عن قُرب.

شدَدتُ قبضتي حول الملعقة بحماسة.

لم أكن أعلم حينها…

لماذا سألني جيهار عن السحر تحديدًا.