الفصل 12
طَـرق، طَـرق—
طرقتُ الباب نصف طرقة لأنّني لم أسمع صوت قرع عادي.
سمعتُ صوت خطوات ثقيلة من الداخل، ثمّ فُتح الباب.
“ما الأمر بمجرّد خروجكِ؟”
“أتسألين لأنّك لا تعرفين؟”
“ماذا؟”
أقسم أنّني لم أكن أعلم أنّني قد أكون وقحة ومتهجّمة إلى هذا الحدّ.
في غياب والديّ، شعرتُ أنّني الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها في هذا العالم، وهذا جعلني أصبح أكثر عدوانيّة.
‘لا أحد يحمي الأطفال سواكِ. لذا، يا إليزابيث هيرنغتون، عليكِ أن تكوني أقوى من أيّ شخص.’
لا تخافي. لا تنكمشي.
هكذا وعدتُ نفسي، ثمّ دفعتُ جسدي بجرأة داخل غرفتها.
“لماذا يجب أن يُعاقب دانيال معهم؟ إنّه الضحيّة.”
“لقد تسبّب في مشكلة.”
“أيّ مشكلة؟ هم من بدأوا بالسّخرية منه.”
“على أيّ حال، الذي يُسخر منه لديه مشكلة أيضًا، أليس كذلك؟”
يا لها من عجوز مجنونة!
“تقولين إنّ الضحيّة لديه مشكلة؟ من أين أتى هذا المنطق؟ إذن، لو ضربتُكِ الآن يا سيّدة ميلر، هل يجب أن نتأمّل معًا لأنّكِ أنتِ من لديه مشكلة؟”
“ماذا؟ أيتها الفتاة الوقحة!”
“اعتذري لدانيال فورًا. ولا تفكّري به بهذه الطريقة مجدّدًا. إنّه أطيب وأذكى من أيّ شخص!”
عند كلامي، هزّت رأسها بنزق واضح.
لم يبدو أنّها تستمع إلى الحوار بأيّ شكل.
“كفى، لا أريد سماع المزيد!”
“إنّه تجاهل للتنمّر وعقاب غير عادل!”
“هل دانيال وحده من ضُرب؟ لقد ضُرب الآخرون أيضًا! كيف تتجرّئين على الردّ على الكبار؟ أنا المسؤولة هنا! إذا قلتِ هذا مرّة أخرى، سأرميكِ في غرفة العقاب مجدّدًا!”
“هه! ارميني إذن! سأبلّغ عنكِ!”
“أيتها الفتاة الناكرة للجميل!”
عندما ارتفع صوتي، ارتفع صوت السّيّدة ميلر تلقائيًا.
رفعت يدها عاليًا.
تسارعت دقّات قلبي للحظة، لكنّني لم أرد إظهار الخوف، فرفعت صدري ونظرتُ إليها مباشرةً.
عند رؤيتي هكذا، توقّفت يدها في الهواء وهي تنفث غضبًا وتنظر إليّ.
ثمّ رسمت ابتسامة خبيثة.
“حسنًا، سأعتذر لدانيال.”
“…….”
ستعتذر؟ هل فزتُ؟ هل نجح مطلبي مع السّيّدة ميلر؟ هل خافت من التّبليغ؟
تسارعت الأفكار في ذهني.
أربكني تغيّر سلوكها المفاجئ.
بينما كنتُ متردّدة في الرّدّ، أخرجت السّيّدة ميلر شيئًا من درج مكتبها وناولتني إيّاه.
“سأعتذر لدانيال على انفراد، فاذهبي الآن لقضاء مهمّة.”
“مهمّة؟”
ما هذه المهمّة المفاجئة؟
“الأطفال الآخرون صغار جدًا للذهاب، لكن يبدو أنّكِ مناسبة.”
تجعّد وجهي وأنا أتساءل عما تتحدّث.
لم تهتم بتعبير وجهي واستمرّت في حديثها.
“المكان بعيد عن مكتب البريد، لذا يجب تسليم الرّسالة مباشرةً. إنّها للعجوز لافييرا التي تعيش في شارع مويرا، رقم 18، بجوار ساحة دراجي.”
“لحظة، أنا لا أعرف شيئًا عن المنطقة!”
“الآن السّاعة الثّانية بعد الظّهر، إذا أسرعتِ، يمكنكِ العودة قبل اللّيل.”
ثمّ أعطتني السّيّدة ميلر رغيف خبز من على مكتبها وقالت إنّني يمكن أن آكله في الطّريق.
بعد جوع قاسٍ، اجتاحني عطر الخبز، فبدأتُ أمزّقه بشراهة، نسيتُ كرامتي ومظهري.
ناولتني السّيّدة ميلر كوبًا من الماء من الإبريق.
بعد أن ملأتُ بطني بسرعة، شعرتُ وكأنّني أُحييت.
“إذا انتهيتِ من الأكل، انطلقي الآن.”
“لكن…”
“شارع مويرا يبعد خمس مربّعات سكنيّة فقط إذا سلكتِ شارع كومون. اذهبي بسرعة!”
صرخت السّيّدة ميلر بنزق وهي تدفعني للخارج.
أضافت بين الحين والآخر أنّه إذا لم أذهب، قد يحدث شيء سيء لكلّ دار الأيتام، فوجدتُ نفسي في الشّارع دون أن أدرك.
“ما هذا؟”
لم يمرّ سوى أيّام قليلة منذ وصولي هنا، وها أنا أُرسل في مثل هذه المهمّة؟
لقد ذهبتُ للمطالبة بالاعتذار، فكيف انتهى بي الأمر هكذا؟
شعرتُ وكأنّ شبحًا قد سحرني، لكن بما أنّني خرجتُ بالفعل، قرّرتُ إنهاء المهمّة بسرعة.
‘اعتذارها المفاجئ مشبوه.’
لكن بما أنّ المهمّة هي مجرّد تسليم رسالة، ركّزتُ على إيجاد الطّريق.
كونها قرية ريفيّة جعل الطّرق منظّمة، فلم يكن العثور على المكان صعبًا.
لكن كلّما تقدّمتُ، أصبحت الأجواء في الحيّ أكثر قتامة، ممّا أثار قلقي.
‘كأنّني…’
عندما كنتُ في سييرا، حذّرني والدي من أشياء معيّنة.
أحدها كان عدم الذّهاب إلى الأحياء الخلفيّة في سييرا، وقد أصرّ على ذلك مرارًا، فوعدتُه ألّا أقترب منها أبدًا.
لكن الآن، شعرتُ وكأنّني أخلفتُ ذلك الوعد.
كانت الأجواء في الحيّ سيّئة إلى هذا الحدّ.
القيء المتناثر وقطع الزّجاج المكسور في منتصف الطّريق كانت أمورًا بسيطة.
الجوّ القاتم والنّظرات الحذرة من بعض السّكّان الذين يراقبون المارّة جعلتني أشعر…
‘بالخوف… كأنّني دخلتُ مدينة الجريمة. عليّ تسليم الرّسالة والعودة بسرعة.’
مع هذا التّفكير، أسرعتُ في خطواتي.
‘العجوز لافييرا التي تعيش في شارع مويرا، رقم 18، بجوار ساحة دراجي.’
كنتُ أردّد العنوان في ذهني عندما وصلتُ إلى رقم 18.
“يا.”
أمسك أحدهم كتفي فجأة.
التفتُّ مذعورةً، فوجدتُ فتاة في مثل عمري تحدّق بي بعبوس.
“إلى أين أنتِ ذاهبة؟”
“ماذا؟”
“هذا شارع مويرا.”
“وما المشكلة؟”
“أتسألين لأنّكِ لا تعرفين؟”
“آه… آسفة، لم يمرّ وقت طويل منذ وصولي إلى هنا.”
“يا إلهي، هل تعرفين أيّ يوم هذا؟ إنّه يوم مزاد العبيد.”
“عبيد؟”
يا إلهي، ماذا سمعتُ للتو؟
سمعتُ أنّ هناك عبيدًا في الإمبراطوريّة، لكنّني، كوني عشتُ في منطقة سييرا الخاصّة التي لا يوجد بها نظام طبقيّ، لم أرَ واحدًا قطّ.
كم مرّ من الوقت منذ مغادرتي سييرا حتّى أرى مزادًا للعبيد؟
“أنا في مهمّة. هل هو خطير جدًا؟”
“أتسمّين هذا سؤالًا؟ إذا ذهبتِ إلى الطّريق الرّئيسي حيث يتجمّع النّبلاء، قد تُختطفين، لذا من الأفضل أن تأخذي الطّرق الجانبيّة… لا، تعالي معي.”
أشارت الفتاة بذقنها وسحبتني معها.
بينما كانت تقودني، شرحت لي:
“في يوم مزاد العبيد، لا يجب التّجوال في هذا الحيّ بلا مبالاة. من أرسلكِ في مثل هذه المهمّة؟”
“مديرة دار الأيتام.”
“يا إلهي، هل أنتِ من تلك الدار في الحيّ السّفلي؟”
“نعم… لماذا؟”
نظرت الفتاة إليّ من أعلى إلى أسفل بعبوس.
ثمّ نقرت بلسانها باختصار.
“أنتِ حقًا مثيرة للشّفقة. سمعتُ أنّ مديرة تلك الدار سيّئة السّمعة.”
“حقًا؟”
“سمعتها سيّئة. الأطفال هناك هزيلون، بينما هي سمينة وتتردّد على متاجر الملابس الرّاقية.”
يبدو أنّ السّيّدة ميلر سيّئة السّمعة حتّى خارج المنطقة.
حسنًا، لقد أدركتُ ذلك منذ اليوم الأوّل عندما سرقت المال من حقيبتي.
“أنا وصلتُ مؤخّرًا، لذا لا أعرف الكثير.”
“أليس صحيحًا أنّ الأطفال هناك يهربون كثيرًا؟”
“يهربون؟ هل هذا صحيح؟”
“سمعتُ أنّه في كلّ عام، يهرب طفل أو اثنان. إنّهم دائمًا يهربون ويُسبّبون المتاعب.”
“يا إلهي، ألا تتّخذ الحكومة أو المؤسّسات الإمبراطوريّة إجراءات؟”
“بما أنّ المديرة لم تُستبدل بعد، فلا بدّ أنّها تستخدم حيلة ما. ربّما لا تعرفين، لكن هذا المكان ليس جيّدًا.”
“لديّ أشقّاء هنا. أريد نقلهم إلى مكان أفضل، هل هناك دار أيتام أخرى قريبة؟”
“لا أعلم عن وجود واحدة في الجوار.”
“هاه…”
كان هذا الكلام محبطًا.
لا يوجد واحدة قريبة؟
لم يبقَ سوى أشهر قليلة على يوم ميلادي الخامس عشر.
إذا استمرّ الأمر هكذا، قد أُرسل وحدي إلى مؤسّسة أخرى، ويبقى دانيال وليو تحت إدارة السّيّدة ميلر.
هذا التّفكير أثار قلقي.
عندما رأت تعبيري المتشنّج، قالت الفتاة بنبرة تعاطف:
“أتمنّى أن تُنقلي إلى مكان آخر قريبًا. آه، لقد وصلنا. إذا مررتِ بهذا الزّقاق، ستصلين إلى مفترق. انعطفي يمينًا. لا تذهبي يسارًا أبدًا، لأنّه سيأخذكِ إلى سوق العبيد.”
“شكرًا على مساعدتكِ.”
“رأيتُ فتاة مرتبكة مثلكِ تتجوّل في مكان سيء، فأشفقتُ عليكِ. حسنًا، أتمنّى لكِ الحظّ.”
بعد تحيّة ساخرة، غادرت الفتاة دون أن تخبرني باسمها.
كون السّيّدة ميلر هي أوّل شخص قابلته في إمبراطوريّة كيرزن، ظننتُ أنّ الجميع هنا مثلها.
لكن يبدو أنّ الأمر ليس كذلك دائمًا.
لقد مدّت يدها لي وأنا على وشك الوقوع في مكان خطير.
أردتُ ردّ جميلها يومًا ما، فأسرعتُ نحوها.
“يا!”
“يا إلهي! ما الأمر؟ هل ضللتِ الطّريق؟”
“ليس هذا… هل يمكنكِ إخباري باسمكِ؟”
“اسمي؟”
فتحت الفتاة عينيها بدهشة.
ابتسمتُ بخجل وقلبي:
“أنا إليزابيث هيرنغتون. اليوم هو لقاؤنا الأوّل، وربّما لا نلتقي مجدّدًا، لكنّني أريد معرفة اسمكِ. قد تحتاجين إلى مساعدتي يومًا ما.”
ابتسمت الفتاة وقالت:
“أنا أوليفيا ريفيرا.”
“أوليفيا ريفيرا…”
ردّدتُ اسمها بهدوء في فمي.
أردتُ أن أتذكّر أوليفيا ريفيرا جيّدًا.
“شكرًا.”
“ما الذي فعلته؟ حسنًا، يا آنسة هيرنغتون، إذا كتب لنا اللّقاء، سنرى بعضنا مجدّدًا.”
لوّحت أوليفيا بيدها وغادرت قائلة إنّ عليها الذّهاب.
تبعتُ الطّريق الذي أرشدتني إليه أوليفيا عبر الزّقاق.
مزاد العبيد؟ مجرّد التّفكير به مخيف ومرعب.
كوني من سييرا بلا طبقة اجتماعيّة، لم أفهم أمر النّبلاء والعبيد.
يبدو أنّ الأمر نفسه ينطبق على الإمبراطوريّين، فالذين من طبقات دنيا يحلمون بالهروب إلى سييرا.
لكن، وفقًا للقواعد، الإمبراطوريّون يظلّون إمبراطوريّين إلى الأبد، والسييرايون سييرايون إلى الأبد.
لذلك، يعيشون كمهاجرين غير شرعيّين ويقومون بأعمال غير قانونيّة.
ومع ذلك، لا يقلّ عدد الإمبراطوريّين الذين يتسلّلون إلى سييرا، لذا تُجرى تفتيشات على الطّرق المؤدّية إلى سييرا مؤخّرًا.
‘نظام الطّبقات يُسبّب فوضى بين سييرا والإمبراطوريّة.’
سمعتُ أنّ وجود نظام الطّبقات أو عدمه يُسبّب صراعات اجتماعيّة وثقافيّة كبيرة.
لكن كلّ هذا سمعتُه من والديّ، وبما أنّني وُلدتُ ونشأتُ في سييرا، فأنا سييرايّة حتّى النّخاع ولا أعرف الكثير.
بينما كنتُ غارقةً في التّفكير، ظهر مفترق أمامي.
كنتُ على وشك الانعطاف يمينًا كما قيل لي.
“اتركني! قلتُ لكَ اتركني!”
أوقفني صوت مألوف.
مع شعور بالرّيبة، اجتاحني القلق والقشعريرة.
“أيّها الأوغاد! اتركوني!”
صوت شابّ في مرحلة تغيّر الصّوت ونبرة حادّة.
من المقطع الصّغير، عرفتُ صاحب الصّوت.
“إدوارد…؟”
✧ تـرجـمـة: مـيـل ~☆
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 12"