علقت رائحة الدم في الهواء.
قماشٌ محترق، دخان، حديد، دم. لسعته هذه الرائحة الكريهة المختلطة وجعلته يرتجف.
وسط أنقاض السجن المنهار، والأعمدة المكسورة والقضبان المتناثرة في كلّ مكان، كان لُــوفانتي يرقد في المنتصف.
تخلّل دمه الغبار وافترش على الأرض.
دمٌ طازج، دم قرمزيٌّ ساخن.
رمش لُــوفانتي، وقد بدأ وبصره يتلاشى.
فكّر.
هل سأموت؟ ربما.
لكن لم يكن هناك ندم.
كان يموت لحماية شارل.
كان تنفّسه عميقًا وبطيئًا.
كان جسده كلّه يؤلمه، كما لو كان يُوخَز بالإبر، لكن ما كان يؤلم قلبه أكثر هو صوت بكائها وهي تحتضنه.
كانت شارل تبكي. كانت تبكي بشدّة، كما لو كانت قد فقدت عقلها.
“لا… أرجوك لا…”
عانقت لُــوفانتي بشدّةٍ وصرخت،
“هذا لا يمكن أن يحدث.”
كانت شهقاتها ترتجف قليلاً، ويداها تهزّان جسد لُــو، كما لو كانت تعتقد أن ذلك سيعيده إلى وعيه.
بطريقةٍ ما، شعر بالارتياح.
شعرتُ وكأن شارل تحبّني حقًا.
شعرتُ وكأنها تعشقني بصدق.
شعرتُ وكأن هذا هو سبب حزنها الشديد على موتي.
كنتُ أعلم أنه لا ينبغي لي أن أفعل هذا، لكنني لم أستطع إلّا أن أبتسم.
“…شارل.”
رفع لُــوفانتي يده الضعيفة ولامس خدّ شارل.
“أنا آسف.”
“لماذا… لماذا أنتَ آسف؟ ليس لديكَ ما تعتذر عنه.”
“فقط، لأنني سأترك شارل خلفي هكذا.”
أمسكت شارل بيده بقوّة. ارتجفت رموشها المبلّلة بالدموع. ارتجفت كما لو أنها لا تستطيع التنفّس.
“لا. لا.”
خفضت شارل رأسها، ممسكةً بيد لُــو بقوّة.
“لا تَمُت. لا يمكنكَ أن تموت. أرجوك. أتوسّل إليك …”
لم تتخيّل قط أن لُــو سيموت بسببها.
ألم تكن هي مَن حاولت الهرب، خائفةً من أن يتأذّى لُــو بسببها؟
والآن أن يموت لُــو.
‘بسببي، من بين كلّ الناس.’
أُلقي القبض على أدريان بالفعل من قِبل الجنود، وكان عملاء كاتاكل مُقيّدين أيضًا، لكن هذا لم يكن يُهمها بشعرة.
بالنسبة لشارل، كان هناك أمرٌ واحدٌ فقط مهم.
لُــو يمكن أن يموت.
“لُــو.”
أخرجت شارل المشاعر المحفورة في أعماق قلبها، تلك التي ظنّت أنها لن تتمكّن من الاعتراف بها أبدًا.
“أحبّك.”
دفنت وجهها في كتفه وقالت.
“أحبّكَ كثيرًا. لذا أرجوك…”
ارتجفت شفتاها. غمرت الكلمة الوحيدة التي خرجت من شفتيها قلبها.
مدّ لُــو يده الضعيفة إلى رأس شارل. تمسّكت شارل بيده بقوّةٍ أكبر وخفضت رأسها.
“لا تَمُت.”
شعرت بأنفاسه الخافتة، فضغطت بشفتيها على شفتيه. شعرت بحرارة جسده الدافئة.
شارل، وكأنها مصمّمةٌ على ألّا تنسى تلك الأنفاس وتلك الحرارة الجسدية، ضغطت بشفتيها بيأسٍ أكبر.
اختلطت أنفاسهما،
واختلطت قلوبهما،
وسقطت الدموع التي كانت تتدفّق من عيني شارل على خديّ لُــو.
في تلك اللحظة، شعرت برعشةٍ غريبةٍ في الهواء.
“هاه، هاه؟”
سمعت شهقات تملأ المكان.
ملأ ضوءٌ ساطعٌ الغرفة.
كان مصدر ذلك الضوء هو لُــوفانتي.
فتحت شارل عينيها المغلقتين. أبعدت شفتيها عن خاصته برفقٍ ونظرت إلى لُــو. شعرت بالحياة تتسلّل ببطءٍ إلى خدّيه الشاحبين.
“لُــو…؟”
فغرت شارل فاهها، وهي تفحص جسد لُــو. كان الضوء منبعثًا منه. بالتحديد، كان من الوشم المحفور على جسده.
ثم أدركت فجأة.
“… الأثر المقدس.”
نعم. كان ضوء الأثر المقدّس المنقوش على جسد لُــو يتسرّب منه.
دفّأ ذلك الضوء سجن الإمبراطورية البارد.
كما لو كانت بداية معجزة، وفاءً لوعدٍ طال انتظاره.
“سموّه على قيد الحياة!”
“أحضِروا الطبيب!”
“انقُلوا صاحب السموّ فورًا!”
سارع مَن فهموا الموقف إلى حماية لُــو.
ثم، شارل …
“اعتقلوها مجددًا! اربطوها واحبسوها في السجن!”
رغم جهود داميان، أُعيد القبض عليها.
لم يكن لدى شارل أيّ نيّةٍ للهرب.
لم تستطع ترك لُــو خلفها دون أن تعرف إن كان حيًّا أم ميتًا.
حتى لو أُعدِمت، لفضّلت الموت.
ليتها تتأكد أن لُــو على قيد الحياة.
ليتُه يعيش.
فمدّت شارل يدها بخنوع، ليتمّ القبض عليه.
لكن حينها.
“اتركوها وشأنها.”
رنّ صوتٌ مألوفٌ في أرجاء المكان.
صوتٌ مَهيبٌ ووقور. أدارت شارل رأسها ببطءٍ نحو الصوت.
كان الإمبراطور هناك.
لم يكن بمظهره المعتاد من النظافة والترتيب، بدا مظهره أشعثًا بعض الشيء، لكن نظرته الحادّة العميقة لم تتغيّر.
حدّق الإمبراطور في شارل.
ثم أصدر أمرًا لجنوده.
“لا. دعوها بجانب لُــوفانتي.”
اتّسعت عيون الجنود بدهشة.
“جلالتك! لكن…!”
“هي لن تؤذي لُــوفانتي.”
لكن الإمبراطور تحدّث بحزم، كما لو كان الأمر مُسلَّمًا به.
“شرط تفعيل الأثر هو دموع مَن يُحبّ بما يكفي للتضحية بنفسه.”
“…..”
“لأنها هي مَن أنجزت ذلك، مَن قامت بتفعيل الأثر المقدّس.”
استمع الإمبراطور إلى تنفّس لُــوفانتي المنتظم وهو يُحمَل بعيدًا.
“شارل مَن أنقذت لُــوفانتي.”
* * *
نظرتُ إلى لُــو، الذي كان مستلقيًا على السرير.
مرّت أيامٌ على الحادثة، ومع ذلك ظلّ جفناه مغلقين. كان تنفّسه خافتًا، لكن خوفًا من أن يتلاشى حتى ذلك، حدّقتُ في صدره، كما لو كنتُ أتحقّق من نبضه.
كان وجه لُــو شاحبًا.
ارتجفت جفونه وكأنّ عروقه تكاد تبدو من تحتها، وكانت شفتاه جافتين بلا دماء.
وضعتُ يدي على رأسه. في اللحظة التي لامسته فيها أطراف أصابعي، خفق قلبي بشدّة. كان جسده باردًا جدًا.
أنا، لا أحد غيري، مَن جعل هذا الرجل الدافئ باردًا هكذا.
لم أقل سوى كلماتٍ جارحة، ثم ابتعدتُ عنه ببرود.
والآن، ضحّى هذا الرجل بحياته لإنقاذي.
مع أنه لم يمت بسبب الآثار، إلّا أن رؤية لُــو، الذي لم يستيقظ، لا تزال تُعذّبني بفيضٍ من الذنب.
« أنقذت شارل لُــوفانتي.»
مهما قال الإمبراطور، فإن الذنب المتأصّل في داخلي لن يزول. لم أستطع اجتثاثه.
لهذا تمتمتُ بلا نهاية.
أنا آسفة. أنا آسفةٌ على خطأي.
لذا.
“… لُــو.”
انفرجت شفتاي بين الحين والآخر.
“من فضلك، افتح عينيك.”
أعلم أنها أمنيةٌ أنانية.
لكنني لم أستطع تحمّلها دون أن أطلب.
أسندتُ جبهتي بحرصٍ على ظهر يده.
زادت حرارة جسده الباردة من قلقي.
شعرتُ وكأن وجوده يتلاشى حتى في هذه اللحظة.
لذلك تشبّثتُ به أكثر.
“ليتني قلتُ إني أُحبكَ من قبل.”
يأتي الندم دائمًا متأخرًا.
تذكّرتُ بوضوحٍ الأيام التي شككتُ فيها بصدقه وكنتُ مشغولةً بإدارة ظهري له.
أدركتُ أخيرًا كم كنتُ قاسيةً آنذاك. أغمضتُ عينيّ بقوّة، وشعرتُ بالدموع تتدفّق من جديد.
“أنا آسفة.”
كنتُ أعتقد أن شخصًا مثلي لا يستحق الحب.
ومع ذلك، لقد أحبّني.
وهذا جعلني أشعر بندمٍ أكبر.
“… ما الذي تأسفين عليه، شارل؟”
في تلك اللحظة.
تردّد في أذني صوتٌ مألوف.
ذلك الصوت، الذي افتقدتُه بشدّة، الذي اشتقتُ لسماعه أكثر من أيّ شيءٍ آخر، لمس أذني برفق.
حبستُ أنفاسي ورفعتُ رأسي.
كانت عيناه مفتوحتين، وينظر إليّ.
“أنا سعيدٌ لأنني تمكّنتُ من إنقاذكِ.”
ارتفعت زوايا فم لُــو قليلاً.
كانت ابتسامته حنونةً ودافئة، كادت أن تُوجِع قلبي.
هذا الشخص الذي وضع نجاتي فوق معاناته.
لطالما أحبّني أكثر ممّا أحببتُ نفسي.
“لُـــو!”
عانقتُه وانفجرتُ بالبكاء.
ارتفعت كتفي المرتعشتان وانخفضتا بلا انقطاع. قد أبدو بائسةً وأنا أبكي بين ذراعيه، لكن لم أستطع كبح هذه الدموع.
الوقت الذي فاتني، والمشاعر التي ابتعدتُ عنها، تدفّقت كلّها كالفيضان.
“شارل.”
نادى اسمي بصوتٍ خافتٍ وهادئ. كأنه يُمسِك بي أخيرًا في نهاية حلمٍ طويل، بيأسٍ شديد.
“هل تحبّينني؟”
أومأتُ برأسي باستمرار.
“نعم.”
وبدون تردّد، أجبتُ.
“أحبُّك.”
أخذتُ نفسًا عميقًا وضغطتُ جبهتي على جبهته.
“أحبُّكَ حقًا.”
“وأنا أيضًا.”
وضع لُــو يده على خدي وهمس.
“أحبّكِ.”
حسمتُ أمري.
يجب أن أعيش.
لذا، يجب أن أشعر بالحبّ وأمنحه للُــو وأنا بجانبه.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات