1
المقدمة
إيليا ريشار.
كانت تُحبّ النّاس. لا أكثر من تبادل الأحاديث ومشاركة المشاعر مع الآخرين.
لكنّها لم تكن تدري شيئًا عن النوايا السوداء التي يُخفيها ليفيوس خلف ابتسامته الطيبة.
“هل تقولين إنّكِ ستموتين قريبًا؟ لقد أضعتُ وقتي إذًا.”
“……ليڤيوس؟”
ما إن انتشرت أخبار إصابتها بمرض عضال يُنهك جسدها يومًا بعد يوم، حتّى جاء خطيبها وكلّ شيء لها، ليفيوس، لزيارتها. بدت لإيليا نظراته التي كانت تنقط عسلًا سابقًا وقد أصبحت حادّة كأنّها ستُمزّقها في أيّ لحظة، أمرًا غريبًا يصعب التآلف معه.
“حتى جلالة الإمبراطور تخلّى عنكِ، فلماذا عليّ أنا أن ألتقط القمامة؟ هل يُعقل أن أعيش أرملًا لبقيّة حياتي بسبَبك؟ القانون الغبي وحده مَن جعلكِ أميرة.”
كان من قوانين الإمبراطوريّة أنّ من يتزوّج أحد أفراد العائلة الإمبراطوريّة لا يُسمح له بالزواج مجدّدًا، حتّى لو تُوفّي الطرف الآخر.
ليڤيوس كان يُعلن رغبته في فسخ خطوبته مع إيليا. أن يتخلّى عنها وهي عند حافّة الهاوية.
“ما هذا، ما الذي…”
“أصبحتِ لا تفهمين بسبب اقتراب موتكِ؟ هل فهمتِ الآن؟ أنتِ مجرّد أميرة بالاسم لا أكثر، بلا أيّ دعم أو فائدة. لا حاجة لي بكِ.”
“ك، كيف يُمكنك، آآه!”
أمسكت إيليا بليڤيوس وهي تذرف الدموع، لكنّه دفعها بيده بعيدًا فتدحرج جسدها على الأرض. لم تَبقَ أيّ علامة تُشير إلى أنّ هذا الرجل الذي همس لها قائلًا إنّه يُحبّها، وأنّه سيبقى بجانبها مهما واجهتهما الأخطار، هو ذاته خطيبها ليڤيوس.
“أين تظنين نفسكِ تضعين يدكِ؟ قلتُ لكِ، جلالة الإمبراطور تخلّى عنكِ لأنّكِ بلا فائدة. هل تظنّين أنّ مثلكِ تليق بي؟ ربّما موتكِ الآن سيكون أفضل من رؤية مزيد من المشاهد المقزّزة.”
“هاه، هاااه!”
بينما كان ليفيوس يتقيّأ سُمّه، راحت إيليا تلهث بشدّة وهي تمسك بصدرها من شدّة الألم الناجم عن اصطدامها بالأرض. وفجأة، شعرت بالغثيان.
“أووه.”
تفجّر الدم من فمها، ومع الألم الحادّ الذي اجتاح جسدها، راحت إيليا تبكي بحرقة.
“أريد، ههق، أن أعيش. لا، لا أريد أن، أوه، أموت.”
“ما هذا، هل تموتين فعلًا أمامي؟”
حين رأى ليڤيوس عينيها وقد فَقَدتا تركيزهما، فزع وفرّ هاربًا من الغرفة، ودخلت الوصيفات على الفور وبدأن بتنظيف الغرفة الملطّخة بالدماء بينما أرسلن في طلب الطبيب.
‘لا أريد الموت هكذا. ليڤيوس، ليڤيوس!!’
وفيما بدأت تفقد وعيها تدريجيًّا، لم يكن يدور في رأس إيليا سوى صورة ظهر ليڤيوس وهو يفرّ منها، تاركًا إيّاها تتلوّى من الألم.
—
1. حياة مؤقتة بائسة (1)
“ما الجميل في البطل الطاغية؟”
هكذا فكّرتُ بعد أن أنهيت قراءة جميع فصول الرواية ملكة الطاغية.
قصة حبّ الطاغية لويلين، الذي لم يستطع التخلّص من ظلّ أخته غير الشقيقة الملكة لوتي، والتي كان لها ماضٍ مظلم.
صحيح أنّه تأذّى كثيرًا بسبب كونه ابن محظيّة، لكن هل هذا سبب كافٍ لأن ينحرف بتلك الطريقة؟
على أيّة حال، العرش سيؤول إليه في النهاية.
“همم.”
المُؤسف في الحقيقة كانت حياة الأخت الكبرى التي عاشت حياةً مؤقّتة وانتهت بالموت.
نظرًا لأنّ محور الرواية كان يدور حول لويلين ولوتي، لم تُذكَر قصة إيليا -الأخت الكبرى- بتفصيل، لكنّها وُصِفت بأنّها امرأة ذكيّة، ذات سعة صدر، تحظى بثقة من يعملون تحتها.
لكن، كان ذلك حين كانت بصحّة جيّدة.
فما إن أُصيبت بمرض عضال غامض وأخذت صحّتها تتدهور، حتّى بدأ نفوذها يختفي تدريجيًّا. وعندها ظهر لويلين في العلن ليبني مكانته، ولم تعد إيليا قادرة على المشاركة لا في المجتمع ولا في السياسة.
متى كانوا يحتقرونه لأنّه ابن غير شرعي؟ لكن، حين لم يعودوا يرون مستقبلًا للأميرة، استبدلوها على الفور.
“تمامًا كوالديّ، اللذين يُشترون لي كلّ ما أحتاجه، لكن لا يزوراني أبدًا.”
لم أستطع إلا أن أتعاطف مع وضع إيليا الذي يُشبه وضعي.
فحياتي التي كانت تنعم بأسرة متماسكة، أصبحت الآن وحيدة لا يبحث عنّي أحد. والدعْم الذي كان يُقدَّم لي تحوّل كلّه إلى أخي، ولم يتبقَّ لي شيء.
أمّي التي كانت تتحدّث في الهاتف بصوت بارد، قالت إنّهم يُعطونني أكثر من اللازم من دعم العلاج، والغرفة الفرديّة، والهوايات غير الإنتاجيّة.
وأنّ كلّ ذلك من حسن حظّي لأنّني وُلدت في هذه العائلة.
لم تكن بحاجة لقول ذلك، فقد كنتُ أعلم.
أعلم كم من الناس يموتون دون أن يتمكّنوا من تلقّي العلاج.
كم من الناس لا يحصلون حتى على سرير في غرفة من ستّة أسرّة ويفوتهم موعد العلاج.
وكم من المرضى الذين، رغم دخولهم المستشفى، لا يملكون شيئًا يفعلونه سوى التحديق من النافذة.
لكن، أكثر ما يُؤلمني هو أنّني لم أعد أتلقّى حبّ والديّ، وليس نقص الدّعم.
“لا بُدّ أنّ إيليا كانت تُعاني من نفس الشعور وهي تموت ببطء…”
كلّ الشخصيّات التي ظهرت في الرواية كانت مؤسفة: لوتي التي فقدت والديها في سنّ صغيرة ورفعت البلاد بنفسها، وآيرين الذي لم يستطع سوى أن يُراقب من يحبّ وهي تُحبّ رجلًا آخر، ولويلين الذي كافح ليتجاوز جدار إيليا الذي لم يَرَه أحد.
لكن، لأنّ لوتي ولويلين حصلا على نهاية سعيدة، لم أشعر بالأسى نحوهما كثيرًا.
الشخص الآخر الذي فكّرت فيه بعد إيليا كان آيرين، الذي عاش حياته من أجل لوتي.
رجل مخلص ومُتفانٍ مثل هذا هو من يستحقّ أن يكون البطل!
لم أفهم لماذا عليه أن يعيش طَوال حياته داخل ظلّ لوتي، دون أن يُفلت منه.
“رجل حنون، يحميك بقوّة من جانبك، كم سيكون ذلك جميلًا؟”
بمجرّد التّفكير فيه، كانت فكرة آرون تُشعرها بالغبطة. لقد كان المثال المثاليّ لمواصفات رجل أحلامها. الظّل الذي ظهر على الغلاف ولو كان صغيرًا، ووصف ملامحه في الرّواية، كلّ ذلك أطلق لخيالها العنان. ‘لو أنّ إيليا، أخت الطّاغية، التقت بآرون، ألم يكن من الممكن أن يكونا سعيدَين ولو قليلًا؟’
إيليا وآرون لم يكونا شخصيّتين مذكورتين بشكلٍ موسّع في النّص، لكن كان من الواضح أنّهما عاشا حياتهما باستقامة دون ماضٍ مُخزٍ. وهذا بسبب تركيز الرّواية على أولئك الذين تبعوهم وولّوا لهم الولاء. وعلى الرّغم من قلّة ظهورهما المباشر، إلّا أنّ الحديث عنهما كان يتكرّر في الحوارات بين الحين والآخر.
غير أنّ النّهاية المأساويّة المختلفة التي نالها كلٌّ منهما تركت في نفسها شعورًا بالحزن وخيبة الأمل في آنٍ معًا.
“هل أنا الوحيدة التي تعشق آرون؟ لماذا لا يوجد سوى فنون معجبي لويلين فقط؟”
فتحت الحاسوب المحمول وأخذت تتصفّح فنون المعجبين لرواية [ملكة الطّاغية] على وسائل التّواصل الاجتماعي، لتجد أنّ الجميع يعشقون لويلين فقط. تُرى، هل هذا هو الحزن الذي يعيشه من يحبّ شخصيّة الذّكر الثّانوي؟
شعرت بخيبة أمل لأنّ النّص الأصليّ لم يتضمّن الكثير من المعلومات عن آرون، ويبدو أنّ هذا هو سبب قلّة اهتمام النّاس به. لكنّها، حتّى في ظهوره العابر، كانت تشعر بأنّ لوجوده وقعًا قويًّا.
“حان وقت سحب الدّم.”
ما لبثت أن خرجت من عالم الرّواية، حتّى وجدت نفسها تعود إلى الواقع. واقع حياة مريضة ميؤوس من شفائها، لم يُذكر حتّى اسم مرضها.
كان الهواء محمّلًا برائحة المعقّمات والأدوية، يخرج من جهاز التّرطيب على شكل بخار دافئ ورطب، لكنّه يحمل في طيّاته برودةً خفيفة.
“هل نأخذ العيّنة من هذه اليد اليوم؟”
“نعم.”
ذراعاها النّحيلتان كانتا قد امتلأتا بالكدمات بسبب الإبر التي خُزّتا بها مرارًا لسحب الدّم ووضع المحاليل. واليوم، جاء دور ظهر اليد اليسرى، التي بدأت كدماتها تزول. وكلّما خفّت الكدمات وظهرت الأوردة، عادت الإبر لتخترقها من جديد.
“كيف حالك اليوم؟”
سألتها الممرّضة بينما تنقل الدّم الذي سحبته بالمحقنة. نفس الموقف، نفس السّؤال، وكانت إجابتها دائمًا واحدة.
“كما هو.”
“ألا تشعرين بتحسّن أو بألم في موضع معيّن؟”
“لا.”
ربّما اقترب وقت موتها فعلًا. في بعض الأيّام، كانت الآلام تشتدّ لدرجة تدفعها لتُضيء أنوار المستشفى في ظلام الفجر. أمّا الآن، فقد بات وخز الإبرة بالكاد يُشعرها بشيء.
“لا تُطيلِي السّهر الليلة، حاولي أن تنامي باكرًا.”
“لكن بقيت الفصول الإضافيّة…”
كانت تعلم أنّ النّوم المبكّر والاستيقاظ المبكّر أفضل لصحّتها. لقد كانت تعيش هكذا قبل أن تمرض. غير أنّها كانت تُحبّ إحساس الفجر، وكانت تكره النّوم. كانت تقرأ الرّوايات حتى تُغالب النّعاس، فتصحو لتجد أشعّة الشّمس تملأ غرفتها.
“ما رأيك أن تنامي باكرًا وتقرئي الكتاب غدًا في الصّباح الباكر؟”
“لكن قراءة الكتب في الفجر لها طابع خاص.”
“إحساس ما قبل بزوغ الفجر إلى لحظة شروق الشّمس أيضًا له نكهته.”
يبدو أنّها جاءت مصمّمة على إقناعها اليوم. أرادت أن تُعارضها أكثر، لكنّها شعرت أنّها لن تغادر قبل أن توافق، فاضطرّت للموافقة على مضض. لا يُمكن أن تُضيّع وقتها، فثمّة مرضى آخرون بانتظارها.
عندها فقط نهضت الممرّضة وخرجت من الغرفة.
“سأنام قليلًا ثمّ أستيقظ.”
ومع اقتراب موعد النّوم الذي وعدت به الممرّضة، قرّرت أن تكون مريضة مطيعة اليوم، فأطفأت أنوار الغرفة واستلقت على السّرير. نادرًا ما تنام في وقت لا تزال فيه أنوار بعض الغرف الأخرى مضاءة، كانت تجربة جديدة.
سأنام بسرعة، ثم أستيقظ لأقرأ الفصول الإضافيّة.
—
بدأت تسمع همسات النّاس من حولها. كان عقلها لا يزال في غشاوة ولم تستطع أن تُميّز عمّا يدور الحديث. لم يكن من المعتاد أن تسمع ضوضاء كهذه وهي تقترب من الاستيقاظ. بدا الأمر غريبًا.
ما الذي حدث في الغرفة حتّى أصبحت بهذه الفوضى، وهي التي اعتادت السّكون؟
الصّوت لا يأتي من بعيد خلف الباب، بل يبدو قريبًا جدًّا منها.
“أه……”
أطلقت أنّة خافتة لتُعلن استيقاظها، فسكن كلّ من في الغرفة فجأة.
“جلالتكم!”
ماذا؟
بصوتٍ واحد، فتحت جفنيها بثقل، لترى أنّ أعين الجميع مُوجّهة إليها.
هي التي كانت تعرف جميع من في المستشفى، لم تتعرّف على أيّ من الوجوه التي تراها. حتّى لو افترضت أنّهم موظّفون جدد، لكان من الطّبيعيّ أن تجد وجهًا مألوفًا واحدًا على الأقلّ.
“سأستدعي الطّبيب الآن!”
“لقد أغمي عليكم فجأة، لقد أرعبتمونا… هل تؤلمكم أيّ جهة؟”
لاحظت حينها أنّ من حولها يرتدون زيّ الخادمات لا زيّ الممرّضات، وكانوا يخاطبونها بلفظة ‘جلالتكم’.
إنّه حلم.
تجاهلت أحاديث الخادمات الصّاخبة وهي تعود للنّوم مجدّدًا.
‘هل قرأت الكثير من روايات الرّومانسيّة في العوالم الخياليّة؟ لستُ ملكًا، ولا “جلالة”، فما هذا الحلم المبالغ فيه؟’
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"