وضعت ليتيسيا يدها على صدرها المذعور. ولحسن الحظ، كان الشخص الذي دخل هو زوجها، إليوت.
ثم دخل رجلٌ آخر معه.
“نعتذر، سيدي الدوق. بما أنه زوجُ الماركيزة، لم نتمكّن من منعه.”
كان رجلاً ذا شعرٍ أسود لونهُ أفتح من شعر ليتيسيا، وعينين خضراوين. ومن طريقة انحنائه أمام إيمريك، بدا أنه أحد تابعيه.
أومأ أيمريك برأسه كأنهُ فهم، ثم نظر إلى إليوت وقال، وابتسامةٌ خفيفة ترتسم على شفتيه.
“رُبما لأنني لم أَرَ زميلتي منذ وقتٍ طويل، أشعر بسعادةٍ كبيرة بلقائها.”
كانت نبرته مازحة، لكن ليتيسيا شعرت أن في كلامه نبرةً لاذعة. ويبدو أنْ إليوت شعر بالأمر نفسه، إذ ردّ بوجهٍ صارم.
“هَذا اللقب الشخصي يُثقل كاهلي، سيدي الدوق.”
“حقًا؟ بما أنكَ اقتحمت هَذا المكان دوّن إذن، ولَمْ تُبدِ يومًا احترامًا يُذكَر أمامي، ظننتُ أنْ كوننا مِن خريجي الأكاديمية نفسها يتيحُ لكَ معاملتي بأريحية.”
حتى لو كان المرء شخصًا لا يفقه شيئًا في قراءة الأجواء، فلابد أنه سيُدرك أنْ توترًا شديدًا يدور بين الرجلين.
أما تابعُ إيمريك، فظل واقفًا بوجهٍ جامد وكأنه لا يرى شيئًا، فيما كانت ليتيسيا تنظر إليّهما بقلقٍ بالغ، تتنقل بنظرها بينهما.
‘هل كان إليوت يُظهر دومًا سلوكًا متعجرفًا أمام سينيوره؟’
رغم أنْ الأمر كان صعب التصديق، فإنَّ سلوك إليوت الحالي كان فظًا بدرجةٍ يصعب عليها اعتبار اتهامات إيمريك محض افتعال.
فلو كان التابع موجودًا بالقرب مِن الشرفة، فَمِن غير المعقول ألا يعرف بوجود شخصٍ هُناك، ومع ذَلك اقتحم المكان دوّن تردّد، ولَمْ يُلقِ تحيةً لائقة على الدوق.
“همم، لو غيّرت يا زميلي قليلاً مِن سلوككَ المُتصلّب، لكان الأمر سيكون لطيفًا.”
نظر إيمريك إلى ليتيسيا بطرف عينه، ثم ابتسم بإشراقٍ نحو إليوت وكأنه لَمْ يرفع صوته للتو بنبرة انزعاج، ومدّ يده إليّه. كانت يدُه ناصعة البياض وناعمة تَليقُ بساحر، وراح يُربّت بها على كتف الفارس القوي.
في تلكَ اللحظة، انعكست صورة ليتيسيا وحدها في عينيه الحمراوين.
“…تواصلا معي. أليس هَذا سبب دفعنا تلكَ الأجور الباهظة للدراسة في الأكاديمية، مِن أجل صنع شبكة علاقاتٍ كهَذهِ؟”
رغم أنْ كلامه لَمْ يكُن خاطئًا، فإنَّ عبارته الصريحة والمادية جعلت وجه ليتيسيا يحمرّ مِن دوّن سببٍ واضح.
“إذن، عن أذنكَ.”
ظل إيمريك يُحدّق طويلاً في ظهر ليتيسيا، التي انسحبت برفقة زوجها بخطى حذرة تُشبه خطى الأرنب المتوجس.
“جايرد.”
“نعم، سموك.”
أجاب التابع الموثوق لحاكم الغرب الصعب المراس، بنبرةٍ مهذبة تتناقض مع ملامحهِ المبتسمة.
“ضعوا بعض الرجال لمراقبة ماركيز دوبونت وعائلته، مِن دوّن أنٌ تعرف الماركيزة بالأمر.”
“أمرك سيدي.”
لقد كان السبب في نيل جايرد ثقة إيمريك بسرعة هو قدرته على استخلاص المغزى مِن بين الكلمات الناعمة.
فقد أدرك أنْ المهم ليس مراقبة تحركات عائلة ماركيز دوبونت أو جمع معلومات مهمة، بل الحرص أولاً على ألّا تشعر الماركيزة بوجودهم.
ولتحقيق ذَلك، ينبغي إرسال رجال شديدي التحفظ. أولئكَ الذين، حتى لو اكتشفت الماركيزة وجودهم، لَن يبوحوا ولو بجزءٍ يسير مِن المعلومات المُتعلقة بالدوق غارسيا.
“على أيَّ حال، كنتُ أظن أنْ زميلتي الصغيرة ستفرح حين أُعيد لها ذَلك السارق الحقير حيًا. يبدو أنني كنتُ مخطئًا في تقديري.”
تمكن جايرد مِن التقاط مشاعر القسوة والندم التي كانت كامنةً خلف النبرة الرتيبة.
“…هل ترغب سموك أنْ أُحقق بشأن المرأة التي يُقال إنَّ الماركيز قد أحضرها معه؟”
سأل بصوتٍ حذر، فابتسم إيمريك.
“امرأةٌ واحدة تهمني. لا أرى سببًا يجعلني أهتمُ بذبابٍ كهَذا.”
“لكن، تحقق مِن الأمر باختصار.”
***
كانت ليتيسيا تودّ أنْ تسأل زوجها الكثير، لكن وجهه ما يزال متجمّدًا.
هل كان على خلافٍ مع إيمريك منذُ أيام دراستهما في الأكاديمية؟
أم أنْ شيئًا ما حدث بينهما في ساحة المعركة خلال العامين الماضيين؟
لكنها لَمْ تكُن تعرف كيف توصل تساؤلاتها بطريقةٍ مرحة أو مغلّفة كما تفعل فتيات النبلاء أو السيدات الراقيات، لذا قررت أنْ تصمت.
فهي لَمْ تكُن تريد تكرار ما حدث في غرفتهِ الليلة الماضية.
وكما توقعت، لَمْ يبدُ أنْ إليوت يعتزم إخبارها بالحقيقة طواعية.
تنهد بعمق وهو يُحدّق بها بصمت، ثم نطق بالقليل فقط.
“الدوق أخطر مِما تظنين. ابتعدي عنه قدر المستطاع، يا زوجتي.”
“…حسنًا، سآخذ حذري.”
رغم أنْ ليتيسيا لَمْ تكُن تُوافِق تمامًا على رأي زوجها بأنْ إيمريك رجلٌ خَطِر، إلا أنها أجابت بإجابةٍ مُطيعة كما يشاء، لتتجنب أيِّ خلاف، وفجأةً، تذكّرت ما قاله إيمريك.
[ لقد عاد الشخصُ العزيز على قلب السيدة بسلام، فَلِمَ يبدو وجهها مملوءًا بالهمّ؟]
تذرّعت له بأنها لَمْ تنم جيدًا وتشعر بالتعب، لكنها في الحقيقة كانت تعرف الجواب الصادق.
‘لقد عاد زوجي الذي انتظرته طويلًا…’
لكن الأمل الذي بداخلها قد تم دهسه عليه بلا رحمة.
[إلى زوجتي العزيزة،
هل والدتي وزوجتي بخير؟
أنا بخير، فلا تقلقي.
لقد مضى على خروجي إلى الجبهة نصف عامٍ بالفعل.
حين غادرت قصر الماركيز، كانت الأشجار على جانبي الطريق مزدانةً بألوان الخريف، أما الآن فأرى الزهور قد بدأت تتفتح في السهول هُنا وهناك.
أشعر فعلًا بمرور الزمن.
في الماضي، لَمْ أكُن أنظر بتأنٍّ إلى الأشجار أو الزهور، لكنني أدركت مؤخرًا أنها قادرةٌ على منح المرء بعض العزاء.
لا سيما زهرة صفراء مجهولة رأيتها قبل يومين على جانب الطريق، فقد ذكّرتني بعينيك، وشعرتُ بشوقٍ كبير إليّكِ.
لقد جففتها وأرفقتها بهَذهِ الرسالة.
مِن بعيد، أتمنى أنْ يكون يومكِ هادئًا.
إليوت.]
هل يا ترى كانت توقعاتها المفرطة نتيجةً لتلكَ الرسائل اللطيفة التي أرسلها زوجها، الذي بدا في بعض الأحيان جافّ الطباع، مِن ساحة المعركة؟
رغم أنها لَمْ تكُن سوى ابنة لبارونٍ مُفلس، وحظيت بلقب زوجة الماركيز عن طريق الحظ، فقد كانت تتحمّل حماتها القاسية طوال عامين، وتتحمّل نبذ المجتمع لها، فقط لأنها كانت تؤمن أنْ الأمور ستتحسن تدريجيًا بعد عودة زوجها الذي سيعاملها باحترام.
[لقد تغيّرت كثيرًا، لَمْ أركِ منذُ فترة، زوجتي.]
[أم أنني لَمْ أكُن أعرفكِ جيدًا منذُ البداية؟]
[أنا مرهق، دعينا نؤجل هَذا الحديث إلى وقتٍ لاحق.]
سواء بسبب أديلين أو لأسبابٍ أخرى، شعرت ليتيسيا بأنه لا جدوى مِن إظهار مشاعرها، إذ كل ما ستقابلُه هو ذَلك الوجه البارد.
‘أليس ما حدث… مُجرّد زيادةٍ في عدد الأشخاص الذين عليّ أنْ أراعي مشاعرهم؟’
حين سمعت ذَلك القسم الصادق يخرج مِن شفتيه الساحرتين، لَمْ تكُن غافلةً عن صعوبة التحديات الناتجة عن الفارق الكبير بين منزليهما.
[السيد إليوت… لا، إليوت فقط.]
[نعم، ليتيسيا؟]
[هل يمكنني أنْ أسألكَ سؤالًا واحدًا؟]
[بالطبع، اسألي ما شئتِ.]
[لماذا أنا؟ فحتى في هَذهِ الأكاديمية، هُناك الكثير مِن النساء اللواتي يرغبنَ بكَ.]
[بِمُجرد تخرّجي، سأرث منصب الماركيز وسأتوجه إلى ساحة المعركة. وفي هَذهِ المرحلة التي تحتاج فيها العائلة إلى الاستقرار الداخلي أكثر مِن أيِّ وقتٍ مضى، رأيتُ أنكِ الشخص المناسب لتولي هَذا الدور، وأنكِ ستكونين شريكةً يمكنني الاعتماد عليها واحترامها مدى الحياة.]
لكن الواقع كان أشد مرارةً مِما تخيّلت.
‘في تلكَ اللحظة، شعرت وكأنني امتلكتُ العالم بأسره…’
تزوجت مِن رجلٍ أحبّته مِن طرفٍ واحد، ونالت لقب زوجة الماركيز الرفيع.
ولهَذا، اعتقدت أنْ مِن الجيد التخلي عن حلمها الذي كانت تسعى إليّه منذُ دخولها الأكاديمية، وهو اجتيازٌ لاختبار التوظيف في البلاط الإمبراطوري.
لكن الآن… لَمْ تعُد تعرف إنْ كان ذَلك القرار صائبًا.
ليتيسيا لَمْ تكُن تتمنى سوى ألا يأتي اليوم الذي تندم فيهِ على ذَلك القرار حدّ الموت.
***
عادت ليتيسيا مِن الحفل مرهقة، لكنها لَمْ تتمكن مِن النوم فورًا. فقد كانت أجواء القصر صاخبةً منذ الصباح، وفضلاً عن ذَلك، كان عليها إتمام بعض الأوراق التي لَمْ تُنهِها بسبب استعداداتها للحفل.
غفت في وقتٍ متأخر مِن الليل، واستيقظت في السابعة صباحًا.
العادات كانت أمرًا مخيفًا؛ فحتى بعد ساعات نومٍ قليلة، استيقظت في هَذا الوقت تلقائيًا.
‘هل أعود للنوم قليلًا؟’
وحين دفنت وجهها في الوسادة، خطرت على بالها فكرة.
‘إليوت… لا بد أنه قد استيقظ الآن، أليس كذلك؟’
هل تخبره أن يتناول الإفطار معها؟
وقد زال عنها النعاس، فسحبت حبل الجرس ونادت على الخادمة.
“هل ناديتني يا سيدتي؟”
“هل استيقظ الماركيز أيضًا؟”
“… نعم، سيدتي.”
“جيد، إذن هل يمكنكِ أنْ تسأليه إنْ كان يرغب في تناول الإفطار معي؟”
“أ- أمم، السيد… يتناول الإفطار الآن.”
ردّت الخادمة بصوتٍ خافت ومُتردد.
خفق قلب ليتيسيا بقوة.
“… مع والدته؟”
“نعم، والدته موجودة، وكذَلك الآنسة التي جاءت قبل يومين…”
في تلكَ اللحظة، خرج وجه ليتيسيا عن سيطرتها، وتجمدت ملامحها تمامًا. الخادمة أسرعت بالتبرير.
“لقد سأل إنْ كانت سيدتي ترغبُ في الإفطار، لكن عندما أخبرناه بأنكِ نائمة، قال أنْ نترككِ وشأنكِ.”
كان وقع الصدمة على عقلها وقلبها منذُ الصباح ليس بهيّنًا.
وبعد أنْ أخذت نفسًا عميقًا عدة مرات، استعادت ليتيسيا ملامحها المعتادة.
“حسنًا، سأقوم بغسل وجهي، فهل يمكنكِ إحضار شيءٍ خفيف إلى غرفتي؟ بعض الحساء والسلطة سيكونان كافيين.”
“حاضر، سيدتي.”
نعم، أحسنتِ التصرف يا ليتيسيا.
لو أنكِ نزلتِ إلى غرفة الطعام لتتأكدي بنفسكِ، لجرحتِ قلبكِ أكثر.
‘كما حدث حين رأيتُه يبتسم لتلكَ الآنسة.’
رغم أنها حاولت طمأنة نفسها بأنها تصرّفت بعقلانية، لَمْ تستطع النهوض مِن السرير، وبقيت جالسةً هُناك، منكمشةً في مكانها، دوّن حراك.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《التليغرام》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 5"