الفصل 47 : حفل رأس السنة ⁶

في العاصمة، تُقام العديد مِن الأسواق الخيريّة في نهاية العام.

تُقيم الإمبراطورة والأميرات في القصر الإمبراطوري سوقًا خيريًّا واسع النطاق، وفي محاولة لعدم التخلّف عنهنَّ، تُقيم العائلات النبيلة مِن الطبقة العليا أيضًا أسواقًا تُظهر مِن خلالها كرمها وعطفها ونفوذها بهدف كسب السمعة والمحبّة.

حين كانت ليتيسيا سيّدة قصر المركيز، كانت عائلة دوبون تُقيم السوق الخيريّ كفعاليّةٍ رئيسيّة لنهاية العام، فتبدأ بالتحضير له قبل شهر إلى شهرٍ ونصف، وتُنظّمه بدقّة دوّن أيِّ عيب. لكنّ الوضع اختلف هَذا العام.

إذ تمّ طرد ليتيسيا في الوقت الذي كان يُفترض فيه البدء في التخطيط للسوق الخيري، وبسبب غياب السيّدة، لَمْ تتوقّف السوق الخيريّة فحسب، بل أصيبت الإدارة في قصر المركيز بحالة أشبه بالشلل.

حتى السيّدة الكبيرة التي كانت تكره ليتيسيا وتُعامِلها بقسوة، أدركت فراغ الإدارة، فبدأت تُقيّم كفاءة كنّتها المطرودة بشكلٍ أعلى. فما بالنا بالموظّفين المكلّفين بالمهام!

“حين كانت السيّدة موجودة، لم تكُن هناك أيُّ مشاكلٍ في الموافقة على المستندات…”

“متى يجبُ رفع هَذا التّقرير؟ ولِمَن أصلًا؟”

لم يكُن الإداريّون وحدهم مَن شعروا بالارتباك، بل شعر كبير الخدم ورئيسة الخادمات اللذان كانا يُديران شؤون المنزل بمساعدة سيّدة القصر، بإزعاجٍ كبيرٍ أيضًا.

ورغم أنَّ السيّدة الكبيرة ما زالت بكامل قوّتها، وأنَّ إليوت سيد العائلة ما زال متماسكًا، إلا أنَّ الفوضى لم تَزُل تمامًا، والإدارة بالكاد كانت تسير.

وكان أبرز مثالٍ على ذَلك هو السّوق الخيري لنهاية العام.

فبما أنَّ أديلين لم تُصبح بعد السيّدة الرّسميّة للقصر، ويُقال إنَّ حالتها الصحيّة ليست جيّدة، تولّت السيّدة الكبيرة الأمر بالكامل. غير أنَّ غرورها وعدم اكتراثها الناتجين عن كِبر السّنّ أدّيا إلى ارتكابها خطأً فادحًا.

فأسواق العائلات النبيلة الكبرى، التي لا بدّ وأنْ تحظى باهتمام النبلاء في العاصمة، مِن المُتعارف عليه ألا تتزامن تواريخها.

لكن لسوء الحظ، تزامن موعد السوق الخيريّ لعائلة دوبون مع موعد سوق عائلة دوق بارنييل.

السيّدة الكبيرة لَمْ تكتشف هَذا التّصادم إلا قبل افتتاح السوق بثلاثة أيّامٍ فقط.

“لم يتبقَّ الكثير مِن أيّام العام، والدعوات قد أُرسلت بالفعل، ماذا عسانا أنْ نفعل؟ لا خيار سوى المُضيّ قدمًا!”

قرّرت إقامة السوق في الموعد المحدّد، وأرسلت رسالة اعتذار إلى دوقة بارنييل.

لكن مضمون الرسالة واعتذارها كانا شكليّين جدًّا، ما أثار غضب الدوقة.

“هل تُحاول عائلة دوبون الآن تجاهلي؟ فقط لأنّ زوجي جلب ابنًا غير شرعي، وظنّوا أنَّ موقعي سيتزعزع؟ كم هَذا مستفزّ!”

كانت عائلة الدوق قد تعرّضت مؤخرًا لفضيحة الابن غير الشرعي، وتكبدت بذَلك خسارة كبيرة في السّمعة، لذا كانت تُكرّس جهدًا مضاعفًا في تحضير السوق الخيري بهدف استعادة بعض الهيبة. فجاء تصرّف عائلة دوبون المُستفزّ ليزيد مِن احتقان الدوقة.

وقبل إقامة السوقين، بدأت الشائعات تنتشر سرًّا بين دوائر النبلاء في العاصمة.

“يُقال إنَّ الدوقة تغلي مِن الغضب، وقد قرّرت ألّا تُخالط أبدًا مَن يحضر سوق عائلة دوبون!”

“يا إلهي! إنّها امرأةٌ لطيفة في الأصل، ما الذي أغضبها لهَذهِ الدرجة؟”

“يبدو أنَّ عائلة بارنييل اختاروا تاريخ 26 مُسبقًا، لكن عائلة دوبون لَمْ يعتذروا بشكلٍ لائق بعد أنْ وقع الخطأ.”

رغم ما لحق بدوقيّة بارنييل مِن تشويه في السّمعة، إلا أنّها ما تزال تُعدّ أقوى عائلةٍ في الإمبراطوريّة بعد العائلة الإمبراطوريّة وعائلة غارسيا الكبرى.

صحيح أنَّ إليوت دوبون يُدعى بطل الحرب ويحظى بحبّ الإمبراطور، لكن ذِلك وحده لم يكُن كافيًا لسدّ الفجوة بين العائلتين.

أولئكَ الذين كانوا يُدلّلون السيّدة الكبيرة بكلماتٍ منمّقة في وجهها، تغيبوا يوم السوق عن الحضور متعلّلين بشتى الأعذار.

ولم يحضر سوق دوبون الخيريّ سوى ثلث عدد النبلاء الذين حضروه العام الماضي، ومعظمهم غادر بسرعة بعد الحضور. ولَمْ يُبع حتّى نصف المعروضات، وهو أمرٌ متوقّع.

أمّا سوق بارنييل فقد امتلأ بالزّوار، ونفدت جميع المعروضات خلال ثلاث أو أربع ساعات فقط، لترتسم ابتسامةً مشرقة على وجه الدوقة.

لقد كانت الغلبة للدوقيّة مِن جميع النواحي.

وبمقدار ما استعادت عائلة الدوق مِن مكانة، انخفضت هيبة عائلة دوبون إلى الحضيض.

وتندّر بعض التابعين بأنَّ عائة دوبون هم مَن أعادوا للدوقيّة هيبتها.

وبدأ بعضهم يذكر السيّدة السابقة:

“صحيح أنّها لم تكُن مثاليّة في كلّ شيء، لكنّها كانت تُنظّم مثل هَذهِ الفعاليّات بكفاءةٍ عالية.”

“كانت ذكيّةً وتُحسن إدارة العمل.”

ووصل هَذا الكلام إلى مسامع السيّدة الكبيرة.

“تبا لهؤلاء اللعناء!”

ولأنّها سُمعت تُقارن بليتيسيا التي كانت تكرهها، لَمْ تستطع كبح غضبها وسقطت طريحة الفراش في نفس اليوم.

وحين يسقط كبير العائلة، لا يُمكن أنْ يكون الجوّ العام جيّدًا.

استقبلت عائلة دوبون نهاية العام وبداية السنة الجديدة بحالةٍ مِن الحزن والكآبة.

وكان أحد أبرز أحداث الإمبراطوريّة في بداية العام هو حفل رأس السنة في القصر الإمبراطوري، والذي يُقام في العاصمة في وقتٍ متأخّر قليلًا مقارنةً بالغرب.

ويتوافد إليه النبلاء مِن مًختلف أنحاء البلاد، فيحضرونه وهم في أجمل حللهم.

وبحجّة مرضها، امتنعت السيّدة الكبيرة عن الحضور، فمثّل عائلة دوبون كلّ مِن إليوت وأديلين فقط.

“يدخل الآن مركيز دوبون والآنسة المرافقة، الآنسة شالامي!”

كان الاثنان، الوسيم والجميلة، يُشكّلان ثنائيًّا مُتناسقًا، لكنّ ذَلك التّناسق زاد مِن غرابة المشهد.

فهما كانا يبدوان كأحبّ حبيبين، ومع ذَلك لم يُعلنا عن زواجهما حتّى بعد طرد الزوجة السابقة مِن القصر.

‘هل يعني ذَلك أنّه يقبلها كعشيقة فقط لا زوجة؟’

‘ربّما لم يكُن ذاك الرومانسيّ الذي تخيّلناه؟’

‘قد يكون فارسًا عظيمًا، لكنّه ليس رجلاً يُحتذى به.’

بدأت تتجمّع المشاعر السلبيّة في نظرات النبلاء المُوجّهة إلى إليوت.

فالنبلاء هم فئةٌ تستطيع أنْ تبتسم وتُجامل حتّى في وجه أعدائها، لكنّهم كانوا ينتظرون لحظة سقوط إليوت أو لحظة ضعفه لينقضّوا عليه مثل الضباع.

أديلين، مِن جهتها، كانت تتخيّل سقوط خصمها وهي تبتسم للآخرين بلُطف.

‘يكفي أنْ أستمرّ في التظاهر بالحبّ لبضعة أشهر، وأُلمّح ببعض الإشارات، وسيتراجع هو بنفسه، ويوقّع أوراق الطلاق والزّواج الجديد.’

هي أيضًا، لم تكُن تُريد أنْ تُصبح زوجة إليوت قانونيًّا، لكنّها لم تملك خيارًا آخر.

فاللقب زوجة ماركيز دوبون ما زال له أهمّيّةٌ كبيرة.

ا هؤلاء النبلاء في العاصمة الذين باتوا يتجاهلونها فجأةً بعدما ظنّوا أنَّ مكانتها في القصر اهتزّت.

ما يُسهّل لقاء النبلاء رفيعي المستوى وحتّى أفراد العائلة الملكيّة ليس محبّة إليوت، بل مكانتها كزوجة للماركيز.

‘هَذهِ هي ساحة المعركة الاجتماعيّة التي يجب أنْ أُخضعها.’

كان كلوين، الذي عاد أقوى بكثيرٍ مِما مضى، قد وعدها.

قال لها إنّها إنَْ استطاعت أن تُحرّك النبلاء المؤثّرين في العاصمة وبعض أفراد العائلة المالكة، فإنّه سيساعدها على إثارة صراع بين العاصمة والغرب، لأجل الانتقام لكاسلان.

رُبّما كان لكلوين دافعٌ آخر يتجاوز الانتقام، لكنّ أديلين لم تهتمّ.

فإذا سقطت عائلة دوبون، وتهاوت الإمبراطوريّة، فإنّها ستكون سعيدةً بالموت في تلك اللحظة.

“مَعذرة، يا حضرة الماركيز.”

“هل هناك ما يُزعجكِ؟”

“حين نُحيّي جلالة الإمبراطور بعد قليل، هل لي أنْ… أرافقك؟ أودّ أنْ أُقدّم الشكر لجلالته على سماحه لي بالبقاء تحت كنف عائلة دوبون.”

“طبعًا، جلالته سيُسرّ بذلك أيضًا.”

“أشكرك جزيل الشكر، يا حضرة الماركيز.”

لكنّ نظرة أديلين المُبتسمة لم تكُن موجّهة لإليوت، بل تجاوزته لتصل إلى وليّ العهد والأميرة الواقفين خلفه.

وكانت قلادتها تلمع في ضوء القاعة، تتدلّى منها ألماسة ضخمة لفتت الأنظار.

***

كان رودريان مُحقًّا.

فمنذُ حفل رأس السنة، بات قسم الإدارة في البرج الأحمر مكتظًّا بالسحرة، على عكس أواخر ديسمبر.

وكان الضغط الأكبر مِن نصيب بيير، المسؤول عن الإمدادات والمواد.

لم يكُن الأمر مبالغة، فقد كان السحرة يأتون كلّ خمس دقائق يطلبون الماندرايغورا لأبحاثهم الجديدة، أو الذهب لبناء نظريّاتٍ سحريّة جديدة.

ولم يكُن بيير قادرًا وحده على التعامل مع جميع الطّلبات، لذا تعاقب رودريان وليتيسيا على مساعدته.

“يُمكن القول إنَّ هَذا النّمط سيستمرّ حتّى نهاية يناير.”

“إنّه حماس قرارات بداية السنة، أليس كذلك؟”

“الغريب أنَّ الأمور تعود إلى طبيعتها في فبراير. ثم تتكرّر هَذهِ الحالة في سبتمبر.”

“هاها، تمامًا مثل دفاتر مذكّرات العامّة، حيث يكون يناير ممتلئًا بالتخطيط، بينما تبقى بقيّة الصفحات فارغة.”

رغم انشغالها، إلا أنَّ الوضع العام كان أهدأ بكثير مِن أواخر ديسمبر حين كانت تُضطرّ للمساعدة في أعمال الفرق الأخرى.

لذا، خصّصت ليتيسيا وقتًا لتفقّد القضايا التي عُرضت على لجنة حلّ النّزاعات، وراجعت قوانين الإمبراطوريّة والدّول الأخرى بدقّة، لتضع خطّة إصلاح قانون حقوق النشر.

“أين خُطّة دعم إقليم سينوا؟ يُقال إنَّ منسوب الواحة التي يعتمدون عليها في الموارد المائيّة بدأ ينخفض باستمرار.”

“أوه، أرسلتها إلى قسم الزّراعة.”

“ماذا؟ كان يجب إدراجها في قسم الدّعم العاجل!”

“آسف، آسف جدًّا!”

وفي الجهة الأخرى، كان فريق الشّؤون الداخليّة يخوض معركةً جديدة لإعداد ميزانيّة العام الجديد وخُطّة تشغيله.

لكن يبدو أنَّ الأمر كان أسهل مِن ختام السنة الماضية، إذ بدا المساعدون، وعلى رأسهم دييغو، ما زالوا محافظين على إنسانيّتهم.

وبحلول نهاية يناير، وبعد الانتهاء مِن إعداد الميزانيّة، أصبح لكلّ فريقٍ بعض الفُسحة.

عندها، سحبت ليتيسيا أخيرًا سيفها الذي كانت قد صقلته طويلًا، استعدادًا للخطوة التالية.

《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》

═════• •✠•❀•✠ •═════

الترجمة: فاطمة 

حسابي ✿

《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》