بعد أنْ كانت لا تَفعل شيئًا سوى حفظ مصطلحات السحر الغريبة يومًا بعد يوم في برج المعالجة، شعرت ليتيسيا براحةٍ غريبة عندما رأت أرقامًا مألوفة.
وكأنها تعقد العزم، رفعت شعرها للأعلى وربطتهُ بإحكامٍ مثل إميلي، ثم اتخذت موقعًا مُناسبًا وبدأت تتصفح الوثائق.
وقد أبدى المساعدون والإداريون الآخرون، الذين رأوا تركيزها المُخيف دوّن أنْ تحيد بنظرها جانبًا ولو مرة، إعجابًا خافتًا.
“رائع، مشهدٌ يُحتذى به!”
“إنهُ الأمل بعينه!”
وبعد أنْ استمدّ الآخرون الشجاعة، ركّزوا بدورهم على الوثائق التي كانت بين أيديهم.
وهَكذا بدأت دورة إيجابية.
“……”
وفي حين ساد الصمت المليء بالتركيز والسلام داخل غرفة الاجتماعات في الطابق الثاني مِن الجناح الغربي، كانت البرودة تسري خارج باب الغرفة.
“كنتُ أتساءل عمّا شتّت انتباهها… ها، لا يُعقل.”
لَمْ يخطر بباله أبدًا أنْ تحلّ الوثائق قبله.
بدا أنْ ليتيسيا على غير عادتها تُسرع في تناول العشاء وتبدو كمَن يُلاحقها شيءٌ ما، فأخذ يراقبها بهدوء، وإذ بالمشهد أمامه هو ما رآه.
شعر إيمريك بخيانةٍ غريبة ومرارةٍ أخرسته، وبدوره، لَمْ يجد جيرارد ما يقوله أمام ما فعله زميلهم دييغو.
‘هَذا الإنسان…!’
أيُعقل أنْ يجرّ ليتيسيا معه إلى الجحيم لأنه لا يريدُ أنْ يموت وحده؟
“أنقذتُ شخصًا لا يعرفُ حتى معنى الجميل.”
تمتم إيمريك بحسرةٍ.
لَمْ يكُن ليسير الأمر إلى حد الحديث عن الحياة والموت، ولكن ما منع جيرارد مِن الاعتراض هو أنْ معظم المُقربين مِن إيمريك كانوا قد أنقذهم مِن الموت مرةً واحدة على الأقل. خلال الحرب مع مملكة كيلت.
[دييغو، هل فقدت عقلكَ؟ أترغبُ في الموت؟]
كان مَن رافق إيمريك إلى ساحة المعركة غالبًا مِن أصحاب المهارات العالية في السحر واللياقة البدنية، لكنّ النجاة يومًا بيوم هُناك لَمْ تكُن سهلة.
كانت ساحة المعركة مكانًا كافيًا ليجعل أكثر الناس هدوءًا يفقدون صوابهم. وكان خطأٌ واحدٌ كفيلًا بأنَّ يُحدّد المصير.
ووسط ذَلك، لَمْ يتغير أحدٌ سوى إيمريك. هو وحده.
[الآن بعد أنْ أفكّر بالأمر، يبدو أنْ عمي وزوجة أبي لَمْ يكونا سيئين تمامًا، أليس كذَلك؟ كأنهما توقعا أنني سأمرّ بمثل هَذا الوضع لاحقًا، فأنفقا مالًا طائلًا لتدريبي على يد قتلةٍ محترفين.]
‘أُوف، كفى تفكيرًا في هَذا.’
رغم مرور أكثر مِن عام على نهاية الحرب، لا تزال ذكرياتها كفيلةً بأنَّ تُقشعرّ لها الأبدان.
“أقولها عن فضولٍ حقيقي، ألا يكره الناس العمل في العادة؟”
لو كان جيرارد على طبيعته لقال: “يبدو أنْ الآنسة ليتيسيا ليست مِن الناس العاديين.” بسخرية، لكنه كان يعرف متى يتكلم ومتى لا.
فلو أجاب الآن كما يفعل عادةً، فإنَّ دييغو سيدفعُ الثمن كاملًا.
“هُناك قلةٌ نادرة تجد في العمل شعورًا بالإنجاز والرضا أكثر مِن التعب والمشقة.”
“آه، يبدو أنه حتى لو أصبحنا حبيبين، فستتركني إنْ وُجدت عملاً.”
ورغم أنْ ملامحهُ قد لانت قليلًا، إلا أنْ إيمريك بدا منزعجًا على نحوٍ ظاهر.
فكّر جيرارد للحظة ثم خطرت لهُ فجأةً حجةٌ ذكية حتى هو نفسه أُعجب بها.
“إنَّ الآنسة ليتيسيا عاشت في بيئةٍ اضطُرّت فيها دائمًا لإثبات قدراتها ومهاراتها دوّن توقف. لذا مِن الطبيعي أنْ تبحث عن الأمان وإثبات الذات مِن خلال العمل أكثر مِن غيرها…”
يا إلهي، لقد أرعبه بحق.
إيمريك، أحد كبار السحرة القلائل في القارة.
وبفضله، استطاع جيرارد أنْ يشعر بوضوحٍ بالنيّة القاتلة المُتجسدة. شعرُ رأسهِ قد انتصب، وجلدهُ وخزته وخزاتٌ مؤلمة وكأنَّ بهِ ثقوبًا.
“في النهاية، كل هَذا بسبب إليوت دوبون، ذَلك اللعين، أليس كذَلك؟”
“…يمكن قول ذَلك.”
وافقه جيرارد ببساطة على قوله، وردّد في داخله اعتذارًا صامتًا.
عذرًا، يا الماركيز دوبون.
لكن في النهاية، مِن الطبيعي أنْ نُلقي باللوم في كل الأمور السيئة على الأعداء، أليس كذَلك؟
قرر جيرارد ألّا ينسى لاحقًا أنْ يُخبر دييغو: “الماركيز دوبون، في الحقيقة، قد يكون منقذك، فاذهب وضع زهرةً على قبرهِ على الأقل.”
“وإنْ دخلتُ الآن ومنعتُها مِن العمل، فالأرجح أنها لَن ترى في ذَلك اهتمامي بها، بل ستظنّ أنني لا أثق في قدراتها، أليس كذَلك؟”
“رُبما؟”
تنهد إيمريك تنهيدةً عميقة مِن صدره.
“لا مفر. مرّ على المطبخ واطلب أنْ يُرسلوا لها وجبةً ليلية مغذية إلى هُنا. وبعد منتصف الليل، قم بتفريقهم جميعًا.”
“…سموّك، إلى أين ستذهب؟”
“سأذهب لأتنفّس الهواء وأتأمل شعوري بالخذلان.”
***
لا، حقًّا! لو كان لا بد مِن أنْ يكتسب أحدهم عادة التحديق في المستندات كلما سنحت له الفرصة، لكان مِن الأفضل أنْ يكون ذَلك الدوق نفسه، لا زوجته المستقبلية.
اتجه جيرارد نحو المطبخ، وهو يتأسف في نفسه على أرواح الوحوش التي ستتعرض لصاعقةٍ في هَذا الليل.
***
‘اتضح أنْ مساهمة أسرة الدوق في إدارة البرج الأحمر لَمْ تكُن مِن أجل لا شيء. العمولة ليست بالهينة.’
جزءٌ كبير مِن هَذا الدخل كان يُستثمر في المناطق الغربية المتأخرة وفي الزراعة التي لا تُحقق نتائج تُذكر، كما ساهم جزءٌ منه في تنمية أصول عائلة الدوق.
“رائع!”
“يا إلهي، هل رأيتُم هَذهِ السرعة الجنونية؟”
“آنسة ليتيسيا! كيف انتهى بكِ المطاف في قسم إدارة البرج الأحمر مع هَذا القدر مِن الكفاءة؟”
“لا بد أنْ هُناك فسادًا في التوظيف. لَمْ أكُن أظن هَذا من رئيسة الفريق كارينا!”
ليتيسيا، التي كانت تتذكر الأرقام أفضل مِن الأسماء أو الأماكن، أنهت تنظيم مستندات البرج الأحمر في غضون يومين فقط، ما جعلها تنال إعجابًا مُطلقًا مِن فريق الشؤون الداخلية والإداريين.
“هل سهرتِ طوال الليل تراجعين المستندات؟”
“استيقظتُ فقط قبل الموعد المُعتاد بنصف ساعة إلى ساعة، لا أكثر، وهَذا لا بأس به.”
“أنتِ حقًّا استثنائية!”
حرصت ليتيسيا، كما وعدت كارينا، على الحفاظ على توازن بين مهامها الأصلية، والمساعدة في فريق الشؤون الداخلية، والراحة الضرورية.
وبما أنْ الزمن في نهاية العام يمر بسرعة، فإنَّ مساعدتها في أعمال الفريق الآخر جعل الأيام تمضي وكأنها 12 ساعة فقط.
وبينما لَمْ تنم سوى ليالٍ قليلة، إذا بها تجدُ أنْ العام الجديد قد اقترب، ولَمْ يتبقَ عليهِ سوى ثلاثة أيام.
منتصف ليل التاسع والعشرين مِن ديسمبر.
“واااااه!”
“جنون! لقد انتهينا!”
“نجونا هَذا العام أيضًا!”
“أمي، لقد فعلتُها…!”
رغم أنْ الوقت كان متأخرًا، فقد انطلقت هتافات فرحٍ تصدح كأنها ستهدمُ القصر مِن الطابق الثاني للجناح الغربي، وكأنَّ الجميع قد نسوا آداب السلوك للحظات.
كان التحضير لحفل رأس السنة، المقرر عقده في قاعة الحفلات بالقصر الرئيسي يومي الثاني والثالث مِن يناير، قد انتهى باستثناء المراجعة النهائية، وتم لتوّه الانتهاء مِن تقرير نهاية العام، ما يعني التحرر أخيرًا مِن العمل المرهق.
طبعًا، بعد راحةٍ قصيرة، سيضطرون للعودة لمراجعة مستندات ميزانية بداية العام وخطة التشغيل المُفترض تقديمها حتى نهاية يناير، لكن لَمْ يكُن هُناك طاقةٌ للتفكير في المستقبل حاليًا.
المساعدون والإداريون، الذين لَمْ يتبقَ فيهم أيُّ طاقة، اكتفوا بالابتهاج بنجاتهم مِن مستنقع التقرير الختامي للعام، واحتضنوا زملاءهم الذين كابدوا معهم آلام الحياة والموت حتى وقت قريب.
وكانت ليتيسيا أيضًا محاطةً بذراعي إيميلي، كأنها دمية.
حتى تلكَ التي كانت تبدو صارمةً وباردة الملامح، غمرت وجهها الآن ملامحٌ مِن الطيبة، وكأنها مستعدةٌ لتغضّ الطرف عن شطحات دييغو هَذهِ اللحظة فقط.
“شكرًا جزيلًا لكِ، ليتيسيا! لقد كنتِ عونًا كبيرًا حقًا!”
“مع أنني لَمْ أستطع تقديم الكثير بسبب عملي الأساسي، لكنني شاكرةٌ لكِ على هَذا الكلام.”
ردّت ليتيسيا بتواضع، إلا أنْ مَن شاهدها وهي تعمل لَمْ يشاركها هَذا التقدير.
فقد أدت عمل شخص، بل شخصين على الأقل، بكُل كفاءة.
كانت ليتيسيا تمتلكُ قدرةً على القراءة السريعة، ليس للكتب فحسب، بل حتى للمستندات، إضافة إلى موهبة في حفظ الأرقام المكونة مِن 6 إلى 8 خانات بسرعة.
فبعد أنْ أنهت مستندات البرج الأحمر في وقتٍ مبكر، بدأت في التهام الأعمال الصغيرة الأخرى، تلكَ التي كانت مرهقةً ومتفرقة، وأكملتها بسرعة.
فرغم أنها لَمْ تكًن مهماتٌ ذات أولوية، إلا أنها كانت ضرورية، وكان لا بد مِن إتمامها، وقد أنجزتها كأنَّ جنية التنظيم قد مرت مِن هُناك، ما أدى إلى تسريع وتيرة عمل الآخرين.
وبفضل ذَلك، تمكنوا مِن إنهاء تقرير نهاية العام هَذا، الذي كان الأكبر مِن حيث كمية المستندات، بأمان وسلاسة.
كما أنْ حسّ ليتيسيا الرفيع ودقتها الناتجة عن إدارتها لحياة داخل أسرةٍ نبيلة مرموقة، ساعدا كثيرًا في التحضيرات لحفل رأس السنة.
[ما الزهور التي سنزين بها قاعة الحفل؟ هل يكفي أنٌ نضع شيئًا جميلًا وعشوائيًّا؟]
[لا يجوز! ألا تذكر ما قاله الكونت ميسينا المرة الماضية؟ ألمح إلى أنْ ذوق مَن يخدمون الدوق لا يتوافق مع ذوقه.]
[يا لهَذا الهراء! يظن أنْ قاعة الحفل غرفة ملابسٍ مصممةٌ على ذوقه الشخصي أم ماذا؟]
[في العاصمة، تُزين عادةً قاعات حفلات رأس السنة بزهور مثل البوينسيتيا، أو الفريزيا، أو الجربيرا. فماذا لو خلطنا واحدةً مِن هَذهِ الزهور مع زهرة تُستخدم غالبًا في الغرب في هَذا الوقت مِن السنة؟]
[اقتراحٌ جيدٌ بالفعل.]
قدّمت مقترحاتٍ ذكية بشأن الزهور والإكسسوارات التي تزيّن بها القاعة.
[تذكرون الفوضى التي حصلت عندما أكل الابن البكر للبارون مويسرا كوكيز تحتوي على الفول السوداني، وأُصيب بحساسيةٍ وضيق تنفس؟ هل علينا أنْ نطلب هَذهِ المرة عدم استخدام الفول السوداني أو مسحوقه في الحلويات؟]
[مِن غير المنطقي أنْ نغير قائمة الطعام بالكامل بسبب إهماله الشخصي.]
[ما رأيكم بوضع رموزٍ مصورة أسفل الأطباق تنبّه إلى الأطعمة التي يجب الحذر منها، مثل الفول السوداني، أو الخوخ، أو الطماطم، أو البيض، أو الحليب؟]
[فكرةٌ ممتازة! الصور أوضح مِن النصوص، وستُفيد حتى أولئكَ الذين يعانون مِن أعراضٍ مشابهة دوّن علم.]
لقد ساهمت كذَلك في تقديم حلولٍ مُناسبة للمشكلات التي كان فريق الشؤون الداخلية يواجهها.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 41"