حين دخل إيمريك إلى مكتب الإدارة بابتسامةٍ مشرقة، بدا الجميع مِن المساعدين والسحرة على حدٍّ سواء مذهولين تمامًا.
“ما الذي جاء بكَ إلى هُنا…؟”
سألت كارينا، التي تقدّمت نحوه بوجهٍ مصدوم كما لو أنها لَمْ تسمع شيئًا مُسبقًا، وانحنت لهُ بأدب. أما جيرارد، الذي كان يقفُ خلف إيمريك، فقد نظر إليّها بنظرةٍ مليئة بالشفقة.
سواء كانت هي أم هو، فرغم ما يبدوان عليه مِن مناصب لائقة كمساعدين أو رؤساء فرق، إلا أنْ الحقيقة لَمْ تكُن سوى قشرةٍ براقة تخفي ما هو هزيل.
فكلما ارتفعت رتبة المساعد، زادت احتمالية اطّلاعهِ على الجوانب التي لا يرغبُ أحدٌ برؤيتها مِن شخصية سيّده المُتقلبة. وهَذا يعني، ببساطة، أنه كان عليهما المشاركة في تمثيل ذَلك السيّد، سواء أرادا أم لا، والتماشي مع أهوائه وكأنهما موهبتان مسرحيّتان.
ومع ما اكتسباه مِن خبرة في هَذا المجال، فقد يتمكنان، إنْ تقاعدا مبكرًا، مِن الانضمام إلى فرقةٍ مسرحية وبدء حياةٍ ثانية كممثلَين.
“لا أنوي إجراء أيِّ تفتيش أو إلقاء ملاحظات لا طائل منها.”
قال ذَلك وكشف عن مدخلٍ بُعدي.
مساحةٍ غريبة يمكنها احتواء أيِّ شيء عدا الكائنات الحية.
ولأن إنشاء هَذا النوع مِن الفضاءات يتطلبُ مهاراتٍ سحرية متقدمة لا يمتلكها سوى عددٌ قليل مِن السحرة، لَمْ يستطع أيٌّ مِن السحرة العاملين في المكتب أو حتى الزائرين مِن أجل الشكاوى أنْ يحوّلوا أنظارهم عنه.
أدخل إيمريك يده في الفضاء البُعدي وأخذ يُخرج صناديق لا تنتهي. كانت وجباتٍ خاصة أعدّها طهاة الدوقية منذُ الصباح.
أطعمةٌ مصنوعة مِن مكوناتٍ نادرة مثل المأكولات البحرية والفواكه الفاخرة التي يصعُب تذوقها في الغرب، وُضِعَت بطريقةٍ منظمة ومغرية داخل صناديق الطعام وكأنها لَمْ تتحرّك أبدًا.
“جئتُ فقط لأحضر لكم وجبة غداء. أعلم أنْ طعام طعام البرج الأحمر لذيذ، لكن التغيير له طعمهٌ المميز، أليس كذلك؟”
“بلى، شكرًا جزيلًا! لكن يبدو أنْ الكمية كبيرةٌ على موظفي الإدارة والمساعدين فقط.”
“آه، عندما وصلت لَمْ أكُن أعلم كم عدد المراجعين الموجودين، لذا أعددتُ كميةً وفيرة. فليأخذ كل مَن يريد صندوقًا.”
ردّ إيمريك بخفةٍ وروحٍ مرحة.
وبعد خمس دقائق، اختفت أكثر مِن ثلاثين وجبة كانت قد رُتّبت بدقةٍ في ركن مِن المكتب دوّن أنْ تترك أثرًا.
“والآن، فلنذهب لتناول الطعام.”
انتقل المساعدين والسحرة العاملون في المكتب، بمِن فيهم ليتيسيا، إلى غرفة الاستراحة.
وهُناك، وُضِعَت على الطاولة الطويلة والعريضة صناديق الطعام ذاتها، بالإضافة إلى صناديق مليئة بالمكرون، والداكواز، والبسكويت، وغيرها مِن الحلويات اللذيذة.
“أحسنتم جميعًا، شجّعوا أنفسكم بتناول ما لذّ وطاب، وواصلوا بذات الهمّة في فترة ما بعد الظهر.”
“شكرًا على الطعام، يا صاحب السمو!”
ونظرًا لطبيعة صناديق الطعام العملية، كان الطبق الرئيسي عبارةً عن شطائر ستيك مقطّعةٍ بحجمٍ مناسب مِن اللحم والخضار، وقد كان اللحم طريًّا لدرجة أنه يذوب في الفم.
“ألَن يكون مِن المحزن أنْ أمرّ هُنا وأوزّع الطعام ثم أغادر فحسب؟ أليس هُناك ما يزعجكم في العمل أو ترون أنه بحاجةٍ إلى تحسين؟”
“كل شيء ممتازٌ بفضل اهتمامكَ الدائم، يا صاحب السمو!”
أجاب رانديل أولًا بعينين تلمعان.
“أنا راضٍ تمامًا عن بيئة العمل. وبفضلكَ، عائلتي تعيش في منزلٍ جميل.”
“وأنا أيضًا، أرتاح في مكان العمل، والمنزل كذَلك.”
وعندما أدلى بيير ورودريان بتعليقاتٍ مماثلة، شعرت ليتيسيا أنه يجدر بها أنْ تقول شيئًا هي الأخرى.
وما إنْ فكرت في ذَلك، حتى التقت نظراتها بنظرات إيمريك مُباشرةً.
‘لَمْ أُحضّر ما أريدُ قوله بعد.’
لكن لسانها تحرّك تلقائيًّا بدلًا مِن عقلها الذي توقف فجأةً كما لو كان مسحورًا.
“منذُ صغري، كان حلمي أنْ أعمل وأنا أُظهر كامل قدراتي. والآن بعد أنْ تحقق ذًلك الحلم، أشعر بسعادةٍ غامرة، وأنا… ممتنّةٌ لكَ بصدق، يا صاحب السمو.”
رمش رودريان بعينَين مثقلتين بالحيرة، إذ لطالما استغرب كيف كانت ليتيسيا تبدو مستمتعةً بعملها.
لا بأس أنْ يكون المرء ممتنًّا لحُسن المعاملة… لكن أليس مِن الطبيعي أنْ يتمنى المرء دائمًا أنْ يعمل أقل؟
‘أكرهُ العمل. أحب اللعب أكثر بمئة مرة.’
ورغم أنْ بيير ورانديل لَمْ يذهبوا بعيدًا مثل رودريان، فإنهم – إلى جانب كارينا وجيرارد – لَمْ يستطيعوا فهم كيف يُمكن لشخصٍ أنْ يحلم بالعمل مثل ليتيسيا.
‘أنا أفضل اللعب مع ابنتي ألف مرةٍ أكثر…’
‘لا بد أنها قالت ذَلك لتكسب رضا صاحب السمو! كان عليّ أنْ أقول شيئًا أروع!’
‘حسنًا، على الأقل لستُ مدمن عمل!’
‘رُبما كونها غريبةً قليلًا مِن ناحية التفكير يجعلها مناسبةً تمامًا لصاحب السمو.’
وبينما كان الجميع يفسّر كلمات ليتيسيا بطريقتهِ، بدا وجه إيمريك وكأنه تجمّد فجأةً.
لاحظ الجميع هَذا التغيّر النادر في تعبيره، وبدؤوا بمراقبتهِ بقلق، باستثناء جيرارد، الذي أدرك تمامًا ما الذي يشعر به.
‘إنه كمَن يرى نقاء الشيطان.’
وكما خمّن جيرارد، فقد وقع إيمريك في حُبّ ليتيسيا مُجددًا.
‘كيف يُمكن لإنسان أنْ يلمع بهَذا الشكل وتبدو عليه البراءة والجمال؟’
كان يظُن أنه قد أحبها بالفعل مِن قبل…
لكنه لَمْ يكُن يعلم أنْ أمامه فرصًا أخرى ليقع في حبها مِن جديد.
في هَذهِ المرحلة، لَمْ يكُن وجود ليتيسيا في حياة إيمريك سوى جريمةٍ بذاتها.
بالطبع، التهمة كانت ‘السرقة’، سرقة قلبهِ دوّن رحمة.
قبل أنْ يلتقي بليتيسيا، لَمْ يكُن مِن الصعب عليه أنْ يُظهر تعابيرًا مناسبةً أمام الآخرين. أليس الأمر مُجرد تحريكٍ بسيطٍ لعضلات الوجه بوعي؟
لكن أمامها، لَمْ يعُد قادرًا على التحكُّم لا بقلبهِ ولا بعضلات وجهه.
وبينما كان يشعرُ بسخونةٍ تتصاعد إلى أذنيه ومؤخرة عنقه دوّن إرادته، اندفع إيمريك بهدوءٍ خارج غرفة الاستراحة، حتى إنّه لَمْ يكُن بحالةٍ ذهنية تُمكّنه مِن استخدام سحر الانتقال اللحظي.
“آه… هل قلتُ شيئًا خاطئًا؟”
سألت ليتيسيا بوجهٍ قَلِق، وكان جيرارد على وشك أنْ يُجيب: “لا، لقد أصبتِ قلبهُ إصابةً مباشرةُ بدرجةٍ كاملة”، لكنه بالكاد كتم نفسه.
وفي هَذهِ المرحلة، لَمْ يعُد مُمكنًا للعاملين في مكتب الإدارة مِن السحرة، الذين يتحلّون بحدٍّ أدنى مِن الذكاء الاجتماعي والفطنة، أنْ يتجاهلوا ما يحدث.
فقد أصبح واضحًا أنْ إيمريك، سيد عائلة غارسيا ودوق الغرب، قد وقع في حُب تلكَ الفتاة ذات الشعر الأسود بصدقٍ عميق.
‘زميلتي في العمل قد تُصبح سيدتي في المستقبل؟ أوه، بما أنني أحبُ ليتيسيا وهي تُحبني أيضًا، فالمستقبل مشرق!’
‘يُحب الدوق امرأةً مدمنةً على العمل… ملاحظةٌ مهمة.’
‘بخلاف ذاكرتها الجيدة وسرعة بديهتها، لا تملك شيئًا يُذكر، فلماذا اختارها؟ هُناك سيداتٌ مِن عائلاتٍ أعرق بكثير!’
‘هل ما زال دوس على قيد الحياة؟ يبدو مصدومًا.’
‘سأخبر كراودي فقط! إنًّ خطيبة الدوق تعمل هُنا!’
‘لكن… كيف تعرفا؟ هل أحبّها مِن النظرة الأولى أثناء مقابلة التوظيف؟’
‘متى ستُدرك ليتيسيا مشاعر الدوق؟’
وهَكذا، كان وقت الغداء مليئًا بإبداعات خيالية لا تنضب، في رؤوس الجميع.
***
ليتيسيا، التي كانت الوحيدة التي شعرت بالقلق، سألت إيمريك بحذرٍ ما إنْ عاد:
“سيدي، هل أنتَ بخير؟ هل أخطأتُ في شيءٍ ما؟”
“لا! لقد عضضتُ على فلفلٍ حار أثناء أكل التشاب ستيك، وكان حارًا جدًا فحسب. سأحزن إنْ فسّرتِ الأمور بطريقةٍ خاطئة.”
بعد أنْ تمكّن أخيرًا مِن تقديم تفسيرٍ منطقي لسلوكه الغريب، أنهى إيمريك طعامهُ بسرعة وتوجّه إلى مكتب نائبة رئيس البرج.
لَمْ يستطع إيمريك منع زاوية فمهِ مِن الارتفاع أمام هَذا الهجوم المباغت.
“يقولون إنْ مِن يتقدّم في السنّ تزداد مخاوفهُ التافهة… حتى سحركِ القوي لا يُخفي عمركِ الحقيقي.”
وبعد أنْ تبادلا كلماتٍ لاذعة فور اللقاء، جلس الاثنان يستمتعان بشايٍّ عطِر، وساد صمتٌ مريح غير محرج في المكتب.
“ذهبتُ مؤخرًا إلى إنتيرا.”
بدأت ميتيلونا الحديث بهدوء.
“أليست تلكَ المنطقة ةلمليئة بالغابات، والوحوش، والمستنقعات فقط؟”
في ذاكرة إيمريك، لَمْ تكُن تلكَ المنطقة سوى منطقةٍ جبلية فيها مستنقعٌ كبير.
“لكن اكتشفتُ شيئًا آخر هُناك.”
وبما أنّها قد دخلت في صلب الموضوع، غيّر إيمريك ملامحهُ قليلاً وأخذ هيئةً منصتٍ جاد.
“سحرٌ أسود.”
غالبًا ما يخلطُ الناس العاديون، الذين لا يعرفون الكثير عن السحر، بين الطاقة الملوّثة داخل الوحوش والسحر الأسود. لكن الحقيقة أنْ السحر الأسود قوةٌ أعلى مِن الطاقة الملوثة.
إنّه يقف على النقيض مِن السحر الذي يستخدمُه السحرة العاديون.
ومِن مزايا السحر الأسود أنّه يمكنه، حتى إنْ كان الساحر في مرتبةٍ منخفضة، أنْ يُظهر قوةً تُعادل ما يفعله السحرةٌ رفيعو المستوى.
لكن كما هو الحال مع كُل قوة، هُناك ثمنٌ يجبُ دفعه. فكلما استخدم الشخص السحر الأسود، ازداد تعطُّشه للدماء وتحوّل تدريجيًا إلى وحش تُسيطر عليهِ رغبة التدمير.
“… ألستِ متوهّمة؟ المنطقة مليئةٌ بالوحوش التي تقتل بعضها، والمستنقعات تحبس طاقاتهم الملوثة.”
ووفقًا للكتب السحرية القديمة، فإنَّ كلًّا مِن الطاقة الملوثة والسحر الأسود ينبعان مِن الدمار والموت، ولذَلك تبدو طاقتهما متشابهة.
لكن ميتيلونا هزّت رأسها بحزم.
“لا، لَمْ أتوهم. وستعرفُ بنفسكَ حين تراه. هَناك فرقٌ في التركيز والعمق بين الطاقة الملوثة والسحر الأسود.”
“كأنكِ تقارنين بين الحليب العادي والحليب المُخفف بالماء؟”
وما إنْ قدّم إيمريك هَذا التشبيه، حتى حدّقت فيهِ ميتيلونا بصمت.
“مِن طريقتكَ في الحديث، يبدو أنكَ تعرّضتَ للسحر الأسود مِن قبل.”
ثم بدأت ملامحُها تلين قليلاً، وكأنها كانت تشكّ في أنْ إيمريك رُبما جرب السحر الأسود بنفسه.
ابتسم إيمريك ساخرًا.
“هاه، تشكّين في أنني مارستُ السحر الأسود ومع ذَلك سمحتِ لي بالدخول؟ لا بد أنْ أُشيد بشجاعتكِ.”
“أجل، أنا جريئةٌ نوعًا ما.”
ردّت ميتيلونا بخفةٍ، وأضافت وكأنها تبرّر:
“لأنّ أحد الشروط الأساسية لتعلّم السحر الأسود هو ارتكاب جريمة قتل، لا بد أنْ أضع في اعتباري كُل الاحتمالات.”
فإيمريك، كوريثٍ شرعي لدوقية غارسيا، قتل زوجة أبيه وعمه اللذين تمرّدا عليه. وعلى الرغم مِن أنه لَمْ يقصد، فقد شارك في الحرب وقتل عددًا لا يُحصى مِن الأعداء.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 32"