الإمبراطورية تكرم وتمجد الأرشيدوق كريسميل، لكنه في جوهره كان مليئًا بالعيوب الخفية.
لم يكن سوى حامل لقدرات يخشاها الجميع بسبب نسبه فحسب.
قوة لم يطلبها أبدًا، وكان ثمنها لعنة من الألم الرهيب.
“لا يمكنني أن أسمح لمثل هذه اللعنة أن تستقر في جسدك.”
إن أنجبت إيسيل طفلًا له، فإن هذه اللعنة ستنتقل إليه.
وعندئذٍ، سيتعين على ذلك الطفل أن يحمل كل الألم الذي عاناه هو، بينما تقف إيسيل إلى جانبه تشهد ذلك.
ستستخدم إيسيل كل قواها العلاجية لمعالجة الطفل، كما فعلت معه من قبل، ولن تستمع إلى أي محاولة لردعها.
لم تبخل بقدراتها عليه، فكيف ستدع طفلها يعاني بمفرده؟ كان ذلك واضحًا دون الحاجة إلى رؤيته.
ثم ستصاب بمرض النوم أسرع من أي شخص آخر يمتلك قوة علاجية، وهذا ما أراد منعه…
لكن أمنيته أصبحت بلا معنى أمامه وهي ترقد الآن.
“لقد أكد الطبيب بالتأكيد أنه لن تكون هناك مشكلة…”
لقد اتخذ تدابير منع الحمل ليجنب معاناة إيسيل والطفل ذلك الألم.
لم يشك في فعاليتها، فقد ضمنها أطباء القصر المهرة.
“لوم الطبيب لا يصح، فـ لوسي جميلة جدًا.”
كان لدى آردين الكثير ليسأله لإيسيل عندما تستيقظ.
متى عرفتِ بحملكِ ولمَ رحلتِ؟ لمَ لم تعودي بعد الولادة؟ كيف ربيتِها بمفردكِ؟
منذ اللحظة التي غادرتِ فيها هذا القصر، لم يمر يوم دون أن أتسائل.
حتى قبل أن يعرف لوسي، كان لديه ولدان بالفعل.
لكنه اكتفى بإحضارهما فقط.
في الحقيقة، لم يكن آردين يعرف شيئًا عن تربية الأطفال.
نشأ في عائلة الأرشيدوق عن طريق عنايته بنفسه، فظن أن الجميع يكبرون هكذا.
كان يعتقد أن دعم الأطفال فيما يريدون وتوفير احتياجاتهم بلا تحفظ كافٍ.
هل الأمر مختلف لأنها فتاة؟ هل يجب تربية الأبناء من الدم بشكل مختلف؟
أوصاه إيميت بالحديث مع لوسي، لكنه شعر بالحيرة حيال كيفية البدء.
لم يكن بإمكانه أن يطلب من طفلة أن تُبلغه عن كيف عاشت حياتها سابقًا.
سيُبكيها مرة أخرى، لا محالة.
كان معتادًا على إصدار الأوامر، لكن محادثة طفلة صغيرة بدت له عالمًا مجهولًا.
ما الذي يجب الحذر منه؟ كيف يجب أن يتحدث؟ هل هناك طريقة معينة؟ أراد أن يسأل إيسيل.
كان يشعر أنها، التي ربت لوسي بذكاء، تعرف الإجابة.
ليتجنب لقب “العم”، كان عليه أن يفعلها بشكل أفضل المرة القادمة.
لكنه لم يكن واثقًا من مقدرته بأن ألا يُبكيها مجددًا كما حدث اليوم.
في الحقيقة، لم يكن آردين يفهم سبب بكاء لوسي.
مما جعله يشعر أكثر بالضياع في متاهة.
تنهد آردين بعمق، تعلو شفتيه ابتسامة خفيفة.
“إنها تشبهني، فلمَ تبدو جميلة هكذا؟”
ضحك آردين بخفة لعجبه من كلامه.
كانت ملامحها مطابقة له تمامًا، لكن لوسي كانت لطيفة وجميلة.
لم يرَ وجهه يومًا بهذا الشكل، مما جعل الأمر غريبًا.
تعبيرها المكتئب كأنه مليئ بالشكاوى، عيناها المتسعتان نحوه، عضها لشفتيها عابسة—كل ذلك كان لطيفًا.
كان يؤسف له أنه لم يرَ ابتسامتها بعد.
لو كانت قريبة، لربما لمس خديها بلطف.
هل كانا سيتقربان لو رافقها منذ ولادتها؟
لو كان الأمر كذلك، لما قالت إنها ستغادر هذا المكان.
تذكر آردين كلمات لوسي له وهز رأسه.
إن كان ذلك تهديدًا، فقد نجحت بالفعل.
في تلك اللحظة، تجمد جسده وتخبط في رد فعله.
“الطفلة شجاعة وذكية جدًا. لدرجة أنها تضربني.”
في عمر يتوجب عليها فيه الأكل واللعب، كانت تخطط لكيفية رعاية والدتها.
ضربته لأنه لم يطعها، ثم خرجت تبكي بعد أن فعلت ذلك.
“يبدو أن الأطفال تقربوا من بعضهم.”
هل كان ذلك ميزة؟ لم يبد إيركين وماريليو مرتبكين مع لوسي.
وإلا لما جاءوا إليه اليوم بعزيمة لمواجهته.
“يجب أن نجد من أبكى لوسي.”
قال إيركين ذلك أمامه دون أن يتجنب عينيه، وهو الذي كان دائمًا ينكمش أمامه.
أما ماريليو الذي رافقه، فكان يشد قبضتيه مستعدًا ليضرب الجاني في أي لحظة.
قبل أن يتمكن من التبرير، أضاف إيركين بنبرة متألمة.
“قالت “عم”. إذًا، رجل بالغ هو من أبكى لوسي.”
“لقد كان أنا.”
خشي آردين أن يرسما صورة للمطلوب، فاعترف على الفور.
“هل يعني ذلك أن سموك أبكى لوسي؟”
نظر إيركين إليه كمن يرى مجرمًا، بنظرة جريئة.
تفاجأ ماريليو وأرخى قبضتيه بوجه مذهول، عيناه ترتعشان بلا هدف بعد أن فقد اتجاه غضبه.
بإيماءة تأكيد واحدة، ذهل الابنان كأنهما لا يصدقان.
كانت المرة الأولى التي يرى فيها آردين خيبة أمل في عيني أحدهم أمامه.
بقدراته الاستثنائية، لم يخيب ظن رجاله أو حتى إمبراطور بيراكا من قبل.
بدا أن لدى إيركين الكثير ليقوله، لكنه اكتفى بعض شفتيه ثم انصرف.
“لا تُبكيها!”
تردد ماريليو ثم صرخ “لا” بنبرة مشحونة بالعاطفة قبل أن يغادر، وكان ذلك تحذيرًا على الأرجح.
“يبدو أن الجميع تقربوا إلا أنا.”
تذكر آردين أحداث النهار وابتسم بلطف من زاوية فمه.
الآن فقط، كانت تلك المرة الأولى التي يأتي فيها إيركين وماريليو معًا إلى مكتبه.
وكان ذلك من أجل لوسي.
بما أن المكان لا يزال غريبًا عليها، كان مطمئنًا لوجود ابنيه يعتنيان بـ لوسي.
“لذا، يا إيسيل.”
لمس آردين ظهر يد إيسيل بإبهامه.
“لا تقلقي بشأن شيء، واستيقظي بسرعة بعد أن تتعافي.”
ارتجفت عيناه دامعة مع همهمة أمنيته الصغيرة.
أمسك يد إيسيل بكلتا يديه ووضعها على جبهته.
أريد رؤية عينيكِ الجميلتين.
أشتاق إلى ابتسامتكِ النقية.
لا بأس إن غضبتِ أو شتمتِني، فقط أريد سماع صوتكِ.
أراد آردين التحدث إلى إيسيل.
أراد أن يشعر أنها على قيد الحياة بكل ماتعنيه الكلمة.
***
وقفت فيريا أمام المرآة، تدور يمينًا ويسارًا.
كانت قد بدلت ثيابها ثلاث مرات، لكن الفستان الأزرق لم يرضِها أيضًا.
بشعرها وعينيها الحمراوين الفاقعين، لم يكن العثور على فستان يناسبها أمرًا يسيرًا.
حتى الملابس التي كانت ترضى عنها عادةً بدت اليوم باهتة.
“لا يصلح. سأعود إلى ذاك.”
أشارت فيريا أخيرًا إلى الفستان الأخضر الذي اختارته أولًا.
بإيماءة واحدة، سارعت آنا لخلع ثياب الآنسة وألبستها الفستان الأخضر مجددًا.
نظرت فيريا إلى المرآة للحظات تتفحص نفسها، ثم ضيقت المشد.
كشف خط العنق البسيط عن صدرها الأبيض الناعم، ليبدو الفستان مكتملًا أخيرًا.
ابتسمت فيريا بزاوية فمها، ونظمت خصلات شعرها المتموجة للخلف، ثم غادرت الغرفة.
كان اليوم الثالث منذ عودة الأرشيدوق آردين.
لا بد أن أحدهم أخبره بتواجدها هنا، لكن غرفتها ظلت هادئة.
إن لم يأتِ لزيارتها، فستذهب هي إليه.
لم يمر وقت طويل على عودته، فمن الطبيعي أن يكون مشغولًا.
لم تشعر أن ذلك يمس كبرياءها.
إن بادرت هي بالزيارة وهي متفرغة، فستوفر عليه الوقت، وسيراه تصرفًا مرنًا.
سيراه سلوكًا نادرًا ومميزًا لابنة عائلة نبيلة مرموقة.
“بالطبع يجب أن يكون كذلك.”
بضحكة ساخرة، بدأت فيريا تنزل الدرج.
منذ عودة تلك المرأة المسماة إيسيل، تغيرت السيدة أودري بشكل ملحوظ.
كان التغيير سلبيًا بما يكفي ليلاحظه حتى طفل.
لم يعنِ فيريا تغير ولاء السيدة.
فهي كانت تنوي الزواج من الأرشيدوق آردين على أي حال.
رأت فيريا إثيليد الأرشيدوق آردين لأول مرة منذ ثلاث سنوات في مأدبة إمبراطورية
كانت أول مأدبة إمبراطورية لفيريا بعد بلوغها للتو.
عندما رأت قاعة المأدبة الإمبراطورية لأول مرة، أذهلها تألقها وجمالها.
أحبتها لدرجة تمنت زيارتها يوميًا.
الزخارف الفاخرة، الجدران المزينة بالذهب والجواهر، وحتى الستائر كانت من الحرير الثمين الذي ينزلق كنسيم بين الأصابع.
نسيت فيريا واجب التعرف على النبلاء الآخرين والبحث عن زوج محتمل، مفتونة بجمال القاعة نفسها.
ثم سمعت همسات تتسرب من حولها.
كانت هذه القاعة لا تُفتح أبوابها بسهولة، وربما يحضر الأرشيدوق آردين المأدبة.
قالت سيدة نبيلة كبيرة في السن إن حضور مأدبة في هذه القاعة الرئيسية يثير مشاعر خاصة حتى لها.
شعرت فيريا أنها محظوظة لحضور مثل هذه المأدبة.
ثم جعلت كلمات السيدة التالية قلبها يخفق بقوة.
“هذا المكان جميل، لكن قاعة مأدبة عائلة كريسميل أنيقة حقًا.”
رغم أنها كانت متحمسة بالفعل لهذه القاعة، شعرت بأنفاسها تتسارع.
كلمات سيدة حضرت قاعات مأدبة عديدة زادت من توقعاتها.
متى ستراها؟ تمنت أن تراها ولو مرة قبل موتها.
كانت تعرف عظمة عائلة كريسميل، فدعت في نفسها كأمنية.
على عكس السابق، أصبحت العائلة الأرشيدوق منغلقة ولم تُقم مأدبات منذ زمن.
كانت السيدات النبيلات يتبادلن الحسرة على ذلك.
ثم انفجر قلبها المتحمس كالألعاب النارية عند ظهور الأرشيدوق آردين.
هو الذي نادرًا ما يظهر مرة في السنة، حضر هذه المأدبة.
في أجمل وأروع قاعة مأدبة في الإمبراطورية، التقت فيريا بالأرشيدوق آردين الذي يصعب رؤيته.
شعرت فيريا أنه القدر.
كان الأرشيدوق آردين، الذي تجاوز سن الزواج بكثير، لا يزال العريس الأول الذي تحلم به كل نبيلة في الإمبراطورية.
عندما رأته بعينيها، أدركت أن ذلك لم يكن بسبب عائلته فحسب.
ظهر الأرشيدوق آردين كبطل من قصة خيالية، كأن الضوء يسلط عليه وحده.
انحنى له كل النبلاء تعظيمًا، وتقدم بثقة كأن ذلك أمر مألوف له.
منذ ذلك اليوم، بدأت فيريا تحلم.
تحلم بالسير جنبًا إلى جنب مع الأرشيدوق آردين المهيب في قاعة مأدبة أنيقة وجميلة.
لم يعد ذلك بعيدًا.
هدأت فيريا قلبها المتوتر ونزلت إلى القاعة.
“قودني إلى سمو الأرشيدوق.”
أمرت فيريا رئيس الخدم الذي صادفته.
كان إيميت في طريقه لإبلاغ سيده، فرفع نظارته بإصبعه الأوسط وابتلع تنهيدته.
التعليقات لهذا الفصل " 23"