كُرْ.
ابتلع ديلين ريقه وهو محاصر بين ذراعي ليتيا.
لم تكن ليتيا قوية الجسد، ومع ذلك كان ثمّة شيء في قبضتها لا يُقاوم، لا يعرف ديلين كيف يرفضه.
“اسمي ليتيا، وليس يا آنستي. ليتيا!
هيا، جرّب أن تناديني الآن، ليتيا!”
نطقت ليتيا اسمها ببطء وحزم، كل حرفٍ منها كان يُرسم في الهواء كما لو كان نقشًا.
ليتيا. ليتيا إتوار.
تألّقت عيناها المتّقدتان كجمرة مشتعلة، فاحمرّ وجه ديلين وأشاح بصره عنها.
“كيف لي أن أجرؤ… أن أنطق باسم النبلاء هكذا بلا إذن؟”
ما إن سمعت ليتيا صوته المرتجف حتى أدركت أنّ جلسته تلك كانت فوضويّة فعلاً.
غير أنّ ما أقلق ديلين لم يكن جلسته، بل نظراتها الجريئة المباشرة التي أسرت قلبه وأربك حواسه.
“هاه، لن ألتهمك. لا تقلق، لن أطلب منك مجاملةً أو خدمةً فاسدة. فقط… قل ليتيا، وانتهى.”
وحين سحبت ذراعيها للخلف وتراجعت قليلًا، انتشر فراغ بارد في المكان كأن شيئًا خفّ.
في تلك اللحظة راود ديلين دافعٌ غريب ليمسك بيدها من جديد، لكنه كبح نفسه بصعوبة.
“…ليتيا.”
ابتسمت ليتيا ابتسامة مشرقة، وقد ارتسم على وجهها فخر خفيف.
مدّت يدها وأخذت يد ديلين، تربّت على ظهرها برفق كما لو أنه أنجز شيئًا عظيمًا.
“هاه، لا عجب أن الحاكم قد أبدعك بعناية. صوتك رائع، حتى اسمي يلمع حين تنطقه.”
“ليس كذلك.”
“الشقّ الأوّل أم الثاني؟”
“الأوّل بالطبع.”
رفع ديلين رأسه مسرعًا وهو يجيب.
وبسبب بشرته الفاتحة، بدا الاحمرار يتسرب من عنقه حتى أذنيه.
خشيت ليتيا أن يُساء فهم الموقف، فابتعدت قليلًا كي تهدّئ الجوّ.
“همم. يبدو أنّ معايير الجمال عند المعبد تختلف. لو قيل إنك تجسّد وجود الحاكم لما شككت.”
“أليس مظهري ضعيفًا أكثر من اللازم؟”
بالفعل، كان ديلين من النوع الجميل الرقيق.
هيئته لا توحي بالقوة، لكن وجهه يحمل حزنًا عميقًا، كأنّ الدموع على وشك الانهمار في أي لحظة.
“أجمل الأسلحة هي الفتنة، تعلم؟ لو كنتُ عدوّك، لكنتُ وقفت مندهشة أمام وجهك، ثمّ أُصاب وأموت مبتسمًا.”
“مستحيل أن يبلغ بي الأمر هذا الحدّ.”
مسح ديلين وجنتيه بظاهر كفّه ليخفف حرارته.
راقبته ليتيا بتمعّن، ثمّ مالت رأسها بتعجّب.
“غريب. كنت أظنك جامد الطباع، لا شخصًا بهذه الرقة.”
“عفوًا؟”
اتسعت عينا ديلين بدهشة حين همست، بينما شهقت ليتيا وأطبقت كفّيها على فمها.
يا إلهي، لقد نطقته بصوتٍ مسموع!
“آه… يبدو أنّ هذا بيت صلاة.”
لحسن الحظّ، وجدت ليتيا مخرجًا للحديث فاستعجلت بتغيير الموضوع.
“سأنتظرك خارجًا ريثما تنتهي من صلاتك.”
“أتودّ أن أخمّن ما الذي جئت لتطلبه من الحاكم؟”
ابتسم ديلين بوقار، وكأنّه فارس يقف أمام محراب.
“الحاكم لا يحقّق الأمنيات، بل هو ذاته النقاء، يرانا فحسب.”
“إذن، ربما لستُ من أهل الإيمان العميق.”
دخلت ليتيا قاعة الصلاة، فيما وقف ديلين أمام الباب كحارس أمين.
كان على وشك إغلاقه عندما سمع صوتها الهادئ من الداخل.
“هناك من منحني السعادة.”
“……”
تبدّلت نبرتها.
صارت رزينة، هامسة، يديها متشابكتان بخشوع، وعينيها مغمضتين في سكينة.
امتلأ قلب ديلين بخشوعٍ غريب، فأغلق عينيه بدوره وسكب شيئًا من طاقته الروحية في دعائها.
وأثار فضوله الشخص الذي منحها السعادة.
“أتمنّى أن يكون ذاك الشخص سعيدًا كما كنت أنا.”
يا لها من صلاةٍ نبيلة.
ابتسم ديلين برفق وتهيّأ ليشاركها الدعاء.
لكنّها أضافت عبارة جعلته يجمُد:
“لذلك، إن أنزلتم عليه ابتلاءً أو عذابًا باسم الامتحان من عند الحاكم…”
“ماذا؟”
فتح ديلين عينيه بحذر، ليجد ليتيا تبتسم له بوداعة.
“سأقتلكم بيدي، واضح؟”
وبإيماءةٍ حادّة مرّرت إصبعها على عنقها، كأنّها تذبح الهواء.
تجمّد ديلين عاجزًا عن الرد.
تلك لم تكن صلاة… بل تهديد صريح كالصاعقة!
“آه، ما أصفى الذهن! أجواء القاعة تمنح روحًا هادئة فعلاً، أليس كذلك، ديلين؟”
“أ… ماذا قلت للتو؟”
أجابت بابتسامة مطمئنة كأنّ شيئًا لم يحدث:
“فلنعد، أرجوك. أنا دائمًا أضيع في الطريق، كأنني أزوره للمرة الأولى كلّ مرة.”
—
“هذا انهيارٌ في الشخصية!”
ما إن عادت إلى غرفتها حتى صاحت ليتيا بأعلى صوتها تبحث عن إيثان.
كان يجلس هناك بهدوء يحتسي الشاي، فرفع حاجبًا حين رآها.
“أيّ مصطلحٍ غريبٍ هذا؟”
“انهيار الشخصية! ديلين الذي أعرفه ليس جروًا مبتلًا بالخجل، بل صارم، متزن، قائد يحمل شرفه واعتزازه!”
“تنفّسي أولًا قبل أن تموتي.”
جذبها إيثان إلى الكرسي وأجلسها، ولوّح بيده فظهر كوب شاي دافئ أمامها.
لاحظ ارتجاف أصابعها وهي تمسك الكوب، وكأنّها تحاول كبح خوفها.
بدت ثرثرتها المبالغ فيها مجرّد قناعٍ لتغطية اضطرابها الحقيقي.
“أقسم أنّ هذا ليس ديلين الذي أعرفه!”
“بحسب النظام، لم يحدث أيّ خلل في إعداداته.”
حرّك إيثان يده في الهواء كمن يتصفّح شاشةً غير مرئية، ثمّ هزّ رأسه نافيًا.
كلّ شيء في النظام يعمل بسلاسة. لا أثر لأي خلل أو تلاعب.
“يعني أنّ هنالك إعدادًا لم أكن أعلمه؟! لقد رأيت جميع النهايات، ولم يكن في أيّ منها ما حدث اليوم!”
“لا بأس، طالما لم يمسّ محور اللعبة الرئيسي، فالتغيّر مقبول.”
“حقًا؟ ألن يسبّب هذا خللًا لاحقًا؟”
حدّق فيه بدهشة، فابتسم بهدوءٍ تام.
“لم يحدث ما يخالف آلية القصة. بالعكس، قضيت وقتًا ثمينًا مع أحد المرشحين، وهذا من صميم اللعبة.”
استوعبت ليتيا قوله وارتخت ملامحها قليلًا.
كان الأمر مختلفًا عن القصة الأصلية، لكنه لا يخرق الهدف الرومانسي للعبة.
“حسنًا… ارتحت الآن. كنت قلقة.”
“حتى لو حدث خلل يومًا، لا تقلقي. لم نأت بك إلى هذا العالم لإيذائك.”
“حقًا؟”
“جسدك الأصلي بخير، ولم تموتي بالطبع. اعتبري نفسك مدعوّة إلى حفلة قصيرة فحسب.”
“آه… كنت أظن أنّي متّ من الإرهاق.”
ضحكت بخفّة وهي تحتسي الشاي الدافئ الذي سرى دفؤه في جسدها.
“هل يمكنني أن أستريح قليلًا قبل الحلقة التالية؟ أريد أن أتمشّى في القصر، لم أره بعد جيدًا.”
أجالت بصرها نحو النافذة وقد خفّ توتّرها.
كانت تنوي قضاء وقت هادئ قبل بداية الحدث التالي.
لكن ملامح إيثان اكتست بشيء غريب وهو يشير إلى الأعلى:
“تحقّقي من مخزونك، ليتيا.”
“آه!”
اتسعت عيناها ثم أسرعت بتغطية وجهها بكلتا يديها.
“كما ترين، لا تملكين مفتاحًا واحدًا أو قطعة ذهب. ستكتسبينها من المهام، وهي ضرورية للتقدّم.”
شهقت كأن روحها انتُزعت منها.
أن تكون ابنة عائلة أرستقراطية معدمة… أي مصيبة هذه؟
ثم خطر ببالها احتمال مرعب:
“انتظر… المهام؟ لا تقل لي إن عليّ العمل!”
“بلى، ستعملين.”
“هاها… لاااا!”
صرخت في صمت يائس، ممدودة اليدين نحو الفراغ.
‘أنا ابنة كونت! لماذا لا أستطيع العيش مترفة بلا عمل؟ ألا يمكنني طلب المال من والدي؟!’
لكن إيثان ظل على جمود ملامحه:
“المهام متاحة بثلاث طرق كما تعرفين.”
“أعرف…”
“فلتختاري واحدة إذن.”
خياراتها الثلاث: تدريب قتالي، درس آداب البلاط، أو الالتحاق بأكاديمية المملكة.
جميعها كابوس.
تذكرت أول يوم في دروس البيلاتس الذي انتهى بالهرب ذليلًا، وحياتها السابقة كموظفة مرهقة تعيش على الكافيين لتتنفس.
“أوووه…”
“ما بكِ؟”
“أريد فقط أن أكون عاطلة ثرية، أرجوك…”
‘كانت هذه من المفترض أن تكون لعبة استرخاء!
لماذا تحوّلت إلى محاكاة عمل؟!’
التعليقات لهذا الفصل " 6"